العولمة والقـوة متلازمتان حكـما. لا سبيل إلى وعي الواحدة منهما بمعزل عن الأخرى: صعودا وهبوطا، تمـددا وانكماشا. وليس مبـنى الاقتران بينهما على كون علاقتهما علاقة اعتماد، فحسب، بل على كونها علاقة إيجاد متبادل. هكذا تنشأ العولمة من القـوة -بمعناها الواسع والشامل- عند عتبة عليا من تراكمها، وبالتالي، من فيضها عن حدودها الأصل، وتتعاظم القـوة حجما -في المقابـل- ويتسع نطاق أثرها في ما يقع خارج محيطها المباشر. يستطيع كل من طـالع مسار العولمة وسيرتها، منذ انطلاقها قبل ثلث قرن، أن يقـف بنفسه على ذلك التـأثير المتبادل بين الظاهرتين.
يعـفينا النـظر إلى العولمة من نافذة التلازم بينها والقـوة من كثير من اليقينيـات التي تكونت لدى كثير منـا عن العولمة -خاصـة في العقـد الأول من ظهورها-، وتحديدا من تلك النظرة إليها بوصفها تعبيرا من تعبيرات الهيمنة الرأسماليـة على العالم، وخاصـة منها الهيمنة الأمريكيـة. ومـوطن القصور في هذه النظرة أنها تربط -على غير بيـنة- بين العولمة ومركز بعينه من مراكز الرأسمالية العالمية هو المركز الأمريكي -ومراكز أخرى استطرادا مثل اليابان وألمانيا- فيما هي تذهل عن حقيقة أعلى من حقائق العصر؛ وهي أنه ما من ظاهرة كبرى في العالم برسم التمليك الحصري لقـوة/ دولة بعينها، وإن كانت الدولة تلك بـدرت إليها قبل غيرها، وإنما ظواهر العالم المعاصر ميدان للمنافسة الحادة بين الدول الكبرى التي تحتاز موارد القـوة التي تسمح لها بالتنافس عليها. هكذا كان التنافس حادا على العلم، وعلى الثـروة، وعلى القـوة الحربية، وعلى التكنولوجيا، واليوم، على الذكاء الاصطناعي بين قـوى عـدة تخوض في ذلك التنافس لإدراكها عظيم جدوى حيازة ما عليه تتنافس. وهكذا كانت فتوحات العالم الحديث في العلم والاقتصاد والتـقانة تنتـقل من مصر إلى مصر وتتداولها مختلف الدول بمقادير قـدراتها على المنافسة عليها، فلا يلبث اقتران أي منها بمركزها (أو مـوطنها) الأصل أن ينـفـك فتصير إلى غيره فإلى غيره الثاني إلى أن تصير عامـة.
هذه حال العولمة اليوم مع القـوى الدولية الكبرى التي تخوض المنافسة عليها قصد السيطرة والتـحكم والتوجيه وفرض السياسات والحقائق. مـن كان يـقوى على أن يفعل شيئا من ذلك في الماضي القريب، حين كانت أرجحيـة القدرة والقـوة له، بات يعجز عن ذلك اليوم حين تكافأت الحظوظ وتغيـرت التوازنات وانمحـت الفوارق. يكفينا المثالان الأمريكي والصيني لبيان كيف أصبح متاحا للإنسانية ذلك التداول على إدارة العولمة بعد حقبة ابتدائـية من احتكارها. إن الانتـقال من الاحتكار إلى التنافس -وقد جرى سريعا- دليل فاقع على أنه ما من شيء في الظـواهر وموارد القـوة ينتمي إلى الملك الحصري، وإنما هو رهـن بتوازنات القـوة أو، قـل، هو دولـة بين الدول والأمم تأخذ كـل منها بحـظ منه بمقدار ما وسعت قدراتها.
ولأن القوي -في حالتنا التي نبحث- يسيطر على حركة العولمة كـلا أو أبعاضا، فهو يفرض عولمته، أعني: يفرض نمطا منها مرتبطا بنوع نموذجه الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي، بل بنوع مواريثه (استعمارية، مثلا، أو لا استعمارية) والمفعول المستمر لقيمها فيه. وبكلمة، إنه يضفي شخصيته وسماته عليها فيطبعها بطابعه حتى لـيكاد الناس يـردونها إليه. وهكذا، إذا كانت العولمة محايدة بما هي إمكانية مفتوحة أمام التدافع العام بين الدول والأمم -كل بما وسعـته حيلته وما تجمع بين يديه من الموارد- فإن من يتداولون عليها ليسوا محايدين، بل يجرون أمورها على المثال الذي يبغون. والنتيجة -أمام هذا التداول المتعدد والمختلف- أننا لا نجد أنفسنا أمام عولمة من نمط واحد وحيد، وإنما تطالعنا العولمة بوصفها عولـمات أو عولمة من نماذج متباينة. هذا ما يفسر، مثلا، لماذا تغيرت أحكام جمهور كبير من النخب في العالم، وخاصة في بلدان الجنوب، على العولمة عما كانـته قبلا: في سنوات التسعينـات على نحو أخص؛ بل هذا ما يفسـر -أيضا- لماذا تغـيـر موقف قـوى كبرى في الغرب من العولمة بعد إذ صار ثـمة شركاء آخرون في العالم يزاحمونها على تلك العولمة ويبـزونها فيها بـزا...
قبل عقدين ويزيد من اليوم، استند الموقف النـقـدي الحاد للعولمة إلى ما كان يطبعها من ميل صريح إلى الذهـاب بفعل الهيمنة الغربيـة إلى حدود الإطباق الكامل على العالم المستهـدف الذي يقع، جغرافيـا، خارج الغرب. والمشكلة في ذلك المنزع الهيمنوي الحاد، الذي أفصحت عنه العولمة (الاقتصاديـة والتـقانية والقيميـة...)، أنه ما اكتفى بتوسـل فعـل الهيمنة بوصف هذه ثمرة موضوعيـة لتعاظم القدرات والقوى فحسب، بل أتى ذلك الفعـل مغمورا بالشـعور المرضي بأن الهيمنة استحقاق له لقاء تفـوقه في الميادين الماديـة! وعندي أن مثل هذا الشعور منبعه من الممايـزة التي يقيمها حامله بين ذاته وخارجها، أو بين الأنا والآخـر، بل ويبنيها على فكرة تفـوق الأنا (الغربية) وعـلو مقامها على الأغيار في العالم! وبيـن أن الوعي المـرضي بالتفـوق والتعالي يبرر لصاحبه -حين يمتلك الوسائل- أن يتصرف مع الآخـر: الذي يقع عليه فعـل الهيمنة، وكأنه هدف مشروع له! إنه موضوع؛ مجرد موضوع لذات فاعلة هي ذاته بوصفه غربيـا! هكذا كان صعبا، حينها، بيان ما يمـيز الهيمنة عن العنصرية فكلاهما سـيئ للآخـر، وكلاهما متمظهـر في علاقة واحدة جامعة هي العولمة: في تلك الحقبة الابتدائية الهوجاء منها التي عيشت في الفترة بين مطلع التسعينـات وبداية النصف الثاني من العقـد الأول من هذا القرن.
يعتقد، اليـوم، وعلى نطاق واسع، أن مضمون العولمة سيشهد على تغييـر فيه نحو الأحسن في هذا الطور الجديد من التداول عليها الذي ولجته الصين وستـلجه الهند والبرازيل. لن يعود مستـبعدا أن نشهد انتقالة حاسمة مقبلة من العولمة الهيمنويـة المجحفة إلى عولمة أخرى أكثر إنسانية مبناها على التعاون والتكافل لا على النهب والسيطرة؛ على المشاركة الجماعيـة بين الأمم والدول في صنع المصير الإنساني لا على الإقصاء والتهميش؛ على احترام الكرامة الإنسانية لا على نزعات التـفـوق والعنصريـة. شيء من هذا قد يحصل لأن قوى العولمة القادمة لا تاريخ استعماري لها، وهي -لذلك- متحررة من قيم الجشع والنهب الذي شكـل أخلاق السياسات الغربية وستكون عولمتها، بالتالي، على مثالها ومثال قـيمها.
