تتدفق شعاب الخيال الإنساني بالحكايات المُتوارَثة، تجري من الألسن كالماء الرَّقراق، وتتقبلها القلوب بشغف وكأنها حقيقة، فالخيال آسِرٌ كما هو السَّراب، يحسبه الظمآن ماءً، لتروي الحكايات أرض الخيال، وتغذيها بما لذّ وطاب من قصص الأولين وأساطيرهم، المُسَّطَّرة في صحائف الوجدان الاجتماعي. الحكايات الشعبية تُوجد تفسيرًا لكل شيء مدهش، فهذه الأفلاج التي تشق الأرض، وتسيل في أنفاق سرية مدهشة، هي بحسب الحكايات أنها من صُنْع الجن، وتتطور الحكاية في نسيج أخّاذ، ليدخل الغيبي في تفسير الإبداعات الهندسية للقلاع والحصون، إذ لم تشيدها سواعد أهل البلد، بل دخلت فيها قوة الجن، ولعلهم من شيدوها بين عشية وضُحاها.
ولو أصغينا الحديث لتلك الشفاه المُتمْتِمَة بالحكايات الغيبية والأساطير الشعبية، لكنا أصَخنا السمع طويلًا؛ لأن خيط الحكاية يمتد إلى ما وراء الخيال، واللسان عاجز عن سرد كل ما يُروى ويقال، حتى كتب التاريخ صيغت بقالب حِكائي أخّاذ، من الكلمة الأولى التي يكتبها المؤرخ: (يُرْوَى أنه..)، وهي رديفة لمعنى الحكاية: (يُحْكَى أنَّ..)، فما يُروى هو ما سجلته الذاكرة الشعبية من حكايات وقصص وروايات، مسبوكة بخيال شعبي جمعي، وفي النهاية تنتهي الحكاية كما يشاء لها الرَّاوي.
في كتابه الماتع جدًا: «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان» يتحفنا الشيخ عبدالله بن حميد السالمي (ت: 1914م)، بحكايات وأخبار شعبية شيقة، في الفصول الأولى من كتابه المهم هذا، إذ يسرد أخبارًا عن «مالك بن فهم» بعد ملكه لعُمان، وصَفته الموسوعة العمانية في مدخلها عنه أنه: مَلِك، وأخباره منقولة من كتاب: «الأنساب» للعوتبي، الذي نقلها عن الراوي الحَكَّاء ابن هشام الكلبي، وبغض النظر عن مصداقية هذه القصص المُتناقلة، إلا أنه في مجملها الجَمالِي، هي قصص من الذاكرة الشفهية الشَّعبية، ترتبط بموتيفات في الواقع، في أغلبها مجموعة من الحَصَى والحجارة والآثار المتبقية من القرون الماضية.
حكاية مالك بن فهم
تبدأ تفاصيل حكاية مالك بن فهم، منذ خروجه من اليمن بسبب «كلبة» كانت لجاره، وكانت تنبح بني أخيه عمرو بن فهم، فتفرِّق غنمَهم، حتى رماها رجل منهم بسهم فقتلها، فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه، فغضب مالك وقال: لا أقيم ببلد ينال فيها هذا من جاري، ثم خرج مراغمًا لأخيه: التحفة.
ويروي أبو حاتم السَّجستاني صاحب الذاكرة الفذة بخياله الأدبي، هذه القصة بصيغة أخرى: أنَّ سبب خروج مالك بن فهم عن قومه، أنَّ راعيا لمالك خرج بغنم، وكان في طريقهم ثنِيَّة (عقبة في جبل)، فيها كلب عقور لغلام من دوس، فشدَّ الكلب على الراعي فرماه بسهم فقتله، فخرج مالك يريد عُمان، ويضيف هشام الكلبي للقصة مسحة أدبية أخرى تقول: في طريقه حنَّت إبله إلى مراعيها، فقال مالك في ذلك شِعرًا:
تَحِنُّ إلى أوْطانِها بُزْلُ مالِكٍ
ومِنْ دُونِها عَرْضُ الفَلا والدَّكادِكِ
وللبيت وما يليه صيغة أخرى، يمكن الرجوع إليها في كتاب التحفة، ص: 20.
ولا أستطرد كثيرًا في سرد قصة مالك بن فهم، فتفاصيلها مذكورة في كتب التاريخ، إنما ألمح إلى إقامته في «منح»، وشقه لفلج سمي باسمه، لا تزال آثار مجراه باقية إلى اليوم في قرية الفيقين، وهناك أيضا ما يعرف بموقع «المَرابيط» بمنح، وهو المكان الذي كان مالك بن فهم يربط فيه خيوله، ثم اتجه بعد ذلك إلى موقع «سلُّوت» ببهلا، ليدخل في حرب ضروس مع الفرس، رسمها الكلبي في تاريخه بتفاصيلها الدقيقة، ذاكرا عدد الجند، ولون الثياب والدروع، واحتدام المعركة بين الفريقين، والقارئ لهذه الحكاية يشعر وكأنه يرى فيلما وثائقيا عنها، حتى تنتهي بانتصار مالك.
