لطالما ارتبط الأدب الرفيع بالرسالة السامية، فالمبدعون الكبار هم من يحملون لواء القضايا الإنسانية العادلة، مضيئين بكلماتهم شمعة الأمل في ظلمات اليأس.. يأتي الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله، حاملا هموم الوطن وأحلام الشعوب المنكوبة في روايات صادقة شجاعة، كاشفا بجرأة عن المسكوت عنه في التاريخ والسياسة والمجتمع.. يفضح موت ضمير العالم إزاء مأساة الشعب الفلسطيني وقضيته المنسية، محذرا من استمرار نزيف هذه الجراح دون تضميد.. كما يشدد على أهمية دور المثقف قبل وقوع الكوارث، في توقع الأخطار ووضع الحلول، وليس فقط التدخل بعد فوات الأوان.
وبرؤيته وإدراكه العميقين، يتتبع «نصر الله» حال الثقافة والفكر في واقعنا المعاصر، مبرزا أوجه القصور والإخفاق، سواء على صعيد دور النقد أو مستوى الاهتمام الرسمي، مُرسلا بذلك صفارة إنذار لا غنى عنها لترشيد البوصلة مجددا..
في هذا الحوار الصحفي يتحدث الروائي إبراهيم نصر الله بصوت جريء يرفض التزييف والتزوير، في مواجهة متواصلة مع سلطات الرقابة والقمع، دفاعا عن حريّة الفكر واستقلاليّة الإبداع..
لقد عايشت القضية الفلسطينية عن كثب طوال حياتك، وتناولتها بعمق في العديد من أعمالك الأدبية. في رأيك، ما هي أبرز التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني اليوم في ظل استمرار الاحتلال وعدوانه وتنامي وتيرة المشروع الاستيطاني؟ وكيف يمكن للفلسطينيين التصدي لهذه التحديات والمضي قدما نحو تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة في ظل الواقع الراهن؟
في اعتقادي أن الصعوبات والتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني اليوم هي تلك التي واجهها عبر خمس وسبعين سنة مرت، إلا أنه لو لم يواجه هذه التحديات لكانت القضية الفلسطينية وجدت بابا يتسع لها ولأحلامها ولحريتها ولجمالها ولعدالتها، لكن المشكلة الأساسية ومنذ البداية أن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني اصطدموا بموت الضمير العالمي، والعدالة والحق وكل الأشياء الجميلة، وتغاضى العالم بطريقة استثنائية عما تضمره هذه القضية من حق للفلسطيني بأرضه وبوطنه وبحياته وبمستقبله، ولولا ذلك في ظني لكانت القضية الفلسطينية حُلت منذ زمن، واليوم كل ما يحدث أننا نرى كل هذه الأشياء مكثفة أمامنا.
فمن قبل لم يكن باستطاعتنا أن نراها عبر هذه الوسائل المتاحة، خاصة في مجال الصورة ونقل الخبر وفي مجال رؤية هذا العدد الهائل من البشر الذين يقتلون، ولذلك سيبقى التحدي الذي يواجه القضية اليوم وغدا هو موت الضمير، حين يصحو هذا الضمير باعتقادي أنه سيكون هناك شيء اختلف، لكن ما يجعل الأمور أكثر إيلاما هو الانفضاض الرسمي العربي عكس الشعب العربي الذي يبدو اليوم من أكثر فترات حياته التصاقا بهذه القضية ودفاعا عنها.
مشروعك «الملهاة الفلسطينية» طموح جدا في تناوله لقضية فلسطين التاريخية والمعاصرة، فهل كان لديك تصور واضح عن الشكل النهائي والمدى الزمني الذي سيستغرقه إنجاز هذا العمل منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها التفكير والتخطيط لهذا المشروع الضخم في عام 1984، وكيف استطعت بالتزام ومثابرة روحية وفكرية وجسدية طيلة هذه السنوات من أجل استكمال المشروع؟
هناك جملة في نهاية روايتي «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» حينما يسأل بطلها: «هل كنتم تعتقدون أنكم ستحققون هذا النصر على العدو الصهيوني خلال الانتفاضة الأولى وبالذات انتفاضة مدينة بيت سحور وعصيانها المدني؟ فيقول لا ولكن عليك أن تبدأ لتعرف إلى أين يمكن أن تصل وإذا لم تبدأ لن تصل إلى أي شيء»، فكل ما حدث أنني بدأت عام 1984 بالتخطيط لهذا المشروع ولم يكن بذهني أن يكون مشروع «الملهاة الفلسطينية» بهذا الاتساع، لكن أثناء العمل ما حدث أن الأمور تتوالد وتستجد، والأفكار تتلاقح.. تولد في مناطق لم تكن تعتقد أنك يمكن أن تصل لها ذات يوم، فمن رواية كان الهدف الأول فيها هو كتابة الفترة ما بين 1917 دخول الإنجليز إلى فلسطين إلى عام 1948 عام النكبة أصبحت هذه الرواية نفسها من نهايات القرن التاسع عشر إلى عام النكبة وأثناء العمل عليها وصلت إلى حقيقة أن فلسطين قضية أكبر من أن تحيط بها رواية واحدة، وهكذا توالد المشروع، لكن لو سألتني في عام 1984 هل يمكن أن تحقق هذا المشروع كهذا بالتأكيد لما تجرأت أن أقول لك إنني أستطيع.
أشرتَ في حديث صحفي إلى الأثر العميق الذي خلّفه ظهور روايتك «أعراس آمنة» في أحد مشاهد مسلسل «حالة خاصة» على المشاهدين، وكيف أن مثل هذه الإشارات البسيطة تحمل أبعادًا رمزية كبيرة. برأيك، ما السبل التي يمكن من خلالها تفعيل دور الفن في إحياء القضايا الكبرى وفي مقدمتها القضية الفلسطينية في وجدان الجمهور وذاكرتهم الجمعية؟ وهل ترى أن للفنانين والمبدعين دورًا محوريًا في هذا الصدد؟
أنا أؤمن بقوة الفن بدرجة كبيرة، وما حدث في مسلسل «حالة خاصة» بالتأكيد مؤشر إلى تلك الحالة ويشير أيضا إلى أي مدى يتمنى الناس أن يروا أنفسهم منعكسين في الأعمال الفنية وبالذات الأعمال التلفزيونية بشكل أساسي والسينما، لكن هذه المسألة حينما ظهرت في هذا المسلسل ظهرت في الوقت الصحيح خاصة أن رواية «أعراس آمنة» هي رواية تتحدث عن غزة بشكل أساسي ورغم أن هذه الرواية نشرت قبل عشرين عاما إلا أن من يقرأها اليوم يعتقد أن هذه الرواية مكتوبة الآن، فحينما يأتي مسلسل ويوجه التحية لغزة عبر رواية تتحدث عن غزة فأنا أعتقد أنه سيحدث هذا الأثر العميق في الإنسان، لأن قوة الإشارة، وقوة الرمزية لا نستطيع أن نستهين بهما فهما تصلان إلى قلب المشاهد وقلب القارئ بطريقة كما رأيناهما، وأنا لمست هذا الأثر بشكل كبير عند مشاهدين وعند قراء وعند فنانين أيضا، لكن مشكلتنا في هذا المجال على المستوى الفني ليست مع الفنانين وليست مع المخرجين، فالمخرجون والفنانون يتمنون أن تكون هناك أعمال عن القضية الفلسطينية لكن دائما نصطدم بالفضائيات العربية التي للأسف منذ زمن طويل لا تريد أعمالا عن القضية الفلسطينية، وأكبر مثال على ذلك هو رواية «زمن الخيول البيضاء» فمن كان مستعدا لإخراجها هو المخرج الراحل حاتم علي وهو الذي أخرج «التغريبة الفلسطينية» والسيناريو قمت بكتابته وهو جاهز منذ عام 2009 ومنذ ذلك العام لا نستطيع إيصال هذا العمل إلى أي محطة تلفزيونية عربية، ومؤسف أن أقول لك على الإطلاق.
ما الأسباب .. برأيك؟
يبدو أن التوجهات التي نشهدها اليوم بشأن العلاقة مع هذا العدو الصهيوني من أنظمة عربية كثيرة هو جزء إما أن يكون مضمرا بالأصل وغير معلن أو يكون معلنا.. الآن في ظني أن الأمور بدأت أصعب وأصعب بكثير.