يعـفينا النـظر إلى العولمة من نافذة التلازم بينها والقـوة من كثير من اليقينيـات التي تكونت لدى كثير منـا عن العولمة -خاصـة في العقـد الأول من ظهورها-، وتحديدا من تلك النظرة إليها بوصفها تعبيرا من تعبيرات الهيمنة الرأسماليـة على العالم، وخاصـة منها الهيمنة الأمريكيـة. ومـوطن القصور في هذه النظرة أنها تربط -على غير بيـنة- بين العولمة ومركز بعينه من مراكز الرأسمالية العالمية هو المركز الأمريكي -ومراكز أخرى استطرادا مثل اليابان وألمانيا- فيما هي تذهل عن حقيقة أعلى من حقائق العصر؛ وهي أنه ما من ظاهرة كبرى في العالم برسم التمليك الحصري لقـوة/ دولة بعينها، وإن كانت الدولة تلك بـدرت إليها قبل غيرها، وإنما ظواهر العالم المعاصر ميدان للمنافسة الحادة بين الدول الكبرى التي تحتاز موارد القـوة التي تسمح لها بالتنافس عليها. هكذا كان التنافس حادا على العلم، وعلى الثـروة، وعلى القـوة الحربية، وعلى التكنولوجيا، واليوم، على الذكاء الاصطناعي بين قـوى عـدة تخوض في ذلك التنافس لإدراكها عظيم جدوى حيازة ما عليه تتنافس. وهكذا كانت فتوحات العالم الحديث في العلم والاقتصاد والتـقانة تنتـقل من مصر إلى مصر وتتداولها مختلف الدول بمقادير قـدراتها على المنافسة عليها، فلا يلبث اقتران أي منها بمركزها (أو مـوطنها) الأصل أن ينـفـك فتصير إلى غيره فإلى غيره الثاني إلى أن تصير عامـة.
هذه حال العولمة اليوم مع القـوى الدولية الكبرى التي تخوض المنافسة عليها قصد السيطرة والتـحكم والتوجيه وفرض السياسات والحقائق. مـن كان يـقوى على أن يفعل شيئا من ذلك في الماضي القريب، حين كانت أرجحيـة القدرة والقـوة له، بات يعجز عن ذلك اليوم حين تكافأت الحظوظ وتغيـرت التوازنات وانمحـت الفوارق. يكفينا المثالان الأمريكي والصيني لبيان كيف أصبح متاحا للإنسانية ذلك التداول على إدارة العولمة بعد حقبة ابتدائـية من احتكارها. إن الانتـقال من الاحتكار إلى التنافس -وقد جرى سريعا- دليل فاقع على أنه ما من شيء في الظـواهر وموارد القـوة ينتمي إلى الملك الحصري، وإنما هو رهـن بتوازنات القـوة أو، قـل، هو دولـة بين الدول والأمم تأخذ كـل منها بحـظ منه بمقدار ما وسعت قدراتها.