هذه القصة منشؤها فن السرد، الذي يجيده بعض المُؤرخين، وإن كان لا يستبعد أن تكون حقيقية، لكن التفاصيل المذكورة توحي بأن الخيال لعب دورًا في نسْجها، كما لا يعني أنني أنكر شخصية مالك بن فهم، باعتباره الجد الأكبر لقبائل كثيرة في عمان منها الأزد، لكن في نفسي من تفاصيل قصته، حتى اسمه يوحي لي بصنعة شعبية: فكأن «مالك بن فهم» ذو سطوة وقوة، وصاحب حنكة وفراسة وفَهْم، وقد ذكر بعض المفسرين أن المَلِك الذي ذُكر في القرآن الكريم في سورة الكهف، آية رقم: 79 (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) هو: مالك بن فهم، وقيل غيره، وتفاصيل قصته كما وردت في كتب التاريخ يُغري بمشاكستها نقديًا، فالقصة مذكورة في «تحفة الأعيان» للسالمي، و«كشف الغمة» للأزكوي، وقبلهما كتاب «الأنساب» للعوتبي، وجميعهم ينسبونها لابن هشام الكلبي، وهذه القصة لها مكان بملامح واضحة في منح وسلَّوت، هيَّئته الذاكرة الشعبية.
سلاموه وبناتها الممسوخات
ونمضي مع الحِكايات والأساطير الشعبية في محافظة الداخلية، فنجدها في أكثر من موقع، ولها أكثر من صيغة، فهناك أساطير شعبية جعلت من الحجر كائنات بشرية ممسُوخة، مثال على ذلك: عند مدخل ولاية منح، تتفيأ مجموعة من الحصيَّات الوردية ظلال أشجار السمر، تعرف باسم: «سلاموه وبناتها»، وتتناقل الأخبار قصة «سلاموه وبناتها»، وهي حجارات مختلفة الأحجام، فالكبيرة هي الأم: «سلاموه»، والأصغر هن: بناتها، يشكلن في مجموعهن «سلاموه وبناتها»، اللائي مُسِخْنَ إلى حجارة، بسبب فُحْشهن في التعامل مع نِعَم الله، وكأنَّ الأسطورة تريد أن تقول: إن الفُحْش في القول والفعل يؤدي إلى المسخ، أو أن المعبودات الحجرية هي بالأصل كائنات بشرية، وربما يكون لهن مثيل في أماكن أخرى، فالأسطورة الشعبية تختلف بحسب موقعها، ويوجد لها مكان مناسب، وقد تظهر لها تفاصيل أخرى خاصة بذلك الموقع.
وفي نزوى، المدينة المحاطة بسور من الجبال، والواقعة بين واديي «الأبيض» و«كلبوه»، خرج منها الكثير من الأساطير الشعبية، والحكايات الخرافية، والقصص الإنسانية، كلها تتداخل في نسيج واحد، لمحاولة إنعاش إحساس الدهشة في ذهن من يسمعها، فالإنسان بطبيعته صاحب خيال أسطوري، ويميل إليه كثيرًا، وهو أقوى بكثير من العقل العلمي، الذي لا يقبل التحليق والتصعيد، ولا يميل إلى النسج والتوشية والهذر.
الحصاة والفتاة المسحورة
وفي أي الأمكنة نكون نرى للأسطورة حضورًا، يجسدها الواقع، ويضع لها ملامح ثابتة، فهذه صخرة مستديرة عملاقة، انحدرت ذات يوم من جبل «الحَوْرَاء» بنزوى، لتستقر بالقرب من مسجد صغير، يطلق عليه اسم: «مسجد الحَصَاة»، يقع في سفح الجبل بمحاذاة وادي الأبيض، يقال: إن الحَجَرة نُقلت بعزيمة ورياضة روحية، لتبقى أحد أسرار المكان، ونُقش في ظاهرها هذه العبارة، التي لا تزال باقية حتى اليوم: (تاريخ يوم نقلت الحَجَرة صباح الثلاثاء الحادي عشر من شهر جمادى الأولى سنة واحد وستين بعد ألف سنة)، لكن ما صحة هذا الكلام؟، وهل حقا نقلت من سفح الجبل الأشم؟، أم انحدرت لوحدها واستقرت في مكانها؟، الذاكرة الشعبية تقول: إنها نُقِلتْ، وأن من نقلها لديه علم بالرياضة الرُّوحية أو أنه يملك الجن. ويا للعجب!.
وللسحر سطوة على قلوب الناس، يذكِّرنا بقصة «الفتاة المَسْحُورة» في نزوى، يسردها شاعر فصيح حَكَّاء، في قصيدة طريفة، تتألف من 66 بيتا، مطلعها:
لقد ظهَرَتْ أعجُوبَةٌ في زَمانِنا
بقريَةِ نَزوَى وهي أمُّ العَجائِبِ
وما أكثر القصص المسبوكة في بهلا عن السَّحَرة، ولا أبالغ في القول: إنها صنعت صناعة شعبية كما يُصنع الفخار في مواقده على نار هادئة، تتخلَّق من تلك الطينة الخاصة به، حكايات السَّحَرة لها طينتها الخاصَّة هي الأخرى، هي أشبه بأواني الفخار، ولكنها لا تتصدَّع، بل تزداد بمرور الأيام صلابة وقوة.
نقصة السُّوق وسَلُّوت
للجن في الذاكرة الشعبية ببهلا حضور كبير، فأينما تتجه تجد لهم لمسَة، قد تبدو مرعبة لغير أصحاب المكان، أما لأهل بهلا فهي لمسة تدعو للتفكُّه والتندُّر والضَّحك، من ذلك: تلك «النقصَة» داخل السوق القