خلق الله الإنسان، وأبدعه في أحسن صورة وقوام، وميّزه بالعقل والتفكير. هكذا يبدأ التاريخ الإنساني، بالعقل، الفكرة، التفكير. ومن عجائب التاريخ الإنساني، أن تستمر بعض الأفكار وتظل تتمدد وتتوالد منها أفكار أخرى، بعد موت صاحبها الأول بعشرات القرون!، بل إن بعض هذه الأفكار تبدأ بفكرة حسنة وينتهي تطبيقها بمأساة كونية شاملة، وتنحسر أفكار أخرى ظلت تُذيق الناس آلامًا وعذابًا. وما بين هذا وذاك، تظهر بين فينة وأخرى شخوص أو مجموعات، تتبنّى أفكارًا لذات الأفكار، أو لمصالحها الذاتية. وقد كانت الحروب الصليبية مثالًا صارخًا على ما يمكن لفكرة يبدو أساسها دينيا، في أن تكون نواة لتشكيل وعي أقل ما يمكن أن نقول عنه بأنه مسخٌ حي. فالدين، والصحة؛ يبذل الإنسان لأجلهما الغالي والنفيس، وتذوب أمامهما الفوارق والمخاوف والصعاب. ولكن هذين الأمرين يكونان جنة أو جحيما؛ حسبما يتفق لصاحب السلطة أن يُسيِّرهما في دربه. فيمكن لفكرة تبدو دينية وتقرِّب من الله والجنة؛ أن تكون جحيما ووبالًا على آخرين.
ولن أشير هنا إلى ما اصطلح على تسميته بـ«الإرهاب» وفق القاموس الأمريكي لتصنيف المصالح، بل سأشير إلى الحروب الصليبية التي تكبد العالم بسبب وحشيتها ما لم يتكبده حتى مجيء الحربين العالميتين الأولى والثانية.
تبدو فترة الحروب الصليبية فترة غريبة وعجائبية، ففيها من المتناقضات والروايات المتضادة الشيء الكثير؛ ومن الكتب النادرة التي كتبت عن الحروب الصليبية كتاب الأمير أسامة بن منقذ الشهير الموسوم بـ«الاعتبار». كما أن هنالك عدة كتب من نفس الفترة، من مثل كتاب أبي شامة المقدسي «عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والإصلاحية»، وكتاب عماد الدين الأصفهاني «خريدة القصر وجريدة العصر» بأجزائه الواحد والعشرين، ويعدّ من أهمّ كتب التراجم التي أرّخت للشعراء في القرنين الخامس والسادس للهجرة، أي فترة الغزو الصليبي بحملتيها الأولى والثانية.
وكتاب «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي». وقد اقتبست المصادر الأخيرة بتصرف من مقال ماتع لـ«ديمة الشكر» بعنوان «صورتا القائد والعدوّ في الشّعر العربي إبّان الحروب الصليبية». وفي المجمل، فإن الكتب التي أُلِّفت من قبل الغازين -الصليبيين- والمترجمة إلى العربية قليلة ونادرة، وسنتناول في هذا المقال أحدها؛ وهو كتاب «تاريخ الحملة إلى القدس» لمؤلفه «فوشيه الشارتري» واسمه بالفرنسية Foucher de Chartres وهي الحملة التي كانت من تاريخ 1095م حتى 1127م، وشارتر هذه بلدة تقع في الشمال الغربي من فرنسا، وفي الجنوب الغربي من العاصمة الفرنسية باريس، أما المؤلف فهو أحد المؤرخين والقساوسة الذين حضروا «مجمع كليرمون» عام 1095م، وهو المجمع الذي أقامه البابا أوربان الثاني والذي كان حجر الأساس للحروب الصليبية فيما بعد.
قسَّم فوشيه كتابه إلى ثلاثة أجزاء أو ثلاثة كتب ومقدمة ثرية تكشف ملامح جيدة نفسية ودينية عن حال المؤلف وقومه في تلك الفترة؛ ويبدأ المؤلف كتابه الأول بالحديث عن مجمع كليرمون والوضع الذي ساد أوروبا في تلك الفترة، مختتما إياه بالحديث عن وفاة الملك جودفري.