ولأن القوي -في حالتنا التي نبحث- يسيطر على حركة العولمة كـلا أو أبعاضا، فهو يفرض عولمته، أعني: يفرض نمطا منها مرتبطا بنوع نموذجه الاجتماعي- الاقتصادي- السياسي، بل بنوع مواريثه (استعمارية، مثلا، أو لا استعمارية) والمفعول المستمر لقيمها فيه. وبكلمة، إنه يضفي شخصيته وسماته عليها فيطبعها بطابعه حتى لـيكاد الناس يـردونها إليه. وهكذا، إذا كانت العولمة محايدة بما هي إمكانية مفتوحة أمام التدافع العام بين الدول والأمم -كل بما وسعـته حيلته وما تجمع بين يديه من الموارد- فإن من يتداولون عليها ليسوا محايدين، بل يجرون أمورها على المثال الذي يبغون. والنتيجة -أمام هذا التداول المتعدد والمختلف- أننا لا نجد أنفسنا أمام عولمة من نمط واحد وحيد، وإنما تطالعنا العولمة بوصفها عولـمات أو عولمة من نماذج متباينة. هذا ما يفسر، مثلا، لماذا تغيرت أحكام جمهور كبير من النخب في العالم، وخاصة في بلدان الجنوب، على العولمة عما كانـته قبلا: في سنوات التسعينـات على نحو أخص؛ بل هذا ما يفسـر -أيضا- لماذا تغـيـر موقف قـوى كبرى في الغرب من العولمة بعد إذ صار ثـمة شركاء آخرون في العالم يزاحمونها على تلك العولمة ويبـزونها فيها بـزا...
قبل عقدين ويزيد من اليوم، استند الموقف النـقـدي الحاد للعولمة إلى ما كان يطبعها من ميل صريح إلى الذهـاب بفعل الهيمنة الغربيـة إلى حدود الإطباق الكامل على العالم المستهـدف الذي يقع، جغرافيـا، خارج الغرب. والمشكلة في ذلك المنزع الهيمنوي الحاد، الذي أفصحت عنه العولمة (الاقتصاديـة والتـقانية والقيميـة...)، أنه ما اكتفى بتوسـل فعـل الهيمنة بوصف هذه ثمرة موضوعيـة لتعاظم القدرات والقوى فحسب، بل أتى ذلك الفعـل مغمورا بالشـعور المرضي بأن الهيمنة استحقاق له لقاء تفـوقه في الميادين الماديـة! وعندي أن مثل هذا الشعور منبعه من الممايـزة التي يقيمها حامله بين ذاته وخارجها، أو بين الأنا والآخـر، بل ويبنيها على فكرة تفـوق الأنا (الغربية) وعـلو مقامها على الأغيار في العالم! وبيـن أن الوعي المـرضي بالتفـوق والتعالي يبرر لصاحبه -حين يمتلك الوسائل- أن يتصرف مع الآخـر: الذي يقع عليه فعـل الهيمنة، وكأنه هدف مشروع له! إنه موضوع؛ مجرد موضوع لذات فاعلة هي ذاته بوصفه غربيـا! هكذا كان صعبا، حينها، بيان ما يمـيز الهيمنة عن العنصرية فكلاهما سـيئ للآخـر، وكلاهما متمظهـر في علاقة واحدة جامعة هي العولمة: في تلك الحقبة الابتدائية الهوجاء منها التي عيشت في الفترة بين مطلع التسعينـات وبداية النصف الثاني من العقـد الأول من هذا القرن.
يعتقد، اليـوم، وعلى نطاق واسع، أن مضمون العولمة سيشهد على تغييـر فيه نحو الأحسن في هذا الطور الجديد من التداول عليها الذي ولجته الصين وستـلجه الهند والبرازيل. لن يعود مستـبعدا أن نشهد انتقالة حاسمة مقبلة من العولمة الهيمنويـة المجحفة إلى عولمة أخرى أكثر إنسانية مبناها على التعاون والتكافل لا على النهب والسيطرة؛ على المشاركة الجماعيـة بين الأمم والدول في صنع المصير الإنساني لا على الإقصاء والتهميش؛ على احترام الكرامة الإنسانية لا على نزعات التـفـوق والعنصريـة. شيء من هذا قد يحصل لأن قوى العولمة القادمة لا تاريخ استعماري لها، وهي -لذلك- متحررة من قيم الجشع والنهب الذي شكـل أخلاق السياسات الغربية وستكون عولمتها، بالتالي، على مثالها ومثال قـيمها.