مما لا شك فيه أن التطور والتقدم الإنساني الذي يقوم على تراكم واستمرارية الجهد والإسهام العلمي للعلماء والباحثين والمبتكرين في مختلف المجالات وعلى نحو موثوق فيه ومعتمد وفق معايير تتجاوز المعايير المحلية إلى المعايير والأسس المعتمدة دوليا، قد أوجدت إطارا علميا يحظى بالاعتراف والمصداقية على امتداد العالم استنادا إلى ترسانة الأسس التي يقررها المجتمع العلمي المعني في كل مجال من المجالات، ووفق ما يتفق ويتعارف عليه علماؤه، وقد أدى التراكم العلمي في هذا المجال، بتعدده وتنوعه إلى اطراد التطور العلمي في العلوم المختلفة وعلى أسس مفروغ منها ولها نفس المصداقية والاعتمادية في مختلف مراكز وأكاديميات البحث العلمي الرفيعة أيا كان مكانها في العالم.

وبالنظر إلى الأهمية الكبيرة لدور المحتوى العلمي في معظم، إن لم يكن في كل المنتجات التي يستخدمها البشر والتي تطرح في الأسواق بشكل دائم ومتواصل فإن العلم والابتكار والإجادة اكتسبت ليس فقط مزيدا من الأهمية على المستوى العلمي والبحثي في مختلف مناطق العالم ولكن على الصعيد التجاري والتسويقي أيضا، وأصبح من المعروف أن مشروعات الأبحاث في مراكز البحوث والأكاديميات المتخصصة والجامعات والشركات المتخصصة بالعمل على ترجمة الأبحاث العلمية إلى منتجات تكلف مشروعاتها عشرات بل ومئات الملايين من الدولارات، كما تستقطب أيضا المتميزين في تخصصهم من مختلف مناطق العالم اعتمادا على إنجازاتهم النظرية والعملية من البحوث، كما تستقطب العديد من الباحثين والعلماء ذوي السمعة المعروفة في مجالات تخصصهم، وهو ما أضفى طابعا اقتصاديا إنتاجيا على الكثير من المنتجات في إطار علاقة تسعى لتحقيق أكبر استفادة ممكنة، وزيادة الاستفادة قدر الإمكان وتقليل تكلفة استخدام المنتج بقدر ما، لزيادة الاستفادة من المنتج لصالح المستهلك، وبالتالي تداخلت بشكل متزايد وتقاطعت حلقات العلم والابتكار والاختراع والإنتاج وتحسين وتطوير الإنتاج في ضوء الاستخدام العملي للمنتج والنتائج المختلفة لهذا الاستخدام في ظروف مختلفة ومتغيرة لمعرفة كل معطيات التعامل مع المنتج وأفضل السبل للاستفادة منه في الظروف المختلفة.

ومع تزايد الارتباط بين العلم والابتكار والبحث العلمي حرصت حكومة سلطنة عمان منذ انطلاق مسيرة النهضة الحديثة على العناية بتطوير التعليم في سلطنة عمان من خلال تطوير وإجادة كل معطيات العملية التعليمية وفتح آفاق عملية ومتطورة للتوسع المستمر في هذا المجال، وذلك للأخذ بيد الباحثين في مراكز البحث العلمي، وإتاحة الفرصة لتشجيع الباحثين بمختلف السبل. ومنذ أن تولى حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في الحادي عشر من يناير عام 2020 تواصلت استراتيجية النهوض بالعملية التعليمية في البلاد ضمن النهوض الشامل بالتعليم وتوفير كل متطلبات التطوير الشامل والمتواصل لاحتياجاته ومتطلبات مواكبته لما يحدث من تطوير متواصل ومتسارع وبتنافس لا هوادة فيه بين العديد من الدول ومنها سلطنة عمان والتي كان عدد الطلاب فيها عام 1970 لا يتجاوز 900 طالب وعدد مدارس لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

وإذا كان من المؤكد أن الهدف من هذا المقال ليس الحديث عن النهضة العلمية والبحثية في سلطنة عمان خلال السنوات الماضية ولكن ما تفضل به جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله ورعاه- بمنح وسام الإشادة السلطانية من الدرجة الثانية الأسبوع الماضي لعدد من الشخصيات العمانية تقديرًا من لدن جلالته -أعزه الله- لإسهاماتهم وأدوارهم البارزة في عدد من المجالات المختلفة، تكتسب الكثير من الأهمية وعلى أكثر من مستوى، وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار إلى عدد من الجوانب، لعل من أبرزها ما يلي:

