لا جديد في أن السياسيين ينافقون ويكذبون؛ فهاتان سمتان التصقتا بمجمل تاريخ رجالات السلطة ونوَّاب البرلمانات، أو حتى بالفرسان والقادة العسكريين في أي مكان وزمان، حتى في أكثر البلدان التي تتمتع بقدر مشهود من الشفافية الديمقراطية. ولا جديد، أيضًا، لو قلنا إن الصحافة والإعلام قد يُسيَّسان إلى درجة تُغيَّب فيها الحدود المهنية والأخلاقية بين الرسالة الصحفية والتغطية الإعلامية، من جهة، والخطاب السياسي الدعائي والتعبوي التحريضي من جهة أخرى، مما يعني سقوط «السلطة الرابعة» وتحوّلها إلى جوقة رديفة تخدم انحيازات وأغراض رجال السياسة، تتستر على أخطائهم وتلفق لهم الانتصارات والأمجاد المزيفة. مع ذلك، وبالرغم من أن كل ما سبق لم يعد يفاجئنا، فإن الكذب في إسرائيل، على أعلى المستويات، يبدو مختلفًا عنه في أي مكان آخر؛ إذ يمثل حالة من الكذب المَرَضي التي تكاد تصبح «طبيعية» كالتنفس.

فالكذب في إسرائيل لا يعرف حدودًا ولا خجلًا؛ فإنْ كان البعض يدافع عن الكذبة باستعراض بعض الحقائق التي تخدمها، كمن ينحت كذبة (واقعية) من مجموعة حقائق، فإن الخطاب العام في إسرائيل بات ينتهج أسلوبًا أكثر صفاقة؛ وهو الدفاع عن الكذبة الكبيرة بالأكاذيب الصغيرة، يهاجم بالكذب ويتحصن للدفاع عن نفسه بالمزيد من الكذب، وقد يتقدم تارةً بكذبة قبل أن يعود ليتراجع عنها، تبعًا لردات الفعل العكسية، باختلاق كذبة أخرى. وقد تابعنا هذا الأسلوب الكوميدي بوضوح فضائحي قاتل منذ الأيام الأولى من حرب الإبادة الإسرائيلية المستمرة على غزة، ونكتفي بأن نذكِّر هنا فقط بحماقات «خبير التجميل» الأول في الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، الذي سخَّر كلَّ ألاعيبه ومواهبه المحزنة في الكذب المرتجل الرخيص من أجل غاية واحدة مفادها «وضع أحمر الشفاه على الهراء»، وهي عبارة ذاعت وسط الصحافة العالمية أواخر ديسمبر الماضي، بعد أن أطلقها حاييم ليفينسون، الكاتب في صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في مقاله الذي يرى فيه أن الإسرائيليين «بحاجة لأكاذيب هاغاري ليؤمنوا بأنهم منتصرون». طبعًا، لا يمكننا أن نقرأ كلامًا كهذا عن هاغاري، دون أن نتذكّر صورته في مكان معتم ادّعى أنه الطابق السفلي من مستشفى الرنتيسي، حيث يقف مشيرًا إلى جدول أيام الأسبوع الملصق على الجدار، مدّعيًا ثانيًا أن الجدول يضم أسماء رجال من حماس يتناوبون على حراسة الرهائن. وللأمانة، فإن اتّهام هاغاري بالكذب في موقف كهذا قد يحمل معه شيئًا من الظُّلم، إنما تقضي الأمانة أن نعاتب قيادة الجيش الإسرائيلي على تقصيرها في تعليم المتحدث باسمها دروسًا أولية في اللغة العربية؛ كأن يبدأ بتعلم أسماء أيام الأسبوع العربية مثلًا... كم ستكلف هذا الجيش المشهور بميزانياته الضخمة، المدعومة أمريكيًّا، دورةٌ مبسطة في اللغة العربية؟!

يعزِّي هاغاري الحزين أنه لا يقف وحيدًا في هذا الموقف المحرج، فهو واحد من بين عائلة من الأفَّاقين، سواء في الجيش أو الحكومة، عُرفوا دائمًا بأنهم يكذبون على بعضهم البعض في الاجتماعات، إلى الحد الذي جعل نتانياهو هذا الأسبوع يقترح العمل على قانون يُلزم الوزراء المشاركين في الاجتماعات الأمنية بالخضوع لاختبار «كشف الكذب» بصورة دورية، وذلك بعدما اشتكى مرارًا من التسريبات التي تخرج من اجتماعاته المغلقة إلى الصحافة والإعلام. لكن السؤال هو: من ذا الذي سيتفوَّق على نتانياهو نفسه في اختبار الكذب؟!

نحن لا نريد أن نكلِّف نتانياهو عناء الصدق ولا مشقة التوقف عن الكذب -معاذ الله- نحن فقط نرجوه أن يتواضع قليلًا بينما يتحدث إلى قومه بالعبرية قائلًا إن «جيشنا هو أكثر جيش أخلاقي في العالم» العبارة التي أدمن الساسة في حكومته تكرارها، منذ سنوات، كشعار تجاري لوصف الجيش الذي يتفسخ أخلاقيًّا وعسكريًّا على أرض الميدان. وقد عاد يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي، للاستعانة بالتكرار الممل لهذا الشعار قبل أيام كردٍّ بائس على المرافعة التي قدمتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية في لاهاي. وهنا يبدو التكرار تقنية كسولة تنم عن بلادة في التعبير وعن خيال ضيق تعاني منه العقلية «الإبداعية» المنكبة على صياغة هذه الشبكة الواهية من الأكاذيب الإسرائيلية. لذا فإن أجمل نصيحة مخلصة وصادقة يمكن أن تُسدى لإسرائيل من قبل أصدقائها في هذا التوقيت يجب أن تتضمن التالي: لقد آن الأوان للتخلي عن دفتر تعليمات وزير الدعاية النازي، آن الأوان لإسرائيل أن تفتش عن بديل أفضل لدرس جوزيف جوبلز الذي يقول: «اكذب، ثم اكذب حتى تُصدَّق».

لا شكَّ لدي بأن «إسرائيل» سيقتلها الكذب على المدى الطويل. أما على المدى القصير فمعضلتنا تبدأ من حقيقة أن الكذبة الإسرائيلية لا تزال منذ خمسة وسبعين عامًا كذبةً مسلَّحة بأحدث الترسانات العسكرية. وأظن أنها قد تحوَّلت بالنسبة لرعاتها في الولايات المتحدة إلى كذبة نووية تهدد العالم بخطر تفكيكها. هي الأكذوبة الكبرى التي ستهلكها الصغائر غير الصالحة حتى للاستهلاك الإعلامي، والتي عادة ما يرتد مفعولها عكسيًّا كأثر الأسلحة الفاسدة في الحروب والنيران الصديقة، خاصة وقد بدأت تشهد منذ عقود انحرافها الواضح من حقبة الكذب على الآخرين إلى الكذب على النفس.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني