توقفت منذ بعض الوقت عن مشاركة يومياتي حول استمرار الإبادة الجماعية بالغة الوحشية في غزة، ربما ما عدتُ أحتمل هذا العجز، وما يظنه الناس نسيانًا، أو اعتيادًا على هذه الكارثة، قد يكون طريقة يتعامل فيها العاجزون مثلي عن فعل شيء حقيقي، يستطيع أن يوقف هذه المجزرة بكل أشكالها.

هي إذن خيبة أمل شخصية، وانهيار داخل الذات، وتقهقر إلى ركنها المظلم، لا أعتقد بأنني الإنسان نفسه بعد السابع من أكتوبر الماضي، أشياء كثيرة تغيرت فيّ للأبد. لقد جاءت هذه الكارثة لتكون بمثابة ختم شمعي على شكل هذا العالم الذي نعيش فيه، وعلى من يستطيع أن يتناسب واللعبة القذرة والمأساوية التي وجدتُ نفسي وآخرين متورطين بها. لكن لا بد من أن نتحدث عن هذه اللحظة التاريخية القاتمة، لقد بدأت الأكاديميا (الغربية) التي خذلتنا كل أنواع الخذلان منذ بداية هذا العدوان، باستخدام العدوان والصعود على أكتافه، هذه الأكاديميا التي صرعتنا بالدراسات ما بعد الكولونيالية، وبعدم مركزية أوروبا، وبانحياز نظرية المعرفة الأوروبية وأدبياتها، هي نفسها التي لم تفعل شيئًا إزاء ما يحدث بل وساندت الاستعمار ووحشية إسرائيل في غالب الوقت، أو تهربت بحجة تعقيد الوضع في الشرق الأوسط.

تعودنا منذ سنوات على مجموعة من الباحثين العرب الذين يقيمون ويعملون في هذه الجامعات الأوروبية والأمريكية المرموقة، والذين يُظهرون نوعًا من الانحياز للثقافة العربية والإسلامية ضد «الإسلاموفوبيا» أمثال الباحث وائل حلاق، الذي وإن كان ينحدر من خلفية دينية مسيحية، إلا أنه يتحدث عن الإسلام ومنجزاته عبر التاريخ، في محاولة لا تخلو من التلاعب لمواجهة النزعة الاستعمارية الأوروبية. لكن هل هذا ما نحتاجه حقا؟ هل ما نحتاجه هو ما أشار له سلافوي جيجك بـ«الابتزاز المزدوج» الذي يمنع اليسار في العالم اليوم من تبني مواقفه الجذرية، لصالح خطاب يحاول ويدعي التعامل مع كل ثقافة حسب خصوصيتها، والاعتراف بحق كل ثقافة في أن توجد كما هي عليه، دون أن يكون هنالك قيم إنسانية مشتركة، نستطيع كبشر اليوم أن نعتبرها المرجع والرافد الأساسي لحياتنا وكرامتنا؟ وكل هذا لِمَ؟ أليست هذه الطهرانية، بذيئة ومبتذلة بالقدر نفسه، عندما لا تستطيع تجاوز نفسها على الإطلاق، تجاوز مجرد النقد السطحي غير المركب لتمركز الغرب حول نفسه، وتقديمنا في صورة الضحية المطلقة لهذا الدور؟ ماذا عن البحوث التاريخية الجادة والتي وللأسف الشديد لا تلقى رواجًا بالقدر نفسه، حول تركيب المعرفة الأوروبية، وعلاقة المسلمين وبقية العالم بها، وعدم وجود ثقافة مستقلة أو (أصيلة) بمعنى من المعاني، وأن العالم لطالما كان متواصلا ومتواشجا، الأمر الذي أفضى لميزان القوى بشكله الحالي، كما هي أطروحة بيتر فرانكوبان في كتابه «طرق الحرير: تاريخ جديد للعالم»؟

ماذا عن الاستبداد الذي يرزح معظم العرب تحت مظلته والذي يسهم في تردي الحال العربي، وفي فقدان الدولة العربية لسيادتها، وفي أنها ليست أكثر من وكالات غير شرعية لأوروبا وأمريكا، التي تحمي الحكومات المستبدة، وترسخ وجودها، بينما تدعي في الجانب الآخر، التنور والديمقراطية؟ ماذا عن نقدنا لثقافتنا، وتحملنا قدر من المسؤولية تجاه المستقبل، ومراجعتنا لكل ما حدث خلال الخمسين سنة الماضية؟ كيف تبدو خلافاتنا اليوم؟ وما الذي يغذيها؟ وكيف يمكن أن نهيئ فضاءً أرحب لخنق وترويض هذا الحيوان البري المتوحش الذي هو واقعنا؟

نحتاج للحديث أكثر من أي وقت مضى، ومشروعنا التحرري أصبح ملحًا وضروريًا بلا عودة، وما تهافت الناس على أصحاب قنوات اليوتيوب «الشعبويين» ممن يؤمنون بنظرية المؤامرة ويقدمون قصصًا لا سند لها سوى نبرة الصوت الواثقة أو التلويح بـ«أتحدى أي أحد يقول عكس اللي أقوله» إلا علامة على تعطشنا جميعا لخلق مجال عام يستطيع أن يحتوي الذعر الذي تبثه إبادة الفلسطينيين فينا. لكن في المقابل لا ينبغي أن ننخدع بهؤلاء الأكاديميين الذين لا يمارسون دورا أكثر من كونهم أداة لغسيل عار وجرائم أوروبا وأمريكا اليوم، ووسيلة تسوية رخيصة لا تساوي قطرة دم واحدة نُزفت في فلسطين الآن. لا شيء سيجعلنا أقل سخطا وغضبا وحقدا على ثقافة حقوق الإنسان التي لم تتجاوز كونها أيديولوجية أخرى للهيمنة علينا، لكن في الوقت نفسه ينبغي أن نوجه هذا الغضب في الاتجاه الصحيح، دون أن نسمح بمصادرته.