أحاول رغم إرادتي الخروج من المشهد المؤلم لواقعنا السياسي والاجتماعي، في ظل حروب ضارية طالت الكثير من أوطاننا العربية، ووجدت أن الاستنجاد بالتاريخ وقضية التعليم قد تكون وسيلة للخروج من هذا المشهد، وعندما راودتني فكرة الكتابة عن التاريخ في مناهجنا الدراسية انتابني شعور بالخوف على مستقبل هذا العلم، الذي يلخص كل أوجاعنا الثقافية بعد أن رحت أسترجع منذ فترة مبكرة من حياتي اهتمام مدارسنا وجامعاتنا بهذا العلم الذي كان يحظى بعناية فائقة، حينما ظهرت أجيال متعاقبة من المؤرخين الكبار منذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، من بينهم الأساتذة شفيق غربال ومحمد فؤاد شكري ومحمد صبري السربوني، وجميعهم كونوا مدرسة كبيرة تخصصت في كل تاريخ العالم العربي.
في مصر على سبيل المثال، كان الدكتور أحمد عزت عبدالكريم أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، قد أدرك أهمية تكوين مدرسة متخصصة في كل تاريخ العرب، لذا وجه تلاميذه إلى دراسة تاريخ كل قُطر عربي كان من بينهم الدكتور عبدالعزيز نوار الذي تخصص في تاريخ العراق، ومحمد خير الذي تخصص في تاريخ الشام، والسيد عبدالعزيز سالم عن اليمن، وجمال زكريا قاسم عن عُمان، ويونان لبيب رزق عن السودان والقرن الأفريقي، بينما كان الأستاذ محمد أنيس يعمل على تكوين مدرسة أخرى في جامعة القاهرة، كان من بينها المرحوم عبدالعظيم رمضان وعلي بركات ورؤوف عباس، وقد توجهت هذه المدرسة الأخرى إلى العناية بتاريخ مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
شكّل هؤلاء جميعا مدرسة علمية منفتحة على كل المعارف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، ولم يكونوا مجرد معلمين للتاريخ وإنما كانوا فلاسفة في علم التاريخ، وبقيت كتاباتهم إلى الآن بمثابة المرشد الأمين لكل من أتى بعدهم من المشتغلين بالتاريخ، الذي تراجعت العناية به في معظم مدارسنا وجامعاتنا العربية، سواء بسبب ضعف المحتوى العلمي، أو بسبب ضعف الأساتذة ورؤيتهم للتاريخ باعتباره مجرد حكايات وقصص، ولعل معلمي التاريخ من خريجي كليات التربية كانوا وراء تراجع العناية بالتاريخ في مدارسنا، بل وفي كل مناهجنا الدراسية، ويمكن أن أقول بضمير مستريح إن سبب ضعف التعليم يرجع إلى ضعف تكوين المعلم، ليس في علم التاريخ فقط وإنما في كل المعارف الإنسانية والعلمية.
خريجو كليات التربية الذين يقضون أربع سنوات ولا يتلقون في المواد الأكاديمية الأساسية ما يزيد عن ٣٥٪ من الساعات الدراسية، بينما يستغرقون في التخصصات المنهجية والتربويّة كعلم الوسائل وطرق التدريس ما يقترب من ٦٥٪ من الساعات التدريسية، والنتيجة كما نلاحظها جميعا هي ضعف مستوى المعلم وضعف مستوى الطلاب، بينما كان المعلم قبل إنشاء كليات التربية يأتي من خريجي كليات العلوم والآداب، بعد أن يحصل على دراسة أكاديمية في التخصصات المختلفة ثم يلتحق بالدراسة في كليات التربية لمدة عام يدرس فيها المناهج وطرق التدريس، بعدها يصبح المعلم مؤهلا تأهيلا علميا وتربويا، لذا كانت كليات التربية التي انتشرت في العالم العربي منذ مطلع الستينيات سببا كافيا لتدهور التكوين العلمي للمعلم الذي يعد حجر الأساس للعملية التعليمية برمتها، وأعتقد أن الخروج من أزمة التعليم تستوجب العودة إلى النظام القديم، من خلال كليات الآداب والعلوم، بعدها يُكتفى بعام واحد في كليات التربية لدراسة المناهج وطرق التدريس.
أتيح لي منذ سنوات طويلة التدريس في كثير من كليات الآداب والتربية، وكنت ألاحظ الفرق الهائل بين الطلاب الذين يدرسون التاريخ في كليات الآداب، وبين نظرائهم من دارسي التاريخ في كليات التربية، ففي كليات الآداب يدرس الطالب التاريخ الوطني لكل قُطر عربي فضلا عن التاريخ العربي والتاريخ الأوروبي والأفريقي، وتاريخ الفكر وفلسفة الكتابة التاريخية، بينما تقتصر الدراسة في كليات التربية على مختصرات في موضوعات محددة لا تشكّل تكوينا أكاديميا لعلم التاريخ وفلسفاته والمعارف المؤهلة لهذا التخصص.
