قلتُ في خاتمة مقالة سابقة لي في جريدة (عمان) قبل أشهر بعنوان «مجمع عُمان الثقافي العرس المنتظر»: «نحن منتظرون ذلك العرس البهيج لافتتاح مجمع عُمان الثقافي، كما أننا منتظرون بفارغ الصّبر افتتاح المكتبة الوطنية، والتي نراها إضافة كبيرة في هذا العهد الجديد، وفي رؤية عمان 2040، وسيذكر هذا الحدث جميع الأجيال القادمة، ويستفيد من هذا المجمع ليس العمانيون فحسب؛ بل هو إضافة للمجتمع الخليجي والعربي عموما»، وبالأمس الأحد فاتحة الأسبوع كانت البشارة أن «تفضّل حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله ورعاه- بوضع حجر أساسه بمرتفعات المطار في محافظة مسقط».

والمستفيد الأكبر من هذا المجمع الشباب بأطيافهم المتعددة، ومواهبهم المختلفة، حيث المجمع شمل ثلاثة أجنحة رئيسة: المسرح الوطني، والمكتبة الوطنيّة، وهيئة الوثائق والمحفوظات الوطنيّة، أي أنّه جمع بين الفن والعقل والتّراث.

أما الفن وما يتعلّق به من مسرح وتمثيل وموسيقى وفنون شعبية وإبداعية ورسم ونقش وتصوير وسينما، سيجد ملاذا له وتشجيعا في هذا المجمع، فللشباب مواهب فنيّة وإبداعية متعددة ومتنوعة، ووجود حاضنة لهم؛ بلا شك ينمي هذه الإبداعات، ويبرزها للمجتمع، وتعطي بذاتها لوحة جمالية لعمان، وتجعل الفنّ مسهما بشكل كبير في التنوير والوعي الثقافي.

وأمّا العقل وما يتعلّق به من قراءة وبحث واطلاع وتحقيق واختراع وابتكار وتأليف وترجمة ونقد، فهذه ضرورة مهمة لرقي المجتمعات وتطوّرها ونمائها، وهو الثمرة التي سيباهى بها المجمع بين الأجيال والأمم الأخرى مستقبلا، وتكون نتاجا للمكتبة الوطنيّة ورافدا لها أيضا في الوقت نفسه.

وأما التراث فلكل أمّة تراثها من وثائق ومخطوطات، ومن آثار مادية، وروايات شفهية، وعمان تأريخها عريق في هذا، وذاكرتها مليئة بالأحداث، فضلا عن الوثائق والمخطوطات المهاجرة، والّتي بحاجة أن ترجع ولو صورة إلى وطنها الأم، كما أنّ الذاكرة العمانية متجاوزة لحدودها الجغرافيّة الحاليّة، إلى عالم أوسع، في أفريقيا وشرق آسيا والهند وباكستان والخليج والعراق ومصر وغيرها، ووجود حاضنة لهذا التّراث وهذه الذّاكرة في المجمع بلا شك سيسهم بشكل كبير ليس في حفظه وحسب؛ بل في رقمنته وتحقيقه ونقده ليعطي صورة مهمّة عن التّأريخ العمانيّ وذاكرته.

ولمّا زرت قبل سنوات معرض قم للكتاب في الجمهورية الإسلامية الإيرانية عام 2017م تصوّرته في الابتداء معرضا مؤقتا لأيام محدودة، وفعلا كان حينها لمدّة ستة أيام فقط، ولكن لما ذهبت إليه ثانية عام 2022م وجدته أيضا موجودا، وإن كان أقلّ صورة من السابق، إلّا أنني اكتشفت لاحقا أنّ هذا المجمع الكبير (المول) ذو الطوابق الثلاثة، هو معرض مستمر للكتاب، من حيث البيع والقراءة والمقاهي ومكان التّأليف وبيع الأدوات المعنيّة بالبحث والطّباعة، مع تحديد أيام معينة ليكون معرضا بشكل أوسع، تشارك فيه بعض المكتبات من داخل إيران وخارجها، وهذا ما سيتحقّق مستقبلا في مجمع عمان الثقافي، سيكون معرضا مستمرا للتأليف والإنتاج والإبداع.

وما رأيته في معرض مسقط الدولي للكتاب وكتبت عنه إذ قلت: «والمعرض بجانب الفعاليّات الثقافية حوى الفعاليات الفنية، من فنّ وموسيقى ومسرح وسينما ورسم ونقش ونحت مع الخط العربي، بجانب الورشات والمعارض الفنيّة والحفلات الغنائية، وسعيد جدّا أن أرى تلك المواهب الشّبابيّة والفنيّة تقدّم إبداعها الفني بكل حريّة، في فضاء من الجمال والتّنوع والتّعدّد»، هذه الصّورة الجماليّة الّتي كنّا نراها لعشرة أيام فقط في معرض مسقط للكتاب؛ سنراها غدا بشكل مستمر، يجني ثمرته أجيال وأجيال.

ومن المعلوم أنّه لا يوجد إبداع إذا لم تتوفر الحاضنة له من جهة، ومن جهة أخرى يجد دعما ماديّا ومعنويّا، وأمّا الدّعم الماديّ فواضح أمره، وأمّا الدّعم المعنويّ فيتمثل في الحريّة والانشراحة، فوجود مساحة كبيرة من الحريّات يؤدّي إلى رفع درجة الإبداع في المجتمع، كذلك لمّا تتوفر تلك الانشراحة الأفقيّة والرّأسيّة، أي من المجتمع والسّلطة؛ هذا يسهم بشكل كبير في الإبداع من حيث التّنوّع والعمق معا.

إذا نحن أمام تحوّلات قادمة في الرقي بالجانب الثقافي والإبداعي في المجتمع العماني، وقد رأينا بعض صوره الأخيرة من التّكريم والفوز والحضور العربيّ والدّوليّ، وقد كتبتُ حوله العديد من المرات، والّذي يهمني هنا، بوجود هذا المجمع الثّقافي؛ سنكون أمام تحوّل جديد، سيسهم في تعميق هذا الإبداع والاختراع والإنتاج ليكون أكثر عمقا وحضورا وتنوّعا.

وإذا كان التّنوّع حالة مهمّة وطبيعية في الوقت ذاته، حيث للنّاس ميولات ومواهب متباينة، ولكلّ عالمه وطريقته في ذلك؛ إلّا أنّ التّعدّديّة في التّنوع الواحد ذاته لا يقل أهميّة؛ لأنّه يؤدّي إلى التّنافس المحمود، بينما حجر الجميع في زاوية واحدة يؤدّي إلى الجمود والفساد، وهذا ما نرجوه من المجمع الثّقافيّ أن يكون حاويا للجميع، ومستوعبا لجميع المواهب، وأن لا يكون على صورة واحدة، ليجد الكلّ فيه ملاذا لمواهبه وإبداعه.

وإن كان ثمة رجاء؛ فأرجو أن يكون للمجمع الثقافي أوقافه الخاصة، والتفكير من الآن في العمل الوقفي له، ليكون ملازما له من هذه اللّحظة، لأنّ العديد من الجامعات الكبرى في العالم، والكراسيّ العلمية، والمكتبات الشهيرة؛ لها أوقافها الخاصّة، حيث لا تتأثر بالتّأثرات الماديّة، فلها سيولتها الّتي بها تكون أكثر استقرارا من جهة، وتواصل دورها الريادي والثقافي من جهة أخرى.

كما أرجو من رجال الأعمال، أو المجتمع المدني، أن يدركوا أنّ وقف أموالهم كان ماديّة أو تبرعات نقديّة لها ولأوقافها من أفضل ما يسهم فيه الإنسان في المجتمع والوطن، فهناك الجوائز العالميّة وعلى رأسها نوبل مثلا عبارة من الأصالة عن وقف، حيث إنّ مثل هذه المجمعات الثّقافيّة لا تحيي أبدانا فحسب؛ بل تحيي عقولا تسهم في رقي جميع جوانب المجتمع، ولها تأثيرها في الوطن لفترات سنويّة طويلة، وكانت هذه الصّورة حاضرة في عمان، فلا توجد مدرسة أو مكتبة إلّا ولها أوقافها، وهي سنّة عمليّة حميدة، نجدها عند سائر الأمم والمجتمعات.

كما أرجو أيضا وقف المكتبات والمعارض الشّخصيّة للمجمع، ولمّا زرت جامع الأزهر قريبا، سعدتُ أن خصّصوا قاعة عن يمين الجامع خاصّة لمكتبة الشّيخ الدّكتور حسن الشّافعيّ، وهي وإن كانت محدودة الكتب في الجملة، إلّا أنّه يوجد فيها من المراجع المهمّة والعريقة، وبعضها من الكتب النّادرة، والجميل أنني وجدتها أيضا منفتحة على المذاهب الفلسفيّة والكلاميّة، وعلى الأديان والمذاهب الإسلاميّة، وفيها وجدت العديد من الكتب العمانيّة والإباضيّة، وبعض طبعاتها قديمة، كما أنني أفدت منها كثيرا.

وفي مجتمعنا العمانيّ العديد من الرّموز الثّقافيّة والدّينيّة والأدبيّة وبعض رجال الأعمال لديهم مكتبات شخصيّة، وبعضها فيها كتب نادرة، اقتنوها لفترات متباعدة، ومن أقطار مختلفة، لها قيمتها ومكانتها، وكثيرا بعد وفاتهم – وهي سنّة الله في خلقه – تتفرق بين الورثة ثمّ تذهب لعدم اهتمام الأحفاد بها، أو تحجر فتصبح في دائرة الإهمال، وقد تأكل بعضها دابّة الأرض، فمن الجميل أن يكون هناك تفكير في وقفها في حياتهم أو من ورثتهم، وإتاحتها للباحثين والمهتمين، كما من الجميل أن يردّ جميلهم بوضع أماكن مخصّصة لهم بأسمائهم، كما وجدتها في العديد من المكتبات، ومنها المكتبة الوطنية في الكويت فيما أحفظ، وفي عمان عندنا نموذج جميل، وهي مكتبة السيد محمد بن أحمد البوسعيدي بولاية السيب، فقد أوقفها منذ عام 1986م، واستفاد منها الكثير من الباحثين من عمان وخارجها.

وما ذكرته من أوقاف المكتبات؛ ينطبق أيضا على المعارض والمقتنيات والفنون والمهارات الإبداعيّة الأخرى، فنحن بعد أعوام قادمة منتظرون بكل حب وشغف افتتاح هذا المعلم العظيم، وهنيئا لعمان بهذا، ثم هنيئا للأجيال القادمة، والذي بلا شك سيجدون ضالة إبداعهم وتنمية مواهبهم وإخراج نتاجهم فيه.