أولا، إنه في الوقت الذي تتسم فيه المناسبة التي أعلن فيها هذا التكريم السلطاني للعلماء والباحثين والشخصيات الذين حظوا بهذه اللفتة السامية وهي مناسبة تولي جلالته -حفظه الله ورعاه- مقاليد الحكم في البلاد بأهمية رمزية بالغة وهذا الاقتران ليس مصادفة، خاصة إذا شكل تقليدا للاحتفال سنويا بعدد من ذوي الإسهام البارز العلمي والعملي من المتميزين، ومن ثم فإنه يفتح في الواقع مجالا على أرفع المستويات لتوجيه الاهتمام والإشارة بالبنان لشخصيات عمانية بارزة وتستحق الاحتفاء بها وتوجيه الاهتمام المجتمعي والعلمي والعملي إليها، للاستفادة الأكبر بخبراتها العلمية والعملية لصالح المجتمع في وقت تسعى فيه مختلف الدول إلى حشد طاقاتها والتعريف بها داخليا وخارجيا لدعم تنميتها وجهودها لتنشيط التنمية الشاملة والمستدامة لها وللأجيال القادمة، وقد أصبح لدى سلطنة عمان -ولله الحمد- بفضل تراكم منجزاتها في ظل النهضة العمانية الحديثة والمتجددة خلال السنوات الماضية ما يحق لها أن تفتخر به وتقدمه لتعريف الأشقاء والأصدقاء بحجم ونوعية ما حققه العمانيون في المجالات المختلفة، وكالعادة بصمت ودون ضجيج، ويكفي على سبيل المثال استعراض القائمة التي ضمت الذين تم منحهم وسام الإشادة السلطانية ومنهم الشخصيات العمانية الأخرى التي تم تكريمها في قطاع البيئة وفي مجال الطب وجراحة القلب إلى جانب من حصل على جوائز عربية وعالمية في الأدب والثقافة والشعر والتصوير الضوئي ومنهم في مجال تكنولوجيا المعلومات والعلوم الإنسانية والتربوية والهندسة الكهربائية، وتكريم رياضيين في سباق السيارات ورياضات مختلفة فضلا عن تكريم شباب لإسهامهم في أعمال تطوعية على المستوى الخليجي والعربي، وفي مؤتمرات دولية، وكذلك في مجال الإجادة المؤسسية، وقد تمت الإشارة بالتفصيل إلى أسماء المكرمين الأسبوع الماضي في وسائل الإعلام. جدير بالذكر أن معالي السيد وزير ديوان البلاط السلطاني أشار إلى أن الإنعام السامي بمنح هذه الأوسمة للمذكورين يأتي تجليًا للمتابعة الكريمة من لدن جلالته -أيده الله- والتقدير التام لجميع الجهود التي تبذل في خدمة هذا الوطن العزيز وعلى كافة الأصعدة والمجالات، وليكون ذلك التكريم باعثًا لتحقيق مزيد من العطاء.

ثانيًا، إنه من خلال الوضع في الاعتبار أن النجاح في حد ذاته وبسببه يمنح قدرة على مواصلة العطاء، فالجهد الكبير الذي يبذل في تحقيقه يعطي صاحبه شحنة كبيرة من الثقة والاعتزاز والقدرة على التقدم للأمام. وعندما يعطي هذا النجاح صاحبه نوعا آخر من التميز بأن يكون عضوا أو ضمن مجموعة متميزة من المواطنين الذين يكرمهم جلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- في مناسبة وطنية غالية هي مناسبة تولي جلالته مقاليد الحكم، فإن ذلك يكون مدعاة لمزيد من الفخر والاعتزاز بالتأكيد خاصة للذين يريدون وضع أنفسهم في مكانة يرون أنها تليق بهم، ولمن يتطلعون إلى حفر أسمائهم بتكريمهم في هذا الموقع الوطني المتميز، وهو ما يشكل حافزا أيضا للكثيرين من أقرانهم كونها فرصة لإثبات قدراتهم ومهاراتهم التي يملكونها.

ثالثا، إنه في الوقت الذي تشكل فيه قضية التميز والابتكار والعمل على إعطاء العمل حقه من الوقت والاهتمام والالتزام بالحفاظ عليه وعلى أسراره وكل ما يحقق الهدف منه بما في ذلك مصالح الوطن والمواطن في النهاية، فإن قضية الالتزام والأداء في العمل هي في النهاية قضية شفافية الشخصية وقضية الضمير الشخصي تسمو بالالتزام بالقانون؛ لأن البعض يحول ذلك أحيانا إلى نوع من مراقبة عقارب الساعة، بغض النظر عما إذا تم إنجازه لصالح العمل ولصالح المواطنين، وكلما اتسمت أنظمة العمل بالمرونة والتفهم المتبادل بين الموظفين والعاملين وبين الإدارة قلت مشكلات العمل، وكلما زاد حافز العاملين للمزيد من العطاء والرغبة في الالتزام الذاتي بما يفيد العمل بشكل واقعي ظل التطور المتواصل في الإجراءات والأنظمة المتصلة بتنظيم بيئات العمل، فمن المهم والضروري في الواقع العمل من جانب الدولة على زيادة الوعي بتطوير بيئات العمل وإشراك العاملين في إدارة العمل والاستفادة من تصوراتهم لزيادة الإنتاجية والحد من الهدر باعتبارهم أصحاب العمل وليسوا مجرد شركاء ويفتح ذلك المجال لمزيد من التطوير والابتكار بالضرورة. يضاف إلى ذلك حقيقة أن الموارد البشرية العمانية المتخصصة ورفيعة المستوى تشكل جسرا شديد الأهمية في فتح ودعم مجالات التعاون مع الأشقاء والأصدقاء في مختلف المجالات وهو ما يستحق تعريف الآخرين به والتوسع فيه اليوم وغدا فعُمان لديها ما يحتاجه الآخرون.