من حيث ينتهي الكتاب الأول بأحداثه، يبدأ الكتاب الثاني بالحديث عن بلدوين وما فعله في فترته باستيلائه على القدس وغيرها، مختتما هذا الكتاب بالحديث عن وفاة الملك ذاته. ليأتي الكتاب الثالث والأخير ويفتتحه بالحديث عن ترسيم الملك بلدوين الثاني وتنصيبه ملكًا على القدس، مختتما هذا الكتاب، والكتاب كله بالحديث عن «وباء الجرذان» الذي حصل عام 1127م، وبين ثنايا كل كتاب من هذه الكتب الثلاثة قصص وأخبار وأحداث لا تنتهي ونصوص تستدعي الوقوف والتأمل والمقارنة بين صليبيي الأمس وصليبيي اليوم، وهي قراءة تأتي في ظل الحدث التاريخي المأساوي والقاتل الذي يعيش تحت وطأته إخواننا الفلسطينيون وهم يقاسون ويكابدون الاحتلال وقوى الشر الغربية، وخصوصا أهل غزة الأعزة أيدهم الله بنصره.
وفي المجمل، فإن قراءة الماضي بعين الحاضر فيها إجحاف كبير؛ ولكن إغفال الماضي في فهم بعض مضامين الحاضر فيها من الحماقة الشيء الكثير. وإن كان الإنسان يعرف تاريخ آبائه أو دولته أو دينه -ولو بالشيء اليسير- فإن الأحداث الكبرى تظل أسطورة مقدسة تداعب خيالاته وخيالات الكثير من أقرانه ومجتمعه؛ والأساطير الصليبية إحدى هذه الأساطير التي يؤمن بها جمع لا بأس به من العامة والخاصة في الغرب.
فكما كانت الأندلس الفردوس المفقود للمسلمين -مع اختلاف أنهم عمّروها وجعلوها عاصمة للعلم والحضارة- فإن الشرق بأسطوريته في المخيلة الغربية وارتباطه بالسيد المسيح والكثير من الأحداث الدينية والتاريخية هو الفردوس المفقود للصليبيين، أو لنقل للأوروبيين؛ وهنا نقيض لما فعله المسلمون بالقدس، فقد جلب الأوروبيون معهم الأوبئة والأمراض فضلا عن الدمار الكبير الذي ألحقوه بالبلاد والعباد، وهو مذكور في كتبهم ووثائقهم قبل كتب المسلمين حتى وتوثيقهم لفترات العدوان الغربي على المشرق العربي، والذي لاقى أهله العذاب والقتل بغض النظر عن الديانة التي اعتنقوها والمذهب الذي تمذهبوا به.
وسندخل في تفاصيل الكتاب في الحلقات المقبلة بمزيد من التفصيل، حيث سنتناول الكتب الثلاثة كتابا فكتاب، كما أراد له مؤلفه. والكتاب متوفر بنسخته الإلكترونية الرقمية وكذلك بنسخته الورقية في شبكة الإنترنت والمكتبات والمتاجر الإلكترونية لمن أراد الاطلاع عليه.
ولن أشير هنا إلى ما اصطلح على تسميته بـ«الإرهاب» وفق القاموس الأمريكي لتصنيف المصالح، بل سأشير إلى الحروب الصليبية التي تكبد العالم بسبب وحشيتها ما لم يتكبده حتى مجيء الحربين العالميتين الأولى والثانية.
تبدو فترة الحروب الصليبية فترة غريبة وعجائبية، ففيها من المتناقضات والروايات المتضادة الشيء الكثير؛ ومن الكتب النادرة التي كتبت عن الحروب الصليبية كتاب الأمير أسامة بن منقذ الشهير الموسوم بـ«الاعتبار». كما أن هنالك عدة كتب من نفس الفترة، من مثل كتاب أبي شامة المقدسي «عيون الروضتين في أخبار الدولتين النورية والإصلاحية»، وكتاب عماد الدين الأصفهاني «خريدة القصر وجريدة العصر» بأجزائه الواحد والعشرين، ويعدّ من أهمّ كتب التراجم التي أرّخت للشعراء في القرنين الخامس والسادس للهجرة، أي فترة الغزو الصليبي بحملتيها الأولى والثانية.
