نرى العشرات من السّياح حولنا، كما نحن أيضا نسيح في بقاع عديدة من الأرض، هذه السّياحة ليست لونا واحدا، وليست ذات صبغة واحدة، فهناك السّائح لأجل التّرفيه عن النّفس، وهناك السّائل لأجل كشف أسرار الطّبيعة والتّأمل فيها، وهناك سائح آخر لأجل المعرفة وكشف أسرار المجتمعات البشريّة، وهناك الباحث في تأريخ الأمم وحضارتها، فهناك ألوان عديدة من السّياحة، وليست شكلا واحدا.
ومن السّياحةِ، السّياحةُ الدّينيّة، بما تحمله هذه المفردة من أبعاد روحيّة وطقوسيّة، وآثار ماديّة كدور العبادة والنّقوش والمقابر، وتأريخ ديني عريق، وتنوع ديني ومذهبيّ، ومعارف طقوسيّة وكلاميّة وعرفانيّة، وتصوّرات وأساطير وشيء من الخرافة، لما تشكله الذّاكرة الدّينيّة من تراكمات روحيّة وطقسيّة لأزمنة موغلة في القدم، ومحاولة مبكرة لفهم الوجود، وتشكل العلاقات المجتمعيّة، ولها تأثيرها على الفنون والعادات والتّقاليد، كعادات الزّواج والولادة والدّفن والنّواح وغيرها.
لهذا العديد من دول العالم أصبحت تلتفت بقوّة إلى السّياحة الدّينيّة، وتراها لا تقلّ أهميّة عن أنواع السّياحة الأخرى، وتعتبرها موردا مهمّا للدّخل وتنمية الاقتصاد الوطنيّ، كما تحافظ على التّعدّديّة الموجودة فيها، وتوثق الذّاكرة الطّقوسيّة بما فيها من أساطير وخرافات، وقصص وتصوّرات، وتعتبرها جزءا من الذّاكرة الوطنيّة، ولها أبحاثها في ذلك، مع استثمارها في السّينما أيضا، فضلا عن الآثار الماديّة، والحفاظ عليها من حيث التّرميم والتّعريف بها، لجذب السّائح إليها، فنجد في بعض الدّول من المكاتب السّياحيّة المختصة فقط بالسّياحة الدّينيّة، فتختصر للسّائح المهتم في هذا الجانب الطّريق، وتعرّفه بالذّاكرة الدّينيّة في هذا البلد، مع التّنوع الدّينيّ والمذهبيّ، حيث قد يكون السّائح طالبا مفرغا من جامعات عالميّة في الدّراسات الدّينيّة والتّعايشيّة، أو باحثا وكاتبا في هذا الجانب، أو روائيا وسيميائيّا معنيّا بهذا في رواياته أو أفلامه، أو هاويًا محبًّا لهذه الجوانب من الذّاكرة الإنسانيّة الكبرى.
وإذا جئنا إلى عُمان بما تحويه من ألوان سياحيّة مختلفة ومتعدّدة، من حيث الطّبيعة وتنوّع التّضاريس، فهناك البحر والسّهل والجبل والصّحراء، وهناك القلاع والحصون وآثار أمم بادت، وحضارات انقرضت، مع تنوّع الفنون من حيث الأدوات والغناء والرّقص، وتنوّع العادات والتّقاليد، وتعدّد اللّهجات واللّغات القديمة، وطرق الطّبخ واللّباس، وأدوات الحرث والصّيد والمعيشة وغيرها، بما يشكل لوحة فنيّة، إذا أحسن التّعامل معها سياحيًّا؛ ستكون موردا مهمّا للدّخل الوطنيّ، وسوف توفر عشرات الفرص من العمل، كما أنّها أيضًا مورد مهم للمعرفة الإنسانيّة، وتساهم في الأدب الإنسانيّ، والمخيال العالميّ.
