منذ فترة مبكرة من حياتي وأنا متابع للقضية الفلسطينية، سواء بحكم تخصصي الأكاديمي أو بحكم معاصرتي للقضية، منذ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية (١٩٦٤)، وشاهد على الحروب التي خاضها العرب والتي لم تحقق نجاحاً في حصول هذا الشعب البائس على حقوقه، بعد أن اكتفى العرب بإبراء ذمتهم من خلال بيانات ومؤتمرات وأنشطة دبلوماسية لم تحقق إلا مزيداً من الانقسام حول القضية التي قالوا بأنها قضية العرب المركزية، وهو ما أتاح للإسرائيليين فرصة الانفراد بالشعب الفلسطيني تنكيلا وقتلا تحت أعين وبصر العالم، وسوف يكتب التاريخ عن ضعف العرب وهوانهم وخذلانهم، حينما أضاعوا القضية وقد اكتفوا بإبراء ذمتهم بعد أن راحوا يتباهون بأنهم بذلوا أموالا أوسجلوا مواقف من خلال إعلامهم، وهي سياسات قد أفرزت فشلاً مخزيا يشهد عليه القاصي والداني.

اليوم وقد آل مصير القضية إلى الحالة التي نشاهدها صباح مساء من قتل الأطفال والنساء وهدم المنازل على ساكنيها، ووسط هذا كله لم يتسرب اليأس إلى الفلسطينيين الذين راحوا يواصلون نضالاتهم بكل وسائلهم البدائية في مشاهد بطولية لا مثيل لها في كل قضايا التحرر الوطني التي عرفها العالم، ولعل ما يقدمه الإعلام الفلسطيني الذي يتولاه جيل جديد من الشباب يعد ظاهرة لافتة كانت سبباً كافياً لتعريف العالم الحر بما يحدث في غزة والقطاع والضفة الغربية، وهو ما أثار حفيظة إسرائيل التي راحت تستهدف الإعلاميين الذي أجادوا التعريف بمأساة الفلسطينيين، لذا كانوا هدفاً لعدوهم، لدرجة أن عدد الشهداء من الإعلاميين قد تجاوز المائة شهيد، ورغم ذلك فقد راحوا يواصلون رسالتهم، وقد لفت نظرنا جميعا اسم الإعلامي الفلسطيني وائل الدحدوح، الذي استهدف العدو منزله منذ شهر واستشهد معظم أفراد أسرته، وقد خرج علينا في نفس اليوم مواصلا رسالته الإعلامية لتعريف العالم بما يحدث من عدوان غاشم على المدنيين، وكانت قناة الجزيرة في مقدمة الفضائيات الإعلامية التي استطاعت أن تغير الصورة التي أشاعها الإعلام الإسرائيلي والغربي، بعد أن راحت تبث رسائلها بكل اللغات الحية التي يعرفها العالم، وفي كل المشاهد كان وائل الدحدوح في مقدمة الإعلاميين الذي يواصلون رسالتهم وسط طلقات المدافع وقصف الصواريخ التي أحالت قطاع غزة إلى ظلام دامس، ولم ييأس وائل الدحدوح، رغم أن العدو لم يكتف بقتل أسرته بل استهدفه شخصيا بأحد الصواريخ الذكية بإصابة كبيرة في ذراعه، راح بعدها يضمد جراحه ويواصل رسالته بكل شجاعة منقطعة النظير.

بعد ثلاثة أشهر من القصف المتواصل على غزة والقطاع، استهدف العدو الإعلامي الشاب حمزة الدحدوح ابن وائل الدحدوح، وقد استشهد وهو يؤدي رسالته وقد شاهدنا بأعيننا الأب وهو يَؤم المصلين في صلاة الجنازة في الوداع الأخير لفلذة كبده، وبمجرد الانتهاء من الصلاة فوجئت بوائل الدحدوح وهو يواصل رسالته الإعلامية غير عابئ بطلقات المدافع وقذف الصواريخ. ما هذه القوة وما هذا الإيمان وقوة اليقين والصبر على الابتلاء، والثقة والإخلاص للقضية التي يناضل من أجلها وائل الدحدوح؟

لم يعد الإعلام مجرد ترف، وإنما هو دور لا يقل عن دور المناضلين وسط الأنقاض وتحت الأرض، وهي أمور أربكت العدو وأصابته بصدمة هائلة، ليس في الأوساط العسكرية فقط وإنما في كل أوساط المجتمع الإسرائيلي، تحية تقدير واحترام لكل المناضلين على أرض فلسطين، تحية تقدير وامتنان للمرأة الفلسطينية والأطفال الفلسطينيين، الذين يتحلقون على أماكن توزيع الغذاء للحصول على النذر اليسير، تحية للمرضى الذين حال العدوان دون حصولهم على الدواء، بينما ينعم كبراؤنا في قصورهم برغد الحياة غير عابئين بما يرونه من مشاهد مروعة، أو لعلهم لا يشاهدون التلفاز أصلاً، الذي قد يؤرق مضجعهم، أو ربما يشهدونه لمجرد التسلية وإضاعة الوقت، لم يستوعب قادة إسرائيل الدرس بعد، رغم أنهم يعرفون طبيعة هذا الشعب الذي فضل الموت على الحياة.

أتذكر في تسعينيات القرن الماضي ما كانت تقوم به الفتيات الفلسطينيات من الإقدام على عمليات استشهادية تستهدف العدو مضحين بشبابهن ومستقبلهن في سبيل قضية وطنهن، أتذكر حينما كانت إذاعة BBC تبث لقاءات مع أهالي هؤلاء الفتيات، وكن جميعا في مقتبل عمرهن، ما زالت أتذكر أحد هذه اللقاءات مع أم أحد الشهيدات تحدثت ساعة كاملة عن ابنتها التي فجرت نفسها وسط عدد من الجنود على أحد الحواجز في الضفة الغربية، وراحت المذيعة تسأل الأم: ألم تكن ابنتك متزوجة؟ ترد الأم: كانت مخطوبة، وكنا نجهز بيتها لكي تُزف إلى عريسها خلال الشهر القادم. تسأل المذيعة: ألم يبد عليها أية مؤشرات تقول بأنها كانت عازمة على تنفيذ هذه العملية؟ ترد الأم: كنت أعرف وكنت أقرأ لها القرآن وأدعو لها. وماذا عن أبيها؟ تقول الأم: لقد أخفيت عنه ذلك لأنه مريض ولا يتحمل ما كانت تعتزم عليه ابنته، لذا أخفيت الأمر عليه!

ما هذه القوة؟ وما هذا الإيمان الذي يدفع بشاب أو شابه إلى الإقدام على الموت في سبيل قضية وطنه؟ إنها الدروس التي لم يستوعبها الإسرائيليون بعد، بل ضاعفوا من قسوتهم وكراهيتهم وحقدهم على شعب لا يريد من الحياة إلا أن يعيش كريماً على أرضه، نشاهد هذه النضالات كل يوم سواء في غزة أو في الضفة الغربية، ترى الشباب والشابات وهم يودعون شهداءهم بالزغاريد والتكبير والهتافات، غير عابئين بالموت الذي يقدمون عليه أكثر من إقدامهم على الحياة، تراهم أمام خيامهم وهم يقتسمون قطعة من الخبز، غاضبون؟ نعم لكنهم متفائلون مبتسمون واثقون بأن الضوء قادم في نهاية النفق، وسوف يبدد الظلام، وأن كل جرائم إسرائيل لن تنال من عزيمتهم، واثقون من النصر لا محالة.

إن ما يحدث في فلسطين في حاجة إلى دراسة من كل المراكز البحثية لمعرفة طبيعة هذا الشعب العجيب الجبار القابع على أرضه الواثق في مستقبله، حتى لو تخلى عنه بنو جلدته وتركوه رهن الموت والعراء والجوع، سوف يكتب التاريخ يوماً ما صفحات من النور والبهاء والفخار لشعب لم ييأس ولم يستسلم، بينما سوف يكتب التاريخ أيضا عن عالم ظالم، منحاز لأنانيته وغياب ضميره، بينما سوف يكتب التاريخ أيضا عن موقف العرب المتخاذل المنهزم، الذي يرتجف خوفا على مصالحه الضيقة، بينما كان في استطاعته أن يصنع لنفسه تاريخا مشرفاً.

تحية تقدير واحترام لأهلنا في غزة والضفة، ونأسف على ضعفنا وهواننا وخذلاننا. أعذرونا فغيري كثيرون يودون لو كانوا معكم، يشاركونكم إحزانكم وقسوة عدوكم، لكننا ضعفاء، مكبلون بقيود حديدية تحول دون أن نكون معكم، لكم المجد ولكل الشهداء الرحمة والجزاء الذي ينتظرهم في حياة أخرى يسودها العدل، يدفع فيها المتخاذلون ثمن خذلانهم.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).