وكتاب «النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة لابن تغري بردي». وقد اقتبست المصادر الأخيرة بتصرف من مقال ماتع لـ«ديمة الشكر» بعنوان «صورتا القائد والعدوّ في الشّعر العربي إبّان الحروب الصليبية». وفي المجمل، فإن الكتب التي أُلِّفت من قبل الغازين -الصليبيين- والمترجمة إلى العربية قليلة ونادرة، وسنتناول في هذا المقال أحدها؛ وهو كتاب «تاريخ الحملة إلى القدس» لمؤلفه «فوشيه الشارتري» واسمه بالفرنسية Foucher de Chartres وهي الحملة التي كانت من تاريخ 1095م حتى 1127م، وشارتر هذه بلدة تقع في الشمال الغربي من فرنسا، وفي الجنوب الغربي من العاصمة الفرنسية باريس، أما المؤلف فهو أحد المؤرخين والقساوسة الذين حضروا «مجمع كليرمون» عام 1095م، وهو المجمع الذي أقامه البابا أوربان الثاني والذي كان حجر الأساس للحروب الصليبية فيما بعد.
قسَّم فوشيه كتابه إلى ثلاثة أجزاء أو ثلاثة كتب ومقدمة ثرية تكشف ملامح جيدة نفسية ودينية عن حال المؤلف وقومه في تلك الفترة؛ ويبدأ المؤلف كتابه الأول بالحديث عن مجمع كليرمون والوضع الذي ساد أوروبا في تلك الفترة، مختتما إياه بالحديث عن وفاة الملك جودفري.
من حيث ينتهي الكتاب الأول بأحداثه، يبدأ الكتاب الثاني بالحديث عن بلدوين وما فعله في فترته باستيلائه على القدس وغيرها، مختتما هذا الكتاب بالحديث عن وفاة الملك ذاته. ليأتي الكتاب الثالث والأخير ويفتتحه بالحديث عن ترسيم الملك بلدوين الثاني وتنصيبه ملكًا على القدس، مختتما هذا الكتاب، والكتاب كله بالحديث عن «وباء الجرذان» الذي حصل عام 1127م، وبين ثنايا كل كتاب من هذه الكتب الثلاثة قصص وأخبار وأحداث لا تنتهي ونصوص تستدعي الوقوف والتأمل والمقارنة بين صليبيي الأمس وصليبيي اليوم، وهي قراءة تأتي في ظل الحدث التاريخي المأساوي والقاتل الذي يعيش تحت وطأته إخواننا الفلسطينيون وهم يقاسون ويكابدون الاحتلال وقوى الشر الغربية، وخصوصا أهل غزة الأعزة أيدهم الله بنصره.
وفي المجمل، فإن قراءة الماضي بعين الحاضر فيها إجحاف كبير؛ ولكن إغفال الماضي في فهم بعض مضامين الحاضر فيها من الحماقة الشيء الكثير. وإن كان الإنسان يعرف تاريخ آبائه أو دولته أو دينه -ولو بالشيء اليسير- فإن الأحداث الكبرى تظل أسطورة مقدسة تداعب خيالاته وخيالات الكثير من أقرانه ومجتمعه؛ والأساطير الصليبية إحدى هذه الأساطير التي يؤمن بها جمع لا بأس به من العامة والخاصة في الغرب.
فكما كانت الأندلس الفردوس المفقود للمسلمين -مع اختلاف أنهم عمّروها وجعلوها عاصمة للعلم والحضارة- فإن الشرق بأسطوريته في المخيلة الغربية وارتباطه بالسيد المسيح والكثير من الأحداث الدينية والتاريخية هو الفردوس المفقود للصليبيين، أو لنقل للأوروبيين؛ وهنا نقيض لما فعله المسلمون بالقدس، فقد جلب الأوروبيون معهم الأوبئة والأمراض فضلا عن الدمار الكبير الذي ألحقوه بالبلاد والعباد، وهو مذكور في كتبهم ووثائقهم قبل كتب المسلمين حتى وتوثيقهم لفترات العدوان الغربي على المشرق العربي، والذي لاقى أهله العذاب والقتل بغض النظر عن الديانة التي اعتنقوها والمذهب الذي تمذهبوا به.
وسندخل في تفاصيل الكتاب في الحلقات المقبلة بمزيد من التفصيل، حيث سنتناول الكتب الثلاثة كتابا فكتاب، كما أراد له مؤلفه. والكتاب متوفر بنسخته الإلكترونية الرقمية وكذلك بنسخته الورقية في شبكة الإنترنت والمكتبات والمتاجر الإلكترونية لمن أراد الاطلاع عليه.