أمّا في الجانب الدّينيّ فعمان تعاقبت عليها أديان مختلفة ومتعدّدة، ولانفتاحها البحريّ فهي قريبة من الهند وهندوسيّتها، وفارس وزرادشتيّتها، وإفريقيا ووثنيّتها، كما أنّها كانت مركزًا للنّساطرة فترة من الزّمن، وكان لهم في عمان مجامعهم وأديرتهم، مع اليهود وامتدادهم في جنوب عمان خصوصا إلى اليمن، ولمّا جاء الإسلام كانت موطئا للمعارضة، فانتشر فيها الصّفريّة والإباضيّة، ثمّ أصبحت من أهم مراكز الإباضيّة، كما انتشر فيها الفقه الشّافعيّ بشكل كبير، وكان تزامنًا أو بعيْده أبان انتشار الشّافعيّة في اليمن، أو كانت امتدادًا لشافعيّة الإحساء والبحرين وجنوب إيران، وحملت الشّافعيّة معها تصوّفها، فانتشرت العديد من الطّرق الصّوفيّة في شمال وجنوب عمان خصوصا، مع الموالد وطقوسها وغنائها، وتأثر لاحقًا بها بعض الإباضيّة، فكانت مجالس الخلوات أو العباد، وهي أشبه بالأديرة عند الرّهبان، وما زالت بعضها باقية من حيث الآثار، كما تأثر بعضهم بقراءة المولد، فيقرأ العديد منهم بفنّهم العمانيّ الدّاخليّ خصوصا مولد البرزنجيّ الحسينيّ الشّافعيّ العراقيّ (ت 1317هـ)، ومنهم من استبدله بكتاب النّشأة المحمديّة لأبي مسلم البهلانيّ العمانيّ (ت 1339هـ)، وبعض شافعيّة عمان يقرأون الفيوضات الرّبانيّة لعبد القادر الجيلانيّ (ت 561هـ)، وبعضهم من ديوان ابن الفارض (ت 632هـ)، فالمولد يشكل حالة اجتماعيّة تجمع بين الطّقوس والفنّ والأدب.
وكما حملت الشّافعيّة معها تصوّفها؛ حملت معها أيضا أشعريّتها، ولقرب عمان أيضا من الهند الكبرى سابقا بما فيها باكستان اليوم؛ انتشر الفقه الحنفيّ أيضا في عمان، وحملت معها ماتريديّتها، ولقرب عمان من الإحساء أيضا كان الفقه المالكيّ في أسر من شمال عمان، ولانتشار السّلفيّة مؤخرًا في أوساط المجتمعات السّنيّة خصوصًا؛ حملت معها شيئا من حنبليّتها وعقيدتها الصّفاتيّة، كما أنّ قرب عمان من إيران والبحرين الكبرى سابقا؛ حصلت هجرات شيعيّة إماميّة مبكرة إلى عمان، من عجم وبحارنة ولواتية، ولهم طقوسهم في الموالد والجلوات والعاشوريّات، كما أنّ قرب عمان من الهند وتجارها الكبار، وجدت أيضا بعض الأسر من البهرة الأغاخانية، وهم شيعة إسماعيليّة، واليوم نتيجة العمل والحروب هناك أفراد وبعض الأسر من الشّيعة النّصيريّة من سوريا، والزّيديّة من اليمن، وهم أقرب إلى الأفراد.
كما أنّ انفتاح عمان على الخارج بسبب الطّفرة النّفطيّة، ونتيجة للهجرات العماليّة، والّذين يشكلون نسبة سكانيّة كبيرة؛ كانت هناك تعدّديّة دينيّة، لازمها تنوّع في دور العبادة، حيث هناك تنوّع دينيّ من الهندوس والبوذيّة والجينيّة والسّيخ، ولبعض هؤلاء معابدهم وأماكن حرق موتاهم، كما هناك شيء من التّعدّديّة في جانب المذاهب المسيحيّة، فلم تقتصر عند الكنائس الكاثوليكيّة أبان الاستعمار البرتغاليّ، ولا عند الإرساليات البروتستانتيّة خصوصا الإنجليكانيّة أو المشيخيّة أبّان الوجود الإنجليزيّ، فاليوم يزاحمها وجود مصري قبطيّ أرثوذكسي، كما افتتحت قريبا كنيسة القدّيس حارث بن كعب النّجرانيّ في غلا بولاية بوشر، وهي كنيسة سريانيّة أنطاكيّة أرثوذكسيّة، فضلا عن التّوجهات الدّينيّة المعاصرة كالأحمديّة والبهائيّة، نتيجة العمل، أو الاستقرار في عمان.
هذه التّعدّديّة لها تأثيرها في الحكاية الدّينيّة في عمان، وتأثيرها في الأبعاد الاجتماعيّة والتّعايشيّة، وفي الفنون والفقه والأدب، وفي الآثار الماديّة، فعندنا مدافن بات وحكاياتها القديمة، والعديد من الرّسوم في الجبال والصّخور، الّتي تحتاج إلى دراسة وتوثيق وحفظ، والعديد منها لها ارتباط دينيّ وروحيّ، كما للنّساطرة آثارهم الّتي بحاجة إلى بحث ودراسة وتنقيب، وهناك أيضا من آثار قبور اليهود في صحار، ومحارق البانيان أو الهندوس، الّتي جميعها ممّا هو موجود، أو في طور الكشف؛ يحكي رواية دينيّة طويلة في عمان، وموغلة في القدم.
وأمّا في الجانب الإسلاميّ فلا زالت آثار المساجد شاهدة من عهد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ذاته، كمسجد المضمار في سمائل، ومسجد الشّواذنة في عقر نزوى، وهناك مساجد قديمة جدًّا كمسجد حصن بهلا، فضلا عن مساجد العبّاد وانتشارها في العهد النّبهانيّ واليعربيّ، كما أنّ هناك العديد من الأضرحة، كضريح صاحب مرباط محمّد بن عليّ خالع قسم بن علويّ (ت 556هـ)، وهو رمزيّة صوفيّة لها مكانتها في عمان واليمن ومصر وشرق آسيا وغيرها، وهناك حكايات لقبور تنسب إلى ثلاثة من الأنبياء: أيوب وعمران وصالح في صلالة وظفار، فضلا عن قبور العديد من الرّموز الدّينيّة، كمقبرة الأئمّة في نزوى.
وكما أسلفنا لمّا نتحدّث عن السّياحة الدّينيّة؛ نحن لا نتحدّث عن الجوانب الماديّة فحسب، كانت صورا أو قبورا أو أضرحة أو دور عبادة، أو مدارس تعليم القرآن، أو المكتبات الدّينيّة، نحن نتحدّث أيضا عن حكايات وأساطير نتجت عنها فنون وعادات وتقاليد، تتعلّق بالفراق والسّفر، والموت والرّحيل، والولادة والبشارة، والزّواج والاجتماع، والعيد والسّعادة، وغيرها من جوانب الحياة؛ لأنّ الدّين هو السّفر الحافظ لذاكرة الأمم ردحا من الزّمن، وهو المؤثر الأكبر في حياتهم.
لهذا في نظري الاهتمام بالسّياحة الدّينيّة في عمان، لا يقل أهمية عن الاهتمام بأنواع السّياحة الأخرى، ولا يتوقف عند جوانب معينة، بل يحتاج إلى استراتيجيّة واضحة، يعقبها مؤتمرات وندوات ودراسات بحثيّة، تتحوّل إلى استثمارات لها أثر في دعم الاقتصاد الوطنيّ، وتوفير فرص عمل للباحثين والشّركات الصّغيرة والمتوسطة، ويسهم أيضا في تفعيل الثّقافة الدّينيّة في عمان، والحفاظ عليها، وفتحها للسّائحين والباحثين، لتكون مهاجرة ثقافيًّا في الأدبيات العالميّة والإنسانيّة.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»
ومن السّياحةِ، السّياحةُ الدّينيّة، بما تحمله هذه المفردة من أبعاد روحيّة وطقوسيّة، وآثار ماديّة كدور العبادة والنّقوش والمقابر، وتأريخ ديني عريق، وتنوع ديني ومذهبيّ، ومعارف طقوسيّة وكلاميّة وعرفانيّة، وتصوّرات وأساطير وشيء من الخرافة، لما تشكله الذّاكرة الدّينيّة من تراكمات روحيّة وطقسيّة لأزمنة موغلة في القدم، ومحاولة مبكرة لفهم الوجود، وتشكل العلاقات المجتمعيّة، ولها تأثيرها على الفنون والعادات والتّقاليد، كعادات الزّواج والولادة والدّفن والنّواح وغيرها.
لهذا العديد من دول العالم أصبحت تلتفت بقوّة إلى السّياحة الدّينيّة، وتراها لا تقلّ أهميّة عن أنواع السّياحة الأخرى، وتعتبرها موردا مهمّا للدّخل وتنمية الاقتصاد الوطنيّ، كما تحافظ على التّعدّديّة الموجودة فيها، وتوثق الذّاكرة الطّقوسيّة بما فيها من أساطير وخرافات، وقصص وتصوّرات، وتعتبرها جزءا من الذّاكرة الوطنيّة، ولها أبحاثها في ذلك، مع استثمارها في السّينما أيضا، فضلا عن الآثار الماديّة، والحفاظ عليها من حيث التّرميم والتّعريف بها، لجذب السّائح إليها، فنجد في بعض الدّول من المكاتب السّياحيّة المختصة فقط بالسّياحة الدّينيّة، فتختصر للسّائح المهتم في هذا الجانب الطّريق، وتعرّفه بالذّاكرة الدّينيّة في هذا البلد، مع التّنوع الدّينيّ والمذهبيّ، حيث قد يكون السّائح طالبا مفرغا من جامعات عالميّة في الدّراسات الدّينيّة والتّعايشيّة، أو باحثا وكاتبا في هذا الجانب، أو روائيا وسيميائيّا معنيّا بهذا في رواياته أو أفلامه، أو هاويًا محبًّا لهذه الجوانب من الذّاكرة الإنسانيّة الكبرى.