السؤال السابق وتفاصيل إجابتك تحيلني إلى دور المثقف في المجتمع؟ هل يختلف هذا الدور اليوم عمّا كان عليه في الماضي برأيك؟ وهل تعتقد أنّ الأدب قادر على تغيير المجتمعات؟ بمعنى متى يستطيع الأديب أن يمارس تأثيرًا حقيقيًا في رأيك؟
أنا أعتقد أن تأثير الكاتب والكتابة والأدب والفن هو في كل العصور، ولكن يبدو أننا بحاجة إليه في الأزمات الكبيرة أو حينما تطرح علينا الأسئلة الكبيرة التي علينا أن نعثر على إجابة لها، وهذه الإجابة بالتأكيد للمثقف دور أن يساعدنا في العثور عليها.. وقد يكون قد أجاب عن أسئلتنا التي نطرحها اليوم منذ زمن بعيد ولكننا لم ننتبه لإجاباته، ببساطة لأننا لم نكن قرأناه أو لم نكن قرأنا هذا العدد من المثقفين، وبالتالي نأتي ونتساءل، ما دور المثقف في هذه المرحلة.. هو دوره قبل كل المراحل وليس بعد.. قبل الأحداث الكبرى وليس بعد الأحداث الكبرى، دوره الأساسي.. ما الذي كتبه قبل هذه الأحداث.. ما الذي حذر منه.. ما الذي رآه قبل هذه الأحداث، وبالتأكيد هناك دور آخر بعد هذه الأحداث، لكن يهيأ لي أننا في كثير من الأحيان نبدأ بسؤال فقط عن دور المثقف حينما نشعر بأننا هزمنا، ونبدأ بالبحث، ونقول له أين دورك؟ أين أنت؟ ما الذي تقوله الآن؟ ولكننا لا نسأل أنفسنا أبدا، وهذه مشكلة كبيرة، ماذا كان دورنا في السابق..؟ ما الذي فعلناه في قراءة ما كتبه وما قاله وما حذره هذا المثقف..؟ فالسؤال مطروح عربيا بصورة واسعة دائما في الأزمات لكنه لا يطرح خارج الأزمات بمعنى ما دورنا في ما يحدث لنا بالحياة اليومية العادية؟ .. فتراكم ما يحدث لنا في الحياة العادية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني هو المحصلة النهائية لهذه الكوارث التي نعيشها لأنه لم يكن لنا دور، فالمثقف الحقيقي دائما له دور، قبل الأحداث وبعدها، لكن ونحن مواطنون وأنا مواطن أيضا يجب علي أن أسأل نفسي قبل كتابتي وبعد كتابتي ما هو دوري أيضا؟ بالتأكيد دوري الأساسي أن أكتب وأن أقدم شيئا يجيب عن أسئلة الناس ويقول للناس شيئا فيما يعانون ولكن أيضا حينما تكون المسؤولية كبيرة وكبيرة جدا كما يحدث في هذه الأيام فعلى كل إنسان مسؤولية أن يسأل نفسه ما الذي فعلته، وما الذي كان يجب أن أفعله وما الذي عليْ أن أفعله.
تُعد الثقافة البصرية أحد المنابع الرئيسية التي استقيت منها في أعمالك الأدبية، وخاصةً السينما، حيث استفدتَ من تقنياتها الفنية كالمونتاج والمشاهد في بناء رواياتك. برأيك، ما أثر ثقافة الصورة والبصريات على الخطاب الروائي بشكل عام؟ وكيف ساهمت في تطوير أدواته الفنية ورفده بتقنيات سردية جديدة؟ وهل تعتقد أن هيمنة الثقافة البصرية ستتواصل مستقبلًا، وستفرض نفسها على مختلف صيغ التعبير الإبداعي؟ خاصة أنك استطعت الجمع بين اهتمامك بالتصوير الفني وبين الكتابة الإبداعية؟ هل كان للتصوير تأثير على كتاباتك؟
أنا أظن الخطاب العام للنص الروائي هو الخطاب العام لكل الفنون، لكن تتنوع هذه الخطابات في داخلها.. تتعمق أو تتسطح أو تصل إلى نقاط تستكشف فيها أو تتناسى نقاطا مهمة كان يجب أن تتناولها، لكن على المستوى الفني نحن ـ لا أقول منذ اليوم ـ منذ أن بدأت السينما تخرج تولستوي قال «إن هذه العجلة الصغيرة ستغير الكثير مما غيره العالم» لكن لنعترف أيضا أن الرواية هي التي غيرت السينما، حيث استفادت السينما من الرواية ومن قطع الرواية ومن الفصول بالرواية، الفصل بالرواية هو مشهد طويل وقد يكون الفصل هو مجموعة مشاهد متتالية هناك من يتقن كتابتها وتقطيعها من الروائيين بصورة استثنائية، وهناك من لا يستطيع تماما كالمخرجين، يمكن أن تشعر أن هذا المشهد طويل جدا .. هو مشهد تصويري طويل أيضا، وإذا ذهبنا إلى الأدب قد نجد أن هذا الروائي يمتلك المشهد التصويري الطويل جدا قد يكون مملا أو تشعر أحيانا أن إيقاعه سريع، فالإيقاع جزء أساسي من صناعة السينما وجزء أساسي من صناعة الأدب لكن السينما امتلكت أشياء لا نستطيع نحن أن نمتلكها.. لا تقوم السينما بغير النص، لكن السينما نفسها تستند على مجموعة هائلة من النصوص تستند على النص الأدبي أو النص السيناريو الذي في الغالب هو يحدد قيمة هذا الفيلم مهما أنفق عليه، فهناك أفلام ينفق عليها ملايين لكن بنص سيئ وأحيانا أفلام ينفق عليها القليل ولكن تخلف لنا أفلاما جيدة، والسينما لديها الموسيقى والتمثيل والإضاءة والمسرح والتكنولوجيا، فالسينما قادرة على تجسيد أي فكرة مجنونة تخطر في مخيلتك على الشاشة، وبالتالي نحن نخوض حربا كبيرة ومنافسة مع السينما لكن من حسن الحظ أنه دائما يقال إن الروايات التي أنتجت سينمائيا في الواقع أن «الروايات» كانت أجمل من الأفلام، وهذا مسألة تحيلنا إلى نقصان الروافد التي تتكئ عليها الرواية، فهي شيء من كمالها أيضا.
حصلت على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة على مستوى الوطن العربي والعالم، بما في ذلك جائزة البوكر العربية عن رواية «حرب الكلب الثانية». في رأيك، ما أهمية الجوائز الأدبية بالنسبة للأديب؟ هل تعتقد أنها تشكل دافعًا ومحفزًا قويًا للاستمرار والارتقاء، أم أن هناك عوامل أخرى أكثر أهمية؟ وهل ترى أنّ الجوائز معيار جيد للحكم على جودة العمل الأدبي وقيمته الفنيّة؟
هذه الجوائز أصبحت شكلا من أشكال التقليد في العالم كله ويبدو أن هناك رضا عنها من الكتاب ومن الناشرين ومن القراء أيضا، لكن بالتأكيد هي ليست المعيار الأساسي لجودة الفن أو قد تكون معيارا أساسيا لجودة المنتج.. قد تكون أحيانا وأحيانا لا .. ونحن لا نستطيع أن نقول عن الأسماء الكبرى التي نالت جوائز مهمة في العالم مثل ماركيز، وماريو بارجاس يوسا مثلا أنهما ليسا كاتبين مهمين، في المقابل لم يأخذها كونديرا ولكنه كاتب مهم، وجائزة نوبل لم يأخذها محمود درويش ولكنه كاتب مهم.
.. وعلى المستوى العربي؟
.. وحتى على المستوى العربي.. هناك من يأخذ الجوائز وقد لا يستحقها، وهناك من يأخذها ويستحقونها، وهناك من نال هذه الجوائز وأصيب بالسكتة الكتابية ولم يعودوا للكتابة وهذا شيء مفزع.. وهناك كتّاب فازوا بها وكانت محطة صغيرة في حياتهم وواصلوا الكتابة، فلا أعتبرها أنها حافز مطلق للكتاب ولا أعتبر عدم الفوز بها محبط لكل الكتاب، لكن دائما أقول هي بمثابة شكر للكاتب أنك أعطيتنا هذا الجمال الذي لديك، وأحيانا هناك لجان التحكيم تخطئ فيجيب عليها القراء بأنفسهم ولا يقبلون على هذا الكتاب.. إذن هناك رد شعبي، فالجائزة لا تجبرك على قراءة كتاب حتى النهاية، قد تجبرك بالبداية على أن تشتريه لتستكشفه وإذا لم تحبه فلك أن تتخلى عنه ببساطة وتتخلى عن كتابات الكاتب التي بعدها والتي قبلها.
يستعين الكثيرون في الكتابة بالتراث والفولكلور والقصص الشعبية العربية الأصيلة، مع منحها أبعادا إنسانية عميقة. في رأيك، ما أهمية الاستمداد من هذا التراث الشعبي الغني في الكتابة الإبداعية المعاصرة؟ وكيف يمكن للأديب أن يوظف عناصر الحكايات والأساطير الشعبية بطريقة فنية رفيعة دون الوقوع في فخ التكرار أو الاستهلاك؟ وهل ترى أن لجوء الأدباء لهذا التراث يعزز الهوية الحضارية ويمنح الأعمال الأدبية طابعا أكثر أصالة وتميزا؟
في ظني أن هذه المسألة تتعلق بكل كاتب على حدة، فبعض الناس حينما تقرا له تشعر أنه أعاد كتابة الحكاية فقط، وهناك آخرون تشعر أنه أعاد صياغتها من جديد ومنحها أبعادا وآفاقا جديدة، وهناك فرق بين هذا وذاك.. لكن اليوم أصبح الأدب قادر على أن يستلهم كل شيء في هذه الحياة، ليس هناك شيء محظور على الأدب أن يستلهمه بالمطلق بما فيها الحكايات الشعبية.
دعني أتحدث عن تجربتي، قد تحضر بعض الأشياء الشعبية أو الحكايات الشعبية في بعض الفصول في داخل النصوص الروائية وحتى الشعرية لكن دون أن تحس أنها حضرت، تصبح جزءا ذائبا ومذوبا في النص الكلي، وبالفترة الأخيرة (وهي كانت لأول مرة) من السابقين أن يحضر نصا تراثيا في رواية هي رواية الأخيرة «شمس اليوم الثاني» هذه الرواية كانت في الأصل حكاية قالتها أمي أكثر من ثلاثين سنة وسجلتها وفرغتها «ورقا»، فاكتشفت أنها حوالي خمسمائة كلمة، وحينما كنت أكتب في رواية «طفولتي حتى الآن» والتي تتحدث عن سيرتي في رواية وصلت إلى نقطة أن أمي تقول لنا هذه الحكاية أو كان يجب على أمي أن تقول لنا هذه الحكاية، فاعتقدت أنني سأكتبها صفحة أو نصف صفحة على الحد الأقصى، لكن أثناء الكتابة بدأت تتوالد إلى أن اضطرتني رغما عني لأن أخرجها من الرواية الأم «طفولتي حتى الآن»، وأن أضعها في ملف وأواصل الكتابة فيها وحينما أنهيت الكتابة اكتشفت أنني كتبت سبعة آلاف كلمة وحينما تأملت ما كتبت تبين لي أن أمي قالت لنا نصف الحكاية ولم تقل لنا كل الحكاية لأن هناك نصفا مفقودا فيها، فكان لزاما علي أن أكتب هذا النصف المفقود منها، وبالمصادفة جاءت سبعة آلاف كلمة أخرى فكانت الرواية .. فهي حكاية جدي مع جمله وتدور أحداث هذه الرواية سنة 1900 في فلسطين عن طفل يتنقل بين المدن الفلسطينية على جمله.
إذن أنا أعتقد أن هذا هو التحدي في أن يكون لديك كمية قليلة من الكلمات أو قصة صغيرة جدا لا تكفي قصة قصيرة وأن يعمل خيالك وخبرتك وقدرتك على أن تستنبط منها أفكارا جديدة أعم وأكبر، رغم أن المسألة متكئة على كلمات بسيطة، وهذا في ظني يذكرنا بالشجرة التي تكون بذرة صغيرة وتستطيع أن تكون شجرة، وهذا هو الدرس الذي يوجه لي ككتاب أنه إذا أردت أن تذهب للكتابة عن حكاية شعبية أو تستلهم تراثا ما تذكر دائما أن ما بين يديك هو بذرة، والتحدي الأكبر هو كيف تحولها إلى شجرة!.
على مدار مسيرتك الأدبية الحافلة، قدمت أعمالا روائية وشعرية جريئة حملت بصمة تجديدية واضحة. في رأيك، ما الدوافع الكامنة وراء حركة التجديد التي يشهدها الأدب العربي المعاصر؟ والتوجه نحو تجاوز الأشكال والأساليب التقليدية؟ كما نود معرفة رؤيتك حول مستقبل حركة التجديد في ظل المتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة في عالمنا العربي.
منذ البداية وعيت مسألة في ظني أنها كانت مهمة أن عليك أن تتنوع داخل تجربتك، وهذا ما حدث داخل تجربتي الشعرية، حيث بدأت بالقصائد العادية الواقعة في صفحة ونصف وصفحتين، ثم انتقلت فيما بعد للقصائد الملحمية التي تصل إلى ألف بيت ثم انتقلت إلى القصيدة التي تشبه نصف رواية مثل «نعمان يستبدل لونه» ثم القصيدة السيرية التي تتحدث عن سيرة أمي في ديوان كامل أو سيرة متخيلة مثل «مرايا الملائكة» التي تتحدث عن سيرة طفلة إيمان حجو الشهيدة التي استشهدت وعمرها أربعة أشهر، فكيف تبني سيرة متخيلة لهذه الرواية إلى هذه الطفلة في ديوان شعري كامل مكون من ثلاث وثلاثين قصيدة، وأخيرا القصائد القصيرة جدا التي صدر منها أربع مجموعات شعرية .. وبالمناسبة بالمرحلة التي كنت أكتب فيها القصائد الملحمية والتي صدرت في ديوان «الفتى النهر والجنرالات .. الحواريات» بعدها مباشرة كتبت القصائد القصيرة جدا فكانت أشبه بصدمة للقارئ ورغم ذلك اكتشفت أنه لم يكن أثر تجربة القصائد القصيرة جدا أقل تأثيرا من تأثير القصائد الطويلة إلى أن كان دائما طموحي أن أكتب عملا شعريا يستند إلى بناء الأوبرالي فكان ديواني الأخير «الحب شرير».. هذا الأمر أيضا كنت أتعمده في تجربتي الروائية الأولى «براري الحمى» التي اعتبرت رواية ما بعد حداثية وربما يمكن أن نعتبرها رواية نفسية أيضا، بعدها جاءت الرواية السياسية ثم التاريخية ثم الغرائبية ثم الخيال العلمي.. عليك أن تتنوع. فأن تكون أعمالك كلها في إطار واحد فهذه مشكلة، وهذا ما وعيته أيضا في «الملهاة الفلسطينية» فابتعدت عن فكرة الثلاثيات والرباعيات والخماسيات ففي كل مرة كنت أحرص على أن تكون هناك شخصيات جديدة وشكل فني جديد وطرح جديد وأمكنة جديدة، بحيث يمكن للقارئ أن يقرأ هذه الرواية من الملهاة أو حتى في «ثلاثية الأجراس» وربما تكون هذه من المسائل النادرة، فمع أنها ثلاثية إلا أن بإمكانك أن تقرأ أي رواية منها دون أن تكون مضطرا لقراءة الرواية الأخرى، ولكن السؤال.. ما سبب ذلك؟ الجواب: سببه فعلا أن لدينا الآن فيضا هائلا من الفن والكتابة العالمية التي تصب في عالمنا العربي وتترجم إلى العربية، وبالتالي لا تستطيع أن تكتب إلا وكل أدب العالم أمامك وأنت تعي هذا الأدب والفنون التي سبقها مثل السينما والفن التشكيلي الذي يعني بالنسبة لي (وقد سبق لي أني أقمت أربعة معارض فنية وفوتوغرافية) يصب في روايتي، والرواية تصب في شعري حينما قلت عن ديوان «مرايا الملائكة السيرة المتخيلة للطفلة إيمان حجو» بالتأكيد خبرتي في مجال الكتابة الروائية ساعدت شعري كثيرا وبعض الروايات مثل «طيور الحذر» في اعتقادي لو لم أكن شاعرا لكان من الصعب علي أن أكتبها، ففي كل هذه تتبادل الخبرات وتصب في بعضها البعض.
ذكرت في حديثك اعتبار رواية «براري الحمى» أنها ما بعد حداثية حيث لاقت نجاحًا كبيرًا واهتماما دوليا، ما الذي تعتقد أنه ميّز هذه الرواية عن غيرها من الروايات العربية؟
.. هو ما سبقها كان المهم -لا شك- فقبل كتابتها كنت أريد أن أكتب رواية تعبّر عن تجربة قاسية عشتها.. أو أنقل خبرة هذه التجربة إلى الشعر في البداية فلم أستطع أن أكتبها شعرا؛ لأنها كانت أكثر اتساعا من الشعر.. وفي تلك الفترة وقبل الكتابة كان هناك قرار بالنسبة لي وهذا في أوائل عمري «22 سنة» قلت لنفسي يبدو أنك ستصبح كاتبا لكن ما الذي تعرفه عن الكتابة؟ ما الذي تعرفه عن الأدب؟ ما الذي تعرفه عن السينما؟ فأعددت برنامجا أظن أنه كان من أفضل ما قمت به في حياتي، بحثا عن الأدب الإغريقي والمسرح الإغريقي وهناك عشرات الأعمال المترجمة العربية بصورة هائلة كنت أقرأ كل هذه الأعمال المسرحية وأقرأ كل ما كتب عنها الملاحم الإغريقية، أقرأها وأقرأ الملاحم الهندية، بلاد الرافدين ثم أنتقل لما بعدها إلى المسرح الكلاسيكي إلى أن وصلت للرواية الكلاسيكية، وكل هذه الأعمال التي كتبت في القرن التاسع عشر ثم الرواية الحديثة، وحينما أقول الرواية الحديثة فهي تعني أبرز الأعمال الرواية التي وصلت إلى مسرح العبث وكل هؤلاء الكتاب الرائعين جدا فدائما كنت أقرأهم وأقرأ ما كتب عن أعمالهم.. وفي السينما كنت أحضر لنفسي أسابيع فنية تتبع في أسبوع أفلام فليني وكوبولا في أسبوع آخر، وهكذا في الشعر، ويوميا قراءة استثنائية.. وحينما كتبت «براري الحمى» كنت أعلم ما الذي كتب قبل كتابة هذه الرواية، وقبل فترة قصيرة كنت في إسبانيا أقدم النسخة الإسبانية من «براري الحمى» وكان هناك سؤال شبيه بهذا السؤال: من أين أتيت بهذه الفنية العالية التي جعلت النقاد الغربيين يعتبرونها ما بعد حداثية؟ أو تختارها الجارديان واحدة من أهم عشر روايات كتبت عن العالم العربي سواء كتبها عرب أو أجانب؟ وحينما تأملت أظنني وقد تستغرب أنه كان للمسرح الإغريقي دور فللمسرح دور أكبر من دور الرواية الحديثة؛ لأن هناك تعلمت ما يمكن أن أدعوه حركة الداخل وهذه الرواية تدور في مكان مقفل رغم أنه مكان واسع جدا «الصحراء» لكن هو مكان مقفل لأنك وحيد وكل الأماكن في ظني مقفلة إذا كنت فيها وحيدا مهما كانت واسعة.. والحدث يدور في ليلة واحدة ويدور في داخل الشخصية وبالتالي المونولوج طويل مع الروح وفي اعتقادي أنه فعلا كان والد هذه الرواية هو فنيات المسرح القديم لكن معززة بالتأكيد بما يمكن أن يقوله فن الرواية لأنك أنت لا تكتب مسرحا.
أثارت تجربتك في قصيدة «نعمان يسترد لونه» جدلا كبيرا، فلماذا اخترت هذا الموضوع؟ وكيف ترى الردود التي أثارتها؟
حينما تكتب عن شيء عليك ألا تتساءل ما الردود التي ممكن أن يثيره ما كتبت، فأنت في أفضل حالاتك كالجندي يمضي إلى الحرب.. يريد أن يحمي وطنه ويدافع عن مبادئه وعن الأشياء الجميلة التي يؤمن بها، قد ينتصر ويعود وقد ينتصر ويفقد حياته وقد ينهزم أحيانا وهكذا النص فكل الاحتمالات في كتابته واردة.. في النص الذي ذكرته تحدثت عن مرحلة محورية في حياة المقاومة الفلسطينية في الأردن، وتلك التفاصيل التي عاشها الشعب الأردني والشعب الفلسطيني في عام 1970 الذي أطلق عليه «أيلول الأسود» وهو منطقة يحاذر الجميع الحديث فيها، لكن ألا ترى وحشا يريد التهامك هذا لا يعني أن الوحش غير موجود.. عليك أن تمتلك الجرأة للحديث في مواضيع كبيرة حتى نتجاوزها ونصل إلى حلول لها أو نقول رأينا فيها، وهذا الديوان من الأعمال التي ذهبت في هذا الاتجاه أنها تقول رأيها في مرحلة يتم غض النظر عنها وكأنها غير موجودة، وفي ظني مهما كان الغرض نبيلا إلا أنه ليس صائبا.. لأنه على الكاتب أن يتحدث في المواضيع التي لا يجرؤ الناس في التحدث فيها.. ردة الفعل هي ليست ردة فعل الناس تجاه هذا العمل الشعري، إنما هي ردة فعل الرقابة الأردنية التي دائما كانت ترفض وكانت تعتقد أنه أمر غير مقبول إلى أن أدت المسألة تحويلها إلى المحكمة عام 2006 بعد 22 سنة من صدور هذا العمل وهذه مسألة مضحكة واتهامات كبرى للعمل في حين أنه أثبت الزمن (22 سنة) أن هذه الجرائم التي ألصقت بالعمل غير موجودة في الحياة العادية، فالناس قرأوا هذا العمل وتجاوزوه (فالوحدة الوطنية مصانة.. والحياة مستمرة.. والتلاميذ في المدارس لم يتغيروا)، وفي اعتقادي أن ما حدث هو نوع من الغباء الذي لم تزل تمارسه الرقابة ضد الكتاب في عالمنا العالمي حتى اليوم، وديوان «نعمان يسترد لونه» ليس هو الذي أصيب بهذه الحالة حيث سبق لعدة أعمال أخرى أن صودرت مثل رواية «طيور الحذر».. وهنا لا يتسع المجال أن أتحدث عن أشياء أخرى تعرضت لها شخصيا بسبب الكتابة وحدها، لكن عليك أن تكتب وأن تتحدث بجرأة، وقد تحدثنا قبل قليل عن دور المثقف فإذا لم يستطع المثقف الآن أن يتحدث بجرأة فمن الذي يقوم بهذا الدور؟
على مر السنين، حظيت أعمالك الأدبية باهتمام نقدي واسع، تم تناوله من زوايا مختلفة. في رأيك، ما دور النقد الأدبي في النهوض بحركة الإبداع والارتقاء بها؟ وهل ترى أن النقد العربي المعاصر يواكب التطورات التي يشهدها الإبداع الأدبي من حيث الأساليب والاتجاهات أم أن هناك فجوة ما زالت قائمة بينهما؟
لمرحلة من المراحل ربما لأوائل التسعينيات كانت هناك علاقة معقولة بين النقد وبين الأدب لكن فيما بعد حدثت فجوة ليس النقد وحده هو المسؤول عنها، فقد بدأت المنابر الكبيرة تموت خاصة المجلات الثقافية وبدأ دورها يتلاشى تدريجيا، والناقد حينما يكتب يريد منبرا يتسع لدراسته وليس لمراجعته التي يمكن أن تنشر في صحيفة يومية، ولذلك ضاقت مساحة النقد، لكن أيضا هناك فورة كبيرة من الكتابة وأعداد الكتاب أصبحت مهولة فعلا، وأصبحت هناك شهوة للكتابة لمن يستطيع ومن لا يستطيع الكتابة، فالكل يريد أن يكتب وأن ينشر، وصار هناك جشع كبير من قبل كثير من دور النشر التي بدأت تنشر فقط لأنه يدفع، وأصبح من المستحيل على النقد أن يتابع هذه المسائل.. فاليوم أشعر بأن العلاقة بين الكتاب والقارئ أصبحت علاقة مباشرة حيث أصبح القراء هم نقاد العمل لأنهم المستقبلون له، الذين يتحدثون عن هذا العمل ويكتبون أحيانا عن هذا العمل بعضهم يكتب بصورة جيدة بالتأكيد بعضهم يكتب بصورة سيئة، لكن حين ضاقت مساحة الناقد اتسعت مساحة القارئ في هذا المجال وبدأ القراء هم الجسر بين بعضهم بعضا بشأن هذا الكتاب الجميل أو عكس ذلك، لكن ما عوض أكثر (وهذا ألمسه من خلال تجربتي) هو عدد أطروحات الماجستير والدكتوراة التي بدأت تعوض عن هذا المجال خاصة إذا ما تذكرنا أن من يقدم أطروحات ماجستير أو دكتوراة في كاتب ما معنى ذلك أنه مستقبلا سيكون هذا الكاتب محور نقاش لديه في غرف الصف، وبالتالي هذه الأطروحة تتواصل في تلاميذه وهذا شيء أعتز به كثيرا.
ما تقييمك للحركة الثقافية والأدبية الراهنة في العالم العربي؟ وهل أنت راضٍ عن مستوى الاهتمام بالثقافة والكتاب؟
لا يوجد أي اهتمام على المستوى الرسمي بالكتابة ولا الكتاب ببساطة، ودائما ما تعاملت السياسة العربية مع الكتاب وكأنهم نقيض مطلق لها وكأنهم ليسوا هم الصورة الحقيقية لهذا الشعب أو ذاك الشعب، حينما نتحدث عن بلد ما ونقول إن فيه فلانا وفلانا من المبدعين والفنانين فنحن نتحدث عن بلد غني وله جذوره وله مساهمته الجمالية في العالم وحينما نتحدث عن شعب لا نجد لديه كاتب فنحن نحزن ونطرح السؤال: لماذا لا يوجد هذا العدد من الكتاب؟، فالسياسة العربية بشكل أساسي غير معنية بالكتاب وعمليا لا تحبه بوضوح، وأبسط شيء ليس هناك حماية حتى للمواثيق التي توقعها الدول العربية بشأن حماية حقوق الكتاب وحماية حقوق الملكية الفكرية، فهذا التزوير المرعب لم تستطع أي دولة عربية حتى الآن أن تأخذ موقفا واضحا له وشجاعا بأن تحاسب المزورين، حينما يسرق شخص جائع «علبة فول» يُزج به إلى السجن، لكن أن يأتي مزور ويطبع آلاف النسخ من الكتاب ويبيعها في السوق فلا أحد يقول له أي شيء! هذا معيب ومحزن، هذا ما يحدث بالفعل لا تنفذ القرارات المتعلقة بالكتابة في عالمنا العربي إلا حينما تكون ضد الكاتب وحينما تكون معه ومع حقه فإنها لا تنفذ أبدا!
بعد هذه المسيرة الطويلة.. هل ما زلت تطمح لتحقيق أهداف وآمال أدبية أخرى؟
ما دام الإنسان على قيد الحياة فلا تنتهي المشاريع، وبالنسبة لي فلا أتحدث عن أهداف، بقدر حديثي عن مشاريع أعمل عليها أو أعمل للتحضير لها منذ زمن طويل، وكل ما أتمنى أن يكون الوقت كاف لأنفذها.. فهناك مشاريع روائية وشعرية كثيرة أتمنى أن تنفذ، ولدي -بشكل أساسي- مشاريع روائية فقط تحتاج إلى وقت.. فليست القضية الفلسطينية فقط أو ما يدور في عالمنا العربي هو ما يشغلني.. ما يشغلني هو كل ما يدور في هذا العالم وأعتبر أن المساحة التي تتحرك فيها كتابتي هي منذ آدم وحواء حتى ما بعد ربما خمسين ألف سنة مما يمكن أن يحصل في العالم ولذلك كتبت رواية «حرب الكلب الثانية» عن المستقبل.. الآن أو منذ سنة عمليا أعمل على رواية تتحدث عن فترة قديمة جدا في تاريخ البشرية فهذه هي المساحة التي تتحرك فيها، ويبدو أن ما يحدث من دمار وتدمير لهذا الكوكب الصغير الجميل ولهذه الشعوب التي تطوق إلى الحرية يجعلنا نخاف جدا على المستقبل وبالتالي أتمنى أن يكون المستقبل جميلا.
وبرؤيته وإدراكه العميقين، يتتبع «نصر الله» حال الثقافة والفكر في واقعنا المعاصر، مبرزا أوجه القصور والإخفاق، سواء على صعيد دور النقد أو مستوى الاهتمام الرسمي، مُرسلا بذلك صفارة إنذار لا غنى عنها لترشيد البوصلة مجددا..
في هذا الحوار الصحفي يتحدث الروائي إبراهيم نصر الله بصوت جريء يرفض التزييف والتزوير، في مواجهة متواصلة مع سلطات الرقابة والقمع، دفاعا عن حريّة الفكر واستقلاليّة الإبداع..
لقد عايشت القضية الفلسطينية عن كثب طوال حياتك، وتناولتها بعمق في العديد من أعمالك الأدبية. في رأيك، ما هي أبرز التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني اليوم في ظل استمرار الاحتلال وعدوانه وتنامي وتيرة المشروع الاستيطاني؟ وكيف يمكن للفلسطينيين التصدي لهذه التحديات والمضي قدما نحو تقرير المصير وبناء الدولة المستقلة في ظل الواقع الراهن؟
في اعتقادي أن الصعوبات والتحديات التي يواجهها الشعب الفلسطيني اليوم هي تلك التي واجهها عبر خمس وسبعين سنة مرت، إلا أنه لو لم يواجه هذه التحديات لكانت القضية الفلسطينية وجدت بابا يتسع لها ولأحلامها ولحريتها ولجمالها ولعدالتها، لكن المشكلة الأساسية ومنذ البداية أن القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني اصطدموا بموت الضمير العالمي، والعدالة والحق وكل الأشياء الجميلة، وتغاضى العالم بطريقة استثنائية عما تضمره هذه القضية من حق للفلسطيني بأرضه وبوطنه وبحياته وبمستقبله، ولولا ذلك في ظني لكانت القضية الفلسطينية حُلت منذ زمن، واليوم كل ما يحدث أننا نرى كل هذه الأشياء مكثفة أمامنا.
فمن قبل لم يكن باستطاعتنا أن نراها عبر هذه الوسائل المتاحة، خاصة في مجال الصورة ونقل الخبر وفي مجال رؤية هذا العدد الهائل من البشر الذين يقتلون، ولذلك سيبقى التحدي الذي يواجه القضية اليوم وغدا هو موت الضمير، حين يصحو هذا الضمير باعتقادي أنه سيكون هناك شيء اختلف، لكن ما يجعل الأمور أكثر إيلاما هو الانفضاض الرسمي العربي عكس الشعب العربي الذي يبدو اليوم من أكثر فترات حياته التصاقا بهذه القضية ودفاعا عنها.
مشروعك «الملهاة الفلسطينية» طموح جدا في تناوله لقضية فلسطين التاريخية والمعاصرة، فهل كان لديك تصور واضح عن الشكل النهائي والمدى الزمني الذي سيستغرقه إنجاز هذا العمل منذ اللحظة الأولى التي بدأت فيها التفكير والتخطيط لهذا المشروع الضخم في عام 1984، وكيف استطعت بالتزام ومثابرة روحية وفكرية وجسدية طيلة هذه السنوات من أجل استكمال المشروع؟
هناك جملة في نهاية روايتي «دبابة تحت شجرة عيد الميلاد» حينما يسأل بطلها: «هل كنتم تعتقدون أنكم ستحققون هذا النصر على العدو الصهيوني خلال الانتفاضة الأولى وبالذات انتفاضة مدينة بيت سحور وعصيانها المدني؟ فيقول لا ولكن عليك أن تبدأ لتعرف إلى أين يمكن أن تصل وإذا لم تبدأ لن تصل إلى أي شيء»، فكل ما حدث أنني بدأت عام 1984 بالتخطيط لهذا المشروع ولم يكن بذهني أن يكون مشروع «الملهاة الفلسطينية» بهذا الاتساع، لكن أثناء العمل ما حدث أن الأمور تتوالد وتستجد، والأفكار تتلاقح.. تولد في مناطق لم تكن تعتقد أنك يمكن أن تصل لها ذات يوم، فمن رواية كان الهدف الأول فيها هو كتابة الفترة ما بين 1917 دخول الإنجليز إلى فلسطين إلى عام 1948 عام النكبة أصبحت هذه الرواية نفسها من نهايات القرن التاسع عشر إلى عام النكبة وأثناء العمل عليها وصلت إلى حقيقة أن فلسطين قضية أكبر من أن تحيط بها رواية واحدة، وهكذا توالد المشروع، لكن لو سألتني في عام 1984 هل يمكن أن تحقق هذا المشروع كهذا بالتأكيد لما تجرأت أن أقول لك إنني أستطيع.
أشرتَ في حديث صحفي إلى الأثر العميق الذي خلّفه ظهور روايتك «أعراس آمنة» في أحد مشاهد مسلسل «حالة خاصة» على المشاهدين، وكيف أن مثل هذه الإشارات البسيطة تحمل أبعادًا رمزية كبيرة. برأيك، ما السبل التي يمكن من خلالها تفعيل دور الفن في إحياء القضايا الكبرى وفي مقدمتها القضية الفلسطينية في وجدان الجمهور وذاكرتهم الجمعية؟ وهل ترى أن للفنانين والمبدعين دورًا محوريًا في هذا الصدد؟
أنا أؤمن بقوة الفن بدرجة كبيرة، وما حدث في مسلسل «حالة خاصة» بالتأكيد مؤشر إلى تلك الحالة ويشير أيضا إلى أي مدى يتمنى الناس أن يروا أنفسهم منعكسين في الأعمال الفنية وبالذات الأعمال التلفزيونية بشكل أساسي والسينما، لكن هذه المسألة حينما ظهرت في هذا المسلسل ظهرت في الوقت الصحيح خاصة أن رواية «أعراس آمنة» هي رواية تتحدث عن غزة بشكل أساسي ورغم أن هذه الرواية نشرت قبل عشرين عاما إلا أن من يقرأها اليوم يعتقد أن هذه الرواية مكتوبة الآن، فحينما يأتي مسلسل ويوجه التحية لغزة عبر رواية تتحدث عن غزة فأنا أعتقد أنه سيحدث هذا الأثر العميق في الإنسان، لأن قوة الإشارة، وقوة الرمزية لا نستطيع أن نستهين بهما فهما تصلان إلى قلب المشاهد وقلب القارئ بطريقة كما رأيناهما، وأنا لمست هذا الأثر بشكل كبير عند مشاهدين وعند قراء وعند فنانين أيضا، لكن مشكلتنا في هذا المجال على المستوى الفني ليست مع الفنانين وليست مع المخرجين، فالمخرجون والفنانون يتمنون أن تكون هناك أعمال عن القضية الفلسطينية لكن دائما نصطدم بالفضائيات العربية التي للأسف منذ زمن طويل لا تريد أعمالا عن القضية الفلسطينية، وأكبر مثال على ذلك هو رواية «زمن الخيول البيضاء» فمن كان مستعدا لإخراجها هو المخرج الراحل حاتم علي وهو الذي أخرج «التغريبة الفلسطينية» والسيناريو قمت بكتابته وهو جاهز منذ عام 2009 ومنذ ذلك العام لا نستطيع إيصال هذا العمل إلى أي محطة تلفزيونية عربية، ومؤسف أن أقول لك على الإطلاق.
ما الأسباب .. برأيك؟
يبدو أن التوجهات التي نشهدها اليوم بشأن العلاقة مع هذا العدو الصهيوني من أنظمة عربية كثيرة هو جزء إما أن يكون مضمرا بالأصل وغير معلن أو يكون معلنا.. الآن في ظني أن الأمور بدأت أصعب وأصعب بكثير.
السؤال السابق وتفاصيل إجابتك تحيلني إلى دور المثقف في المجتمع؟ هل يختلف هذا الدور اليوم عمّا كان عليه في الماضي برأيك؟ وهل تعتقد أنّ الأدب قادر على تغيير المجتمعات؟ بمعنى متى يستطيع الأديب أن يمارس تأثيرًا حقيقيًا في رأيك؟
أنا أعتقد أن تأثير الكاتب والكتابة والأدب والفن هو في كل العصور، ولكن يبدو أننا بحاجة إليه في الأزمات الكبيرة أو حينما تطرح علينا الأسئلة الكبيرة التي علينا أن نعثر على إجابة لها، وهذه الإجابة بالتأكيد للمثقف دور أن يساعدنا في العثور عليها.. وقد يكون قد أجاب عن أسئلتنا التي نطرحها اليوم منذ زمن بعيد ولكننا لم ننتبه لإجاباته، ببساطة لأننا لم نكن قرأناه أو لم نكن قرأنا هذا العدد من المثقفين، وبالتالي نأتي ونتساءل، ما دور المثقف في هذه المرحلة.. هو دوره قبل كل المراحل وليس بعد.. قبل الأحداث الكبرى وليس بعد الأحداث الكبرى، دوره الأساسي.. ما الذي كتبه قبل هذه الأحداث.. ما الذي حذر منه.. ما الذي رآه قبل هذه الأحداث، وبالتأكيد هناك دور آخر بعد هذه الأحداث، لكن يهيأ لي أننا في كثير من الأحيان نبدأ بسؤال فقط عن دور المثقف حينما نشعر بأننا هزمنا، ونبدأ بالبحث، ونقول له أين دورك؟ أين أنت؟ ما الذي تقوله الآن؟ ولكننا لا نسأل أنفسنا أبدا، وهذه مشكلة كبيرة، ماذا كان دورنا في السابق..؟ ما الذي فعلناه في قراءة ما كتبه وما قاله وما حذره هذا المثقف..؟ فالسؤال مطروح عربيا بصورة واسعة دائما في الأزمات لكنه لا يطرح خارج الأزمات بمعنى ما دورنا في ما يحدث لنا بالحياة اليومية العادية؟ .. فتراكم ما يحدث لنا في الحياة العادية على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإنساني هو المحصلة النهائية لهذه الكوارث التي نعيشها لأنه لم يكن لنا دور، فالمثقف الحقيقي دائما له دور، قبل الأحداث وبعدها، لكن ونحن مواطنون وأنا مواطن أيضا يجب علي أن أسأل نفسي قبل كتابتي وبعد كتابتي ما هو دوري أيضا؟ بالتأكيد دوري الأساسي أن أكتب وأن أقدم شيئا يجيب عن أسئلة الناس ويقول للناس شيئا فيما يعانون ولكن أيضا حينما تكون المسؤولية كبيرة وكبيرة جدا كما يحدث في هذه الأيام فعلى كل إنسان مسؤولية أن يسأل نفسه ما الذي فعلته، وما الذي كان يجب أن أفعله وما الذي عليْ أن أفعله.
تُعد الثقافة البصرية أحد المنابع الرئيسية التي استقيت منها في أعمالك الأدبية، وخاصةً السينما، حيث استفدتَ من تقنياتها الفنية كالمونتاج والمشاهد في بناء رواياتك. برأيك، ما أثر ثقافة الصورة والبصريات على الخطاب الروائي بشكل عام؟ وكيف ساهمت في تطوير أدواته الفنية ورفده بتقنيات سردية جديدة؟ وهل تعتقد أن هيمنة الثقافة البصرية ستتواصل مستقبلًا، وستفرض نفسها على مختلف صيغ التعبير الإبداعي؟ خاصة أنك استطعت الجمع بين اهتمامك بالتصوير الفني وبين الكتابة الإبداعية؟ هل كان للتصوير تأثير على كتاباتك؟
أنا أظن الخطاب العام للنص الروائي هو الخطاب العام لكل الفنون، لكن تتنوع هذه الخطابات في داخلها.. تتعمق أو تتسطح أو تصل إلى نقاط تستكشف فيها أو تتناسى نقاطا مهمة كان يجب أن تتناولها، لكن على المستوى الفني نحن ـ لا أقول منذ اليوم ـ منذ أن بدأت السينما تخرج تولستوي قال «إن هذه العجلة الصغيرة ستغير الكثير مما غيره العالم» لكن لنعترف أيضا أن الرواية هي التي غيرت السينما، حيث استفادت السينما من الرواية ومن قطع الرواية ومن الفصول بالرواية، الفصل بالرواية هو مشهد طويل وقد يكون الفصل هو مجموعة مشاهد متتالية هناك من يتقن كتابتها وتقطيعها من الروائيين بصورة استثنائية، وهناك من لا يستطيع تماما كالمخرجين، يمكن أن تشعر أن هذا المشهد طويل جدا .. هو مشهد تصويري طويل أيضا، وإذا ذهبنا إلى الأدب قد نجد أن هذا الروائي يمتلك المشهد التصويري الطويل جدا قد يكون مملا أو تشعر أحيانا أن إيقاعه سريع، فالإيقاع جزء أساسي من صناعة السينما وجزء أساسي من صناعة الأدب لكن السينما امتلكت أشياء لا نستطيع نحن أن نمتلكها.. لا تقوم السينما بغير النص، لكن السينما نفسها تستند على مجموعة هائلة من النصوص تستند على النص الأدبي أو النص السيناريو الذي في الغالب هو يحدد قيمة هذا الفيلم مهما أنفق عليه، فهناك أفلام ينفق عليها ملايين لكن بنص سيئ وأحيانا أفلام ينفق عليها القليل ولكن تخلف لنا أفلاما جيدة، والسينما لديها الموسيقى والتمثيل والإضاءة والمسرح والتكنولوجيا، فالسينما قادرة على تجسيد أي فكرة مجنونة تخطر في مخيلتك على الشاشة، وبالتالي نحن نخوض حربا كبيرة ومنافسة مع السينما لكن من حسن الحظ أنه دائما يقال إن الروايات التي أنتجت سينمائيا في الواقع أن «الروايات» كانت أجمل من الأفلام، وهذا مسألة تحيلنا إلى نقصان الروافد التي تتكئ عليها الرواية، فهي شيء من كمالها أيضا.
حصلت على العديد من الجوائز الأدبية المرموقة على مستوى الوطن العربي والعالم، بما في ذلك جائزة البوكر العربية عن رواية «حرب الكلب الثانية». في رأيك، ما أهمية الجوائز الأدبية بالنسبة للأديب؟ هل تعتقد أنها تشكل دافعًا ومحفزًا قويًا للاستمرار والارتقاء، أم أن هناك عوامل أخرى أكثر أهمية؟ وهل ترى أنّ الجوائز معيار جيد للحكم على جودة العمل الأدبي وقيمته الفنيّة؟
هذه الجوائز أصبحت شكلا من أشكال التقليد في العالم كله ويبدو أن هناك رضا عنها من الكتاب ومن الناشرين ومن القراء أيضا، لكن بالتأكيد هي ليست المعيار الأساسي لجودة الفن أو قد تكون معيارا أساسيا لجودة المنتج.. قد تكون أحيانا وأحيانا لا .. ونحن لا نستطيع أن نقول عن الأسماء الكبرى التي نالت جوائز مهمة في العالم مثل ماركيز، وماريو بارجاس يوسا مثلا أنهما ليسا كاتبين مهمين، في المقابل لم يأخذها كونديرا ولكنه كاتب مهم، وجائزة نوبل لم يأخذها محمود درويش ولكنه كاتب مهم.
.. وعلى المستوى العربي؟
.. وحتى على المستوى العربي.. هناك من يأخذ الجوائز وقد لا يستحقها، وهناك من يأخذها ويستحقونها، وهناك من نال هذه الجوائز وأصيب بالسكتة الكتابية ولم يعودوا للكتابة وهذا شيء مفزع.. وهناك كتّاب فازوا بها وكانت محطة صغيرة في حياتهم وواصلوا الكتابة، فلا أعتبرها أنها حافز مطلق للكتاب ولا أعتبر عدم الفوز بها محبط لكل الكتاب، لكن دائما أقول هي بمثابة شكر للكاتب أنك أعطيتنا هذا الجمال الذي لديك، وأحيانا هناك لجان التحكيم تخطئ فيجيب عليها القراء بأنفسهم ولا يقبلون على هذا الكتاب.. إذن هناك رد شعبي، فالجائزة لا تجبرك على قراءة كتاب حتى النهاية، قد تجبرك بالبداية على أن تشتريه لتستكشفه وإذا لم تحبه فلك أن تتخلى عنه ببساطة وتتخلى عن كتابات الكاتب التي بعدها والتي قبلها.
يستعين الكثيرون في الكتابة بالتراث والفولكلور والقصص الشعبية العربية الأصيلة، مع منحها أبعادا إنسانية عميقة. في رأيك، ما أهمية الاستمداد من هذا التراث الشعبي الغني في الكتابة الإبداعية المعاصرة؟ وكيف يمكن للأديب أن يوظف عناصر الحكايات والأساطير الشعبية بطريقة فنية رفيعة دون الوقوع في فخ التكرار أو الاستهلاك؟ وهل ترى أن لجوء الأدباء لهذا التراث يعزز الهوية الحضارية ويمنح الأعمال الأدبية طابعا أكثر أصالة وتميزا؟
في ظني أن هذه المسألة تتعلق بكل كاتب على حدة، فبعض الناس حينما تقرا له تشعر أنه أعاد كتابة الحكاية فقط، وهناك آخرون تشعر أنه أعاد صياغتها من جديد ومنحها أبعادا وآفاقا جديدة، وهناك فرق بين هذا وذاك.. لكن اليوم أصبح الأدب قادر على أن يستلهم كل شيء في هذه الحياة، ليس هناك شيء محظور على الأدب أن يستلهمه بالمطلق بما فيها الحكايات الشعبية.