المشكلة الأخطر والأهم، أن مناهج التاريخ في معظم مدارسنا الابتدائية وحتى الثانوية يكتبها خبراء في التربية، الذين لم يسبق لهم أن تم تكوينهم تكوينا رصينا في علم التاريخ، بينما كانت ذات المناهج منذ نصف قرن أو أكثر يقوم على كتابتها أساتذة جامعيون من كليات الآداب والعلوم، متخصصون في هذا العلم أو ذاك، والطامة الكبرى أن خبراء التربية قد استحدثوا طرقا ساذجة في الاختبارات، واستحدثوا علامات الصح والخطأ، وغير ذلك من الوسائل التي لا تمكن الطالب من التعود على الكتابة والتحليل والتعليق، وجميعها تعوَّد التلاميذ على التفكير والابتكار وجودة الكتابة، التي لم يعد التلاميذ يجيدونها في معظم مدارسنا، وهي كارثة لا مثيل لها في أي نظام تعليمي في العالم، ولم يلتفت القائمون على العلمية التعليمية إلى أن هذه الطريقة تؤدي إلى فقدان الهوية، من قبيل المعارف اللغوية والاجتماعية.
نحن لا ندعو إلى إلغاء كليات التربية، وإنما نقول باكتفاء دور كليات التربية على تأهيل من يرغب في الالتحاق بمهنة المعلم من خريجي كليات الآداب والعلوم، والاكتفاء بعام دراسي واحد بعد إنهاء المرحلة الجامعية، وأعتقد أن الكثيرين من كبار أساتذة التربية جاءوا من خلفيات أكاديمية قبل أن يتخصصوا في علوم التربية، وأعرف بعضهم من الرعيل الأول، الذي مر بهذا التكوين العلمي، وكثيرا ما كنت أتحدث مع أحد شيوخ هذا التخصص المرحوم الدكتور حامد عمار، الذي درس علوم التربية في بريطانيا منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، وأمضى حياته كلها في حقل التعليم سواء في مصر أو في اليونسكو، وقد قال لي بصريح العبارة، وكان قد تجاوز التسعين من عمره، وكنا نتحدث عن ظاهرة ضعف التكوين العلمي للمعلم، قال: إذا أردنا إصلاح التعليم فلا بديل عن العودة إلى كليتي الآداب والعلوم، بعدها يمكن دراسة المواد التربوية في عام واحد فقط.
السؤال: هل لدينا من الإرادة في كل بلادنا العربية ما يستوجب العودة إلى تصحيح خطأ وقعنا فيه خلال ما يزيد عن نصف قرن؟ لعلنا نصلح ما أفسده السابقون!
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).
في مصر على سبيل المثال، كان الدكتور أحمد عزت عبدالكريم أستاذ التاريخ الحديث بجامعة عين شمس، قد أدرك أهمية تكوين مدرسة متخصصة في كل تاريخ العرب، لذا وجه تلاميذه إلى دراسة تاريخ كل قُطر عربي كان من بينهم الدكتور عبدالعزيز نوار الذي تخصص في تاريخ العراق، ومحمد خير الذي تخصص في تاريخ الشام، والسيد عبدالعزيز سالم عن اليمن، وجمال زكريا قاسم عن عُمان، ويونان لبيب رزق عن السودان والقرن الأفريقي، بينما كان الأستاذ محمد أنيس يعمل على تكوين مدرسة أخرى في جامعة القاهرة، كان من بينها المرحوم عبدالعظيم رمضان وعلي بركات ورؤوف عباس، وقد توجهت هذه المدرسة الأخرى إلى العناية بتاريخ مصر السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
شكّل هؤلاء جميعا مدرسة علمية منفتحة على كل المعارف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، ولم يكونوا مجرد معلمين للتاريخ وإنما كانوا فلاسفة في علم التاريخ، وبقيت كتاباتهم إلى الآن بمثابة المرشد الأمين لكل من أتى بعدهم من المشتغلين بالتاريخ، الذي تراجعت العناية به في معظم مدارسنا وجامعاتنا العربية، سواء بسبب ضعف المحتوى العلمي، أو بسبب ضعف الأساتذة ورؤيتهم للتاريخ باعتباره مجرد حكايات وقصص، ولعل معلمي التاريخ من خريجي كليات التربية كانوا وراء تراجع العناية بالتاريخ في مدارسنا، بل وفي كل مناهجنا الدراسية، ويمكن أن أقول بضمير مستريح إن سبب ضعف التعليم يرجع إلى ضعف تكوين المعلم، ليس في علم التاريخ فقط وإنما في كل المعارف الإنسانية والعلمية.
خريجو كليات التربية الذين يقضون أربع سنوات ولا يتلقون في المواد الأكاديمية الأساسية ما يزيد عن ٣٥٪ من الساعات الدراسية، بينما يستغرقون في التخصصات المنهجية والتربويّة كعلم الوسائل وطرق التدريس ما يقترب من ٦٥٪ من الساعات التدريسية، والنتيجة كما نلاحظها جميعا هي ضعف مستوى المعلم وضعف مستوى الطلاب، بينما كان المعلم قبل إنشاء كليات التربية يأتي من خريجي كليات العلوم والآداب، بعد أن يحصل على دراسة أكاديمية في التخصصات المختلفة ثم يلتحق بالدراسة في كليات التربية لمدة عام يدرس فيها المناهج وطرق التدريس، بعدها يصبح المعلم مؤهلا تأهيلا علميا وتربويا، لذا كانت كليات التربية التي انتشرت في العالم العربي منذ مطلع الستينيات سببا كافيا لتدهور التكوين العلمي للمعلم الذي يعد حجر الأساس للعملية التعليمية برمتها، وأعتقد أن الخروج من أزمة التعليم تستوجب العودة إلى النظام القديم، من خلال كليات الآداب والعلوم، بعدها يُكتفى بعام واحد في كليات التربية لدراسة المناهج وطرق التدريس.
أتيح لي منذ سنوات طويلة التدريس في كثير من كليات الآداب والتربية، وكنت ألاحظ الفرق الهائل بين الطلاب الذين يدرسون التاريخ في كليات الآداب، وبين نظرائهم من دارسي التاريخ في كليات التربية، ففي كليات الآداب يدرس الطالب التاريخ الوطني لكل قُطر عربي فضلا عن التاريخ العربي والتاريخ الأوروبي والأفريقي، وتاريخ الفكر وفلسفة الكتابة التاريخية، بينما تقتصر الدراسة في كليات التربية على مختصرات في موضوعات محددة لا تشكّل تكوينا أكاديميا لعلم التاريخ وفلسفاته والمعارف المؤهلة لهذا التخصص.
المشكلة الأخطر والأهم، أن مناهج التاريخ في معظم مدارسنا الابتدائية وحتى الثانوية يكتبها خبراء في التربية، الذين لم يسبق لهم أن تم تكوينهم تكوينا رصينا في علم التاريخ، بينما كانت ذات المناهج منذ نصف قرن أو أكثر يقوم على كتابتها أساتذة جامعيون من كليات الآداب والعلوم، متخصصون في هذا العلم أو ذاك، والطامة الكبرى أن خبراء التربية قد استحدثوا طرقا ساذجة في الاختبارات، واستحدثوا علامات الصح والخطأ، وغير ذلك من الوسائل التي لا تمكن الطالب من التعود على الكتابة والتحليل والتعليق، وجميعها تعوَّد التلاميذ على التفكير والابتكار وجودة الكتابة، التي لم يعد التلاميذ يجيدونها في معظم مدارسنا، وهي كارثة لا مثيل لها في أي نظام تعليمي في العالم، ولم يلتفت القائمون على العلمية التعليمية إلى أن هذه الطريقة تؤدي إلى فقدان الهوية، من قبيل المعارف اللغوية والاجتماعية.
نحن لا ندعو إلى إلغاء كليات التربية، وإنما نقول باكتفاء دور كليات التربية على تأهيل من يرغب في الالتحاق بمهنة المعلم من خريجي كليات الآداب والعلوم، والاكتفاء بعام دراسي واحد بعد إنهاء المرحلة الجامعية، وأعتقد أن الكثيرين من كبار أساتذة التربية جاءوا من خلفيات أكاديمية قبل أن يتخصصوا في علوم التربية، وأعرف بعضهم من الرعيل الأول، الذي مر بهذا التكوين العلمي، وكثيرا ما كنت أتحدث مع أحد شيوخ هذا التخصص المرحوم الدكتور حامد عمار، الذي درس علوم التربية في بريطانيا منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، وأمضى حياته كلها في حقل التعليم سواء في مصر أو في اليونسكو، وقد قال لي بصريح العبارة، وكان قد تجاوز التسعين من عمره، وكنا نتحدث عن ظاهرة ضعف التكوين العلمي للمعلم، قال: إذا أردنا إصلاح التعليم فلا بديل عن العودة إلى كليتي الآداب والعلوم، بعدها يمكن دراسة المواد التربوية في عام واحد فقط.
السؤال: هل لدينا من الإرادة في كل بلادنا العربية ما يستوجب العودة إلى تصحيح خطأ وقعنا فيه خلال ما يزيد عن نصف قرن؟ لعلنا نصلح ما أفسده السابقون!
د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).