وإذا جئنا إلى عُمان بما تحويه من ألوان سياحيّة مختلفة ومتعدّدة، من حيث الطّبيعة وتنوّع التّضاريس، فهناك البحر والسّهل والجبل والصّحراء، وهناك القلاع والحصون وآثار أمم بادت، وحضارات انقرضت، مع تنوّع الفنون من حيث الأدوات والغناء والرّقص، وتنوّع العادات والتّقاليد، وتعدّد اللّهجات واللّغات القديمة، وطرق الطّبخ واللّباس، وأدوات الحرث والصّيد والمعيشة وغيرها، بما يشكل لوحة فنيّة، إذا أحسن التّعامل معها سياحيًّا؛ ستكون موردا مهمّا للدّخل الوطنيّ، وسوف توفر عشرات الفرص من العمل، كما أنّها أيضًا مورد مهم للمعرفة الإنسانيّة، وتساهم في الأدب الإنسانيّ، والمخيال العالميّ.
أمّا في الجانب الدّينيّ فعمان تعاقبت عليها أديان مختلفة ومتعدّدة، ولانفتاحها البحريّ فهي قريبة من الهند وهندوسيّتها، وفارس وزرادشتيّتها، وإفريقيا ووثنيّتها، كما أنّها كانت مركزًا للنّساطرة فترة من الزّمن، وكان لهم في عمان مجامعهم وأديرتهم، مع اليهود وامتدادهم في جنوب عمان خصوصا إلى اليمن، ولمّا جاء الإسلام كانت موطئا للمعارضة، فانتشر فيها الصّفريّة والإباضيّة، ثمّ أصبحت من أهم مراكز الإباضيّة، كما انتشر فيها الفقه الشّافعيّ بشكل كبير، وكان تزامنًا أو بعيْده أبان انتشار الشّافعيّة في اليمن، أو كانت امتدادًا لشافعيّة الإحساء والبحرين وجنوب إيران، وحملت الشّافعيّة معها تصوّفها، فانتشرت العديد من الطّرق الصّوفيّة في شمال وجنوب عمان خصوصا، مع الموالد وطقوسها وغنائها، وتأثر لاحقًا بها بعض الإباضيّة، فكانت مجالس الخلوات أو العباد، وهي أشبه بالأديرة عند الرّهبان، وما زالت بعضها باقية من حيث الآثار، كما تأثر بعضهم بقراءة المولد، فيقرأ العديد منهم بفنّهم العمانيّ الدّاخليّ خصوصا مولد البرزنجيّ الحسينيّ الشّافعيّ العراقيّ (ت 1317هـ)، ومنهم من استبدله بكتاب النّشأة المحمديّة لأبي مسلم البهلانيّ العمانيّ (ت 1339هـ)، وبعض شافعيّة عمان يقرأون الفيوضات الرّبانيّة لعبد القادر الجيلانيّ (ت 561هـ)، وبعضهم من ديوان ابن الفارض (ت 632هـ)، فالمولد يشكل حالة اجتماعيّة تجمع بين الطّقوس والفنّ والأدب.
وكما حملت الشّافعيّة معها تصوّفها؛ حملت معها أيضا أشعريّتها، ولقرب عمان أيضا من الهند الكبرى سابقا بما فيها باكستان اليوم؛ انتشر الفقه الحنفيّ أيضا في عمان، وحملت معها ماتريديّتها، ولقرب عمان من الإحساء أيضا كان الفقه المالكيّ في أسر من شمال عمان، ولانتشار السّلفيّة مؤخرًا في أوساط المجتمعات السّنيّة خصوصًا؛ حملت معها شيئا من حنبليّتها وعقيدتها الصّفاتيّة، كما أنّ قرب عمان من إيران والبحرين الكبرى سابقا؛ حصلت هجرات شيعيّة إماميّة مبكرة إلى عمان، من عجم وبحارنة ولواتية، ولهم طقوسهم في الموالد والجلوات والعاشوريّات، كما أنّ قرب عمان من الهند وتجارها الكبار، وجدت أيضا بعض الأسر من البهرة الأغاخانية، وهم شيعة إسماعيليّة، واليوم نتيجة العمل والحروب هناك أفراد وبعض الأسر من الشّيعة النّصيريّة من سوريا، والزّيديّة من اليمن، وهم أقرب إلى الأفراد.
كما أنّ انفتاح عمان على الخارج بسبب الطّفرة النّفطيّة، ونتيجة للهجرات العماليّة، والّذين يشكلون نسبة سكانيّة كبيرة؛ كانت هناك تعدّديّة دينيّة، لازمها تنوّع في دور العبادة، حيث هناك تنوّع دينيّ من الهندوس والبوذيّة والجينيّة والسّيخ، ولبعض هؤلاء معابدهم وأماكن حرق موتاهم، كما هناك شيء من التّعدّديّة في جانب المذاهب المسيحيّة، فلم تقتصر عند الكنائس الكاثوليكيّة أبان الاستعمار البرتغاليّ، ولا عند الإرساليات البروتستانتيّة خصوصا الإنجليكانيّة أو المشيخيّة أبّان الوجود الإنجليزيّ، فاليوم يزاحمها وجود مصري قبطيّ أرثوذكسي، كما افتتحت قريبا كنيسة القدّيس حارث بن كعب النّجرانيّ في غلا بولاية بوشر، وهي كنيسة سريانيّة أنطاكيّة أرثوذكسيّة، فضلا عن التّوجهات الدّينيّة المعاصرة كالأحمديّة والبهائيّة، نتيجة العمل، أو الاستقرار في عمان.
هذه التّعدّديّة لها تأثيرها في الحكاية الدّينيّة في عمان، وتأثيرها في الأبعاد الاجتماعيّة والتّعايشيّة، وفي الفنون والفقه والأدب، وفي الآثار الماديّة، فعندنا مدافن بات وحكاياتها القديمة، والعديد من الرّسوم في الجبال والصّخور، الّتي تحتاج إلى دراسة وتوثيق وحفظ، والعديد منها لها ارتباط دينيّ وروحيّ، كما للنّساطرة آثارهم الّتي بحاجة إلى بحث ودراسة وتنقيب، وهناك أيضا من آثار قبور اليهود في صحار، ومحارق البانيان أو الهندوس، الّتي جميعها ممّا هو موجود، أو في طور الكشف؛ يحكي رواية دينيّة طويلة في عمان، وموغلة في القدم.
وأمّا في الجانب الإسلاميّ فلا زالت آثار المساجد شاهدة من عهد النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ذاته، كمسجد المضمار في سمائل، ومسجد الشّواذنة في عقر نزوى، وهناك مساجد قديمة جدًّا كمسجد حصن بهلا، فضلا عن مساجد العبّاد وانتشارها في العهد النّبهانيّ واليعربيّ، كما أنّ هناك العديد من الأضرحة، كضريح صاحب مرباط محمّد بن عليّ خالع قسم بن علويّ (ت 556هـ)، وهو رمزيّة صوفيّة لها مكانتها في عمان واليمن ومصر وشرق آسيا وغيرها، وهناك حكايات لقبور تنسب إلى ثلاثة من الأنبياء: أيوب وعمران وصالح في صلالة وظفار، فضلا عن قبور العديد من الرّموز الدّينيّة، كمقبرة الأئمّة في نزوى.
وكما أسلفنا لمّا نتحدّث عن السّياحة الدّينيّة؛ نحن لا نتحدّث عن الجوانب الماديّة فحسب، كانت صورا أو قبورا أو أضرحة أو دور عبادة، أو مدارس تعليم القرآن، أو المكتبات الدّينيّة، نحن نتحدّث أيضا عن حكايات وأساطير نتجت عنها فنون وعادات وتقاليد، تتعلّق بالفراق والسّفر، والموت والرّحيل، والولادة والبشارة، والزّواج والاجتماع، والعيد والسّعادة، وغيرها من جوانب الحياة؛ لأنّ الدّين هو السّفر الحافظ لذاكرة الأمم ردحا من الزّمن، وهو المؤثر الأكبر في حياتهم.
لهذا في نظري الاهتمام بالسّياحة الدّينيّة في عمان، لا يقل أهمية عن الاهتمام بأنواع السّياحة الأخرى، ولا يتوقف عند جوانب معينة، بل يحتاج إلى استراتيجيّة واضحة، يعقبها مؤتمرات وندوات ودراسات بحثيّة، تتحوّل إلى استثمارات لها أثر في دعم الاقتصاد الوطنيّ، وتوفير فرص عمل للباحثين والشّركات الصّغيرة والمتوسطة، ويسهم أيضا في تفعيل الثّقافة الدّينيّة في عمان، والحفاظ عليها، وفتحها للسّائحين والباحثين، لتكون مهاجرة ثقافيًّا في الأدبيات العالميّة والإنسانيّة.
بدر العبري كاتب مهتم بقضايا التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب «فقه التطرف»