دعني أتحدث عن تجربتي، قد تحضر بعض الأشياء الشعبية أو الحكايات الشعبية في بعض الفصول في داخل النصوص الروائية وحتى الشعرية لكن دون أن تحس أنها حضرت، تصبح جزءا ذائبا ومذوبا في النص الكلي، وبالفترة الأخيرة (وهي كانت لأول مرة) من السابقين أن يحضر نصا تراثيا في رواية هي رواية الأخيرة «شمس اليوم الثاني» هذه الرواية كانت في الأصل حكاية قالتها أمي أكثر من ثلاثين سنة وسجلتها وفرغتها «ورقا»، فاكتشفت أنها حوالي خمسمائة كلمة، وحينما كنت أكتب في رواية «طفولتي حتى الآن» والتي تتحدث عن سيرتي في رواية وصلت إلى نقطة أن أمي تقول لنا هذه الحكاية أو كان يجب على أمي أن تقول لنا هذه الحكاية، فاعتقدت أنني سأكتبها صفحة أو نصف صفحة على الحد الأقصى، لكن أثناء الكتابة بدأت تتوالد إلى أن اضطرتني رغما عني لأن أخرجها من الرواية الأم «طفولتي حتى الآن»، وأن أضعها في ملف وأواصل الكتابة فيها وحينما أنهيت الكتابة اكتشفت أنني كتبت سبعة آلاف كلمة وحينما تأملت ما كتبت تبين لي أن أمي قالت لنا نصف الحكاية ولم تقل لنا كل الحكاية لأن هناك نصفا مفقودا فيها، فكان لزاما علي أن أكتب هذا النصف المفقود منها، وبالمصادفة جاءت سبعة آلاف كلمة أخرى فكانت الرواية .. فهي حكاية جدي مع جمله وتدور أحداث هذه الرواية سنة 1900 في فلسطين عن طفل يتنقل بين المدن الفلسطينية على جمله.
إذن أنا أعتقد أن هذا هو التحدي في أن يكون لديك كمية قليلة من الكلمات أو قصة صغيرة جدا لا تكفي قصة قصيرة وأن يعمل خيالك وخبرتك وقدرتك على أن تستنبط منها أفكارا جديدة أعم وأكبر، رغم أن المسألة متكئة على كلمات بسيطة، وهذا في ظني يذكرنا بالشجرة التي تكون بذرة صغيرة وتستطيع أن تكون شجرة، وهذا هو الدرس الذي يوجه لي ككتاب أنه إذا أردت أن تذهب للكتابة عن حكاية شعبية أو تستلهم تراثا ما تذكر دائما أن ما بين يديك هو بذرة، والتحدي الأكبر هو كيف تحولها إلى شجرة!.
على مدار مسيرتك الأدبية الحافلة، قدمت أعمالا روائية وشعرية جريئة حملت بصمة تجديدية واضحة. في رأيك، ما الدوافع الكامنة وراء حركة التجديد التي يشهدها الأدب العربي المعاصر؟ والتوجه نحو تجاوز الأشكال والأساليب التقليدية؟ كما نود معرفة رؤيتك حول مستقبل حركة التجديد في ظل المتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة في عالمنا العربي.
منذ البداية وعيت مسألة في ظني أنها كانت مهمة أن عليك أن تتنوع داخل تجربتك، وهذا ما حدث داخل تجربتي الشعرية، حيث بدأت بالقصائد العادية الواقعة في صفحة ونصف وصفحتين، ثم انتقلت فيما بعد للقصائد الملحمية التي تصل إلى ألف بيت ثم انتقلت إلى القصيدة التي تشبه نصف رواية مثل «نعمان يستبدل لونه» ثم القصيدة السيرية التي تتحدث عن سيرة أمي في ديوان كامل أو سيرة متخيلة مثل «مرايا الملائكة» التي تتحدث عن سيرة طفلة إيمان حجو الشهيدة التي استشهدت وعمرها أربعة أشهر، فكيف تبني سيرة متخيلة لهذه الرواية إلى هذه الطفلة في ديوان شعري كامل مكون من ثلاث وثلاثين قصيدة، وأخيرا القصائد القصيرة جدا التي صدر منها أربع مجموعات شعرية .. وبالمناسبة بالمرحلة التي كنت أكتب فيها القصائد الملحمية والتي صدرت في ديوان «الفتى النهر والجنرالات .. الحواريات» بعدها مباشرة كتبت القصائد القصيرة جدا فكانت أشبه بصدمة للقارئ ورغم ذلك اكتشفت أنه لم يكن أثر تجربة القصائد القصيرة جدا أقل تأثيرا من تأثير القصائد الطويلة إلى أن كان دائما طموحي أن أكتب عملا شعريا يستند إلى بناء الأوبرالي فكان ديواني الأخير «الحب شرير».. هذا الأمر أيضا كنت أتعمده في تجربتي الروائية الأولى «براري الحمى» التي اعتبرت رواية ما بعد حداثية وربما يمكن أن نعتبرها رواية نفسية أيضا، بعدها جاءت الرواية السياسية ثم التاريخية ثم الغرائبية ثم الخيال العلمي.. عليك أن تتنوع. فأن تكون أعمالك كلها في إطار واحد فهذه مشكلة، وهذا ما وعيته أيضا في «الملهاة الفلسطينية» فابتعدت عن فكرة الثلاثيات والرباعيات والخماسيات ففي كل مرة كنت أحرص على أن تكون هناك شخصيات جديدة وشكل فني جديد وطرح جديد وأمكنة جديدة، بحيث يمكن للقارئ أن يقرأ هذه الرواية من الملهاة أو حتى في «ثلاثية الأجراس» وربما تكون هذه من المسائل النادرة، فمع أنها ثلاثية إلا أن بإمكانك أن تقرأ أي رواية منها دون أن تكون مضطرا لقراءة الرواية الأخرى، ولكن السؤال.. ما سبب ذلك؟ الجواب: سببه فعلا أن لدينا الآن فيضا هائلا من الفن والكتابة العالمية التي تصب في عالمنا العربي وتترجم إلى العربية، وبالتالي لا تستطيع أن تكتب إلا وكل أدب العالم أمامك وأنت تعي هذا الأدب والفنون التي سبقها مثل السينما والفن التشكيلي الذي يعني بالنسبة لي (وقد سبق لي أني أقمت أربعة معارض فنية وفوتوغرافية) يصب في روايتي، والرواية تصب في شعري حينما قلت عن ديوان «مرايا الملائكة السيرة المتخيلة للطفلة إيمان حجو» بالتأكيد خبرتي في مجال الكتابة الروائية ساعدت شعري كثيرا وبعض الروايات مثل «طيور الحذر» في اعتقادي لو لم أكن شاعرا لكان من الصعب علي أن أكتبها، ففي كل هذه تتبادل الخبرات وتصب في بعضها البعض.
ذكرت في حديثك اعتبار رواية «براري الحمى» أنها ما بعد حداثية حيث لاقت نجاحًا كبيرًا واهتماما دوليا، ما الذي تعتقد أنه ميّز هذه الرواية عن غيرها من الروايات العربية؟
.. هو ما سبقها كان المهم -لا شك- فقبل كتابتها كنت أريد أن أكتب رواية تعبّر عن تجربة قاسية عشتها.. أو أنقل خبرة هذه التجربة إلى الشعر في البداية فلم أستطع أن أكتبها شعرا؛ لأنها كانت أكثر اتساعا من الشعر.. وفي تلك الفترة وقبل الكتابة كان هناك قرار بالنسبة لي وهذا في أوائل عمري «22 سنة» قلت لنفسي يبدو أنك ستصبح كاتبا لكن ما الذي تعرفه عن الكتابة؟ ما الذي تعرفه عن الأدب؟ ما الذي تعرفه عن السينما؟ فأعددت برنامجا أظن أنه كان من أفضل ما قمت به في حياتي، بحثا عن الأدب الإغريقي والمسرح الإغريقي وهناك عشرات الأعمال المترجمة العربية بصورة هائلة كنت أقرأ كل هذه الأعمال المسرحية وأقرأ كل ما كتب عنها الملاحم الإغريقية، أقرأها وأقرأ الملاحم الهندية، بلاد الرافدين ثم أنتقل لما بعدها إلى المسرح الكلاسيكي إلى أن وصلت للرواية الكلاسيكية، وكل هذه الأعمال التي كتبت في القرن التاسع عشر ثم الرواية الحديثة، وحينما أقول الرواية الحديثة فهي تعني أبرز الأعمال الرواية التي وصلت إلى مسرح العبث وكل هؤلاء الكتاب الرائعين جدا فدائما كنت أقرأهم وأقرأ ما كتب عن أعمالهم.. وفي السينما كنت أحضر لنفسي أسابيع فنية تتبع في أسبوع أفلام فليني وكوبولا في أسبوع آخر، وهكذا في الشعر، ويوميا قراءة استثنائية.. وحينما كتبت «براري الحمى» كنت أعلم ما الذي كتب قبل كتابة هذه الرواية، وقبل فترة قصيرة كنت في إسبانيا أقدم النسخة الإسبانية من «براري الحمى» وكان هناك سؤال شبيه بهذا السؤال: من أين أتيت بهذه الفنية العالية التي جعلت النقاد الغربيين يعتبرونها ما بعد حداثية؟ أو تختارها الجارديان واحدة من أهم عشر روايات كتبت عن العالم العربي سواء كتبها عرب أو أجانب؟ وحينما تأملت أظنني وقد تستغرب أنه كان للمسرح الإغريقي دور فللمسرح دور أكبر من دور الرواية الحديثة؛ لأن هناك تعلمت ما يمكن أن أدعوه حركة الداخل وهذه الرواية تدور في مكان مقفل رغم أنه مكان واسع جدا «الصحراء» لكن هو مكان مقفل لأنك وحيد وكل الأماكن في ظني مقفلة إذا كنت فيها وحيدا مهما كانت واسعة.. والحدث يدور في ليلة واحدة ويدور في داخل الشخصية وبالتالي المونولوج طويل مع الروح وفي اعتقادي أنه فعلا كان والد هذه الرواية هو فنيات المسرح القديم لكن معززة بالتأكيد بما يمكن أن يقوله فن الرواية لأنك أنت لا تكتب مسرحا.
أثارت تجربتك في قصيدة «نعمان يسترد لونه» جدلا كبيرا، فلماذا اخترت هذا الموضوع؟ وكيف ترى الردود التي أثارتها؟
حينما تكتب عن شيء عليك ألا تتساءل ما الردود التي ممكن أن يثيره ما كتبت، فأنت في أفضل حالاتك كالجندي يمضي إلى الحرب.. يريد أن يحمي وطنه ويدافع عن مبادئه وعن الأشياء الجميلة التي يؤمن بها، قد ينتصر ويعود وقد ينتصر ويفقد حياته وقد ينهزم أحيانا وهكذا النص فكل الاحتمالات في كتابته واردة.. في النص الذي ذكرته تحدثت عن مرحلة محورية في حياة المقاومة الفلسطينية في الأردن، وتلك التفاصيل التي عاشها الشعب الأردني والشعب الفلسطيني في عام 1970 الذي أطلق عليه «أيلول الأسود» وهو منطقة يحاذر الجميع الحديث فيها، لكن ألا ترى وحشا يريد التهامك هذا لا يعني أن الوحش غير موجود.. عليك أن تمتلك الجرأة للحديث في مواضيع كبيرة حتى نتجاوزها ونصل إلى حلول لها أو نقول رأينا فيها، وهذا الديوان من الأعمال التي ذهبت في هذا الاتجاه أنها تقول رأيها في مرحلة يتم غض النظر عنها وكأنها غير موجودة، وفي ظني مهما كان الغرض نبيلا إلا أنه ليس صائبا.. لأنه على الكاتب أن يتحدث في المواضيع التي لا يجرؤ الناس في التحدث فيها.. ردة الفعل هي ليست ردة فعل الناس تجاه هذا العمل الشعري، إنما هي ردة فعل الرقابة الأردنية التي دائما كانت ترفض وكانت تعتقد أنه أمر غير مقبول إلى أن أدت المسألة تحويلها إلى المحكمة عام 2006 بعد 22 سنة من صدور هذا العمل وهذه مسألة مضحكة واتهامات كبرى للعمل في حين أنه أثبت الزمن (22 سنة) أن هذه الجرائم التي ألصقت بالعمل غير موجودة في الحياة العادية، فالناس قرأوا هذا العمل وتجاوزوه (فالوحدة الوطنية مصانة.. والحياة مستمرة.. والتلاميذ في المدارس لم يتغيروا)، وفي اعتقادي أن ما حدث هو نوع من الغباء الذي لم تزل تمارسه الرقابة ضد الكتاب في عالمنا العالمي حتى اليوم، وديوان «نعمان يسترد لونه» ليس هو الذي أصيب بهذه الحالة حيث سبق لعدة أعمال أخرى أن صودرت مثل رواية «طيور الحذر».. وهنا لا يتسع المجال أن أتحدث عن أشياء أخرى تعرضت لها شخصيا بسبب الكتابة وحدها، لكن عليك أن تكتب وأن تتحدث بجرأة، وقد تحدثنا قبل قليل عن دور المثقف فإذا لم يستطع المثقف الآن أن يتحدث بجرأة فمن الذي يقوم بهذا الدور؟
على مر السنين، حظيت أعمالك الأدبية باهتمام نقدي واسع، تم تناوله من زوايا مختلفة. في رأيك، ما دور النقد الأدبي في النهوض بحركة الإبداع والارتقاء بها؟ وهل ترى أن النقد العربي المعاصر يواكب التطورات التي يشهدها الإبداع الأدبي من حيث الأساليب والاتجاهات أم أن هناك فجوة ما زالت قائمة بينهما؟
لمرحلة من المراحل ربما لأوائل التسعينيات كانت هناك علاقة معقولة بين النقد وبين الأدب لكن فيما بعد حدثت فجوة ليس النقد وحده هو المسؤول عنها، فقد بدأت المنابر الكبيرة تموت خاصة المجلات الثقافية وبدأ دورها يتلاشى تدريجيا، والناقد حينما يكتب يريد منبرا يتسع لدراسته وليس لمراجعته التي يمكن أن تنشر في صحيفة يومية، ولذلك ضاقت مساحة النقد، لكن أيضا هناك فورة كبيرة من الكتابة وأعداد الكتاب أصبحت مهولة فعلا، وأصبحت هناك شهوة للكتابة لمن يستطيع ومن لا يستطيع الكتابة، فالكل يريد أن يكتب وأن ينشر، وصار هناك جشع كبير من قبل كثير من دور النشر التي بدأت تنشر فقط لأنه يدفع، وأصبح من المستحيل على النقد أن يتابع هذه المسائل.. فاليوم أشعر بأن العلاقة بين الكتاب والقارئ أصبحت علاقة مباشرة حيث أصبح القراء هم نقاد العمل لأنهم المستقبلون له، الذين يتحدثون عن هذا العمل ويكتبون أحيانا عن هذا العمل بعضهم يكتب بصورة جيدة بالتأكيد بعضهم يكتب بصورة سيئة، لكن حين ضاقت مساحة الناقد اتسعت مساحة القارئ في هذا المجال وبدأ القراء هم الجسر بين بعضهم بعضا بشأن هذا الكتاب الجميل أو عكس ذلك، لكن ما عوض أكثر (وهذا ألمسه من خلال تجربتي) هو عدد أطروحات الماجستير والدكتوراة التي بدأت تعوض عن هذا المجال خاصة إذا ما تذكرنا أن من يقدم أطروحات ماجستير أو دكتوراة في كاتب ما معنى ذلك أنه مستقبلا سيكون هذا الكاتب محور نقاش لديه في غرف الصف، وبالتالي هذه الأطروحة تتواصل في تلاميذه وهذا شيء أعتز به كثيرا.
ما تقييمك للحركة الثقافية والأدبية الراهنة في العالم العربي؟ وهل أنت راضٍ عن مستوى الاهتمام بالثقافة والكتاب؟
لا يوجد أي اهتمام على المستوى الرسمي بالكتابة ولا الكتاب ببساطة، ودائما ما تعاملت السياسة العربية مع الكتاب وكأنهم نقيض مطلق لها وكأنهم ليسوا هم الصورة الحقيقية لهذا الشعب أو ذاك الشعب، حينما نتحدث عن بلد ما ونقول إن فيه فلانا وفلانا من المبدعين والفنانين فنحن نتحدث عن بلد غني وله جذوره وله مساهمته الجمالية في العالم وحينما نتحدث عن شعب لا نجد لديه كاتب فنحن نحزن ونطرح السؤال: لماذا لا يوجد هذا العدد من الكتاب؟، فالسياسة العربية بشكل أساسي غير معنية بالكتاب وعمليا لا تحبه بوضوح، وأبسط شيء ليس هناك حماية حتى للمواثيق التي توقعها الدول العربية بشأن حماية حقوق الكتاب وحماية حقوق الملكية الفكرية، فهذا التزوير المرعب لم تستطع أي دولة عربية حتى الآن أن تأخذ موقفا واضحا له وشجاعا بأن تحاسب المزورين، حينما يسرق شخص جائع «علبة فول» يُزج به إلى السجن، لكن أن يأتي مزور ويطبع آلاف النسخ من الكتاب ويبيعها في السوق فلا أحد يقول له أي شيء! هذا معيب ومحزن، هذا ما يحدث بالفعل لا تنفذ القرارات المتعلقة بالكتابة في عالمنا العربي إلا حينما تكون ضد الكاتب وحينما تكون معه ومع حقه فإنها لا تنفذ أبدا!
بعد هذه المسيرة الطويلة.. هل ما زلت تطمح لتحقيق أهداف وآمال أدبية أخرى؟
ما دام الإنسان على قيد الحياة فلا تنتهي المشاريع، وبالنسبة لي فلا أتحدث عن أهداف، بقدر حديثي عن مشاريع أعمل عليها أو أعمل للتحضير لها منذ زمن طويل، وكل ما أتمنى أن يكون الوقت كاف لأنفذها.. فهناك مشاريع روائية وشعرية كثيرة أتمنى أن تنفذ، ولدي -بشكل أساسي- مشاريع روائية فقط تحتاج إلى وقت.. فليست القضية الفلسطينية فقط أو ما يدور في عالمنا العربي هو ما يشغلني.. ما يشغلني هو كل ما يدور في هذا العالم وأعتبر أن المساحة التي تتحرك فيها كتابتي هي منذ آدم وحواء حتى ما بعد ربما خمسين ألف سنة مما يمكن أن يحصل في العالم ولذلك كتبت رواية «حرب الكلب الثانية» عن المستقبل.. الآن أو منذ سنة عمليا أعمل على رواية تتحدث عن فترة قديمة جدا في تاريخ البشرية فهذه هي المساحة التي تتحرك فيها، ويبدو أن ما يحدث من دمار وتدمير لهذا الكوكب الصغير الجميل ولهذه الشعوب التي تطوق إلى الحرية يجعلنا نخاف جدا على المستقبل وبالتالي أتمنى أن يكون المستقبل جميلا.