إذا كان من السهل على أي دارس للكهرباء تعريفُ المقاومة بأنها خاصية فيزيائية تقيس مدى قدرة المادة على عرقلة مرور شحنات التيار الكهربائي عبرها؛ فإن محاولة وضع تعريف فلسفي جامع مانع لمفهوم المقاومة لهي مسألة أكثر صعوبة مما هي عليه في المختبرات التي تفحص عبور الإلكترونات. فالممارسات الإنسانية، بتداخلها العميق بين الذاتي والموضوعي، وسط نظام معقد من السُلُطات وتوازنات القُوى، قادرة باستمرار على توليد أنماط وأساليب متعددة من المقاومة الجمعية أو الفردية، التي تُعاش كفلسفة حياة ويعاد اختراعها في ممارسات مختلفة. وهنا يمكننا أن نستفيد من دارس الفيزياء الكهربائية في تحديد المبدأ الرئيس الذي تعمل المقاومة من خلاله كردة فعل ضد قوة أو سلطة ما، مطوِّرة حالة من «العناد الإيجابي» تتحول معها من الاستجابة اللاواعية إلى الوعي والتنظيم، وذلك قبل أن تفرض نفسها، هي الأخرى، كسُلطة منشقة تؤسس ببطء لواقع مناهض بديل.

إن المقاومة موقف يبدأ من رفض واقع قائم رفضا معنويا يتجذر بقول: «لا» النافية الناهية في آن معا، تلك الـ«لا» الهامسة التي تكبر شيئا فشيئا حتى تدوي كصرخة غير منظمة من شأنها أن تُعرقل الانسياق العام، أو أن تُعكّر -على الأقل- هيمنته المُطلقة ريثما تُبلور رؤيتها للنضال ضد الواقع المرفوض وتُنظم نفسها في صور وتعبيرات محددة وواعية. ومن الملفت أن يرافق هذه الحالة من الرفض إحساس داخليٌّ بالعودة إلى الذات أو الشوق إليها، حتى لو كانت هذه الذات المنشودة معنىً مُتَوهما. ولا ينمو هذا الشوق إلى الذات إلا في ظل إحساس عميق بالاغتراب عنها. إنها، إذن، لحظة شوق عارم في جو مثالي من الاغتراب الذي ينشأ نتيجة للحياة تحت سلطة قاهرة تمثلت عبر تاريخ المقاومة في سلطة الاحتلال أو الاستعمار أو الاستبداد المحلي. وهنا يتدخل الأدب لتصعيد هذا الحنين وتحويله إلى وقود ثوري.

يمكن النظر إلى المقاومة كدفاع تلقائي عن الذات أو الهوية المهدَّدَة، بصرف النظر عن استمرارها في فعل منظم أو تلاشيها أمام قوة الردع. وهذا تفسير كفيل ليؤشِّر إلى أن المقاومة فعل أخلاقي من حيث المبدأ، قبل أن ترتقي إلى الفعل السياسي. بعبارة أخرى فإنه يمكن القول: إن المقاومة نوع من النضال الأخلاقي ضد القوة/ القوى المتفوقة من الناحية المادية. ولذلك فإن القاعدة الأخلاقية التي تنطلق منها المقاومة تمثل رأسمالها النوعي لإدارة اشتباك طويل الأمد مع التفوق السياسي والعسكري واللوجستي الذي تتمتع به سلطة الواقع (العدو) وهذا ما يُفسر تباهي الخطاب المقاوم بتفوقه الأخلاقي والتشبث بالفضائل التقليدية كالعدالة والشجاعة والتضحية التي تفتقر لها القوى النظامية المهيمنة على الواقع بحساباتها المادية. ولعل هذا التفوق الأخلاقي بحد ذاته، المضاد للتفوق المادي، شافعا كافيا للمقاومة حتى في لحظة انكسارها أمام العدو التي تعترف بها كنوع من «الهزيمة البطولية».

ولكن لا يمكن لحركات المقاومة أن تتحول إلى هيمنة، كما لا يمكن أن تكون امتدادا للسلطة الغالبة إلا لحظة انتصارها التي تكون إعلانا ضمنيا لنهايتها كمقاومة. فجزء من طبيعة المقاومة وحيويتها يأتي من اعتمادها على «قوة المستضعفين» على حد تعبير فاتسلاف هافل، أو بالمهزومين الذين يعدون العدة لمحاولة جديدة للاشتباك مع سلطة الواقع.

ولطالما كانت الأقليات الصغيرة هي البيئات الأكثر ابتكارا واحتضانا للفكر المقاوم. ولن نحتار في تفسير هذا الاستنتاج الذي يبرز كنتيجة مباشرة للظلم المتكرر الذي يلحق بالأقليات عبر التاريخ في مختلف جهات العالم. وبذلك تكون المقاومة سلوكا ضروريا، غريزيا، لمقاومة تمدد المتن على الهامش وطغيان السائد على الاستثناءات القليلة المتفرقة. وفي الوقت نفسه فإن هذا الفكر، المتمرد بالضرورة، لا يولد كحالة جمعية بل يبدأ بتمرد فردي أعزل وموحش يحملنا للعودة إلى نماذج شاخصة في التاريخ الإسلامي، كشخصية أبي ذر الغفاري المنفيّ في الرَّبذة، وإلى تراث لغوي زاخر بالتمرد والثورات، حيث تتردد المقولة المنسوبة للإمام علي بن أبي طالب: «لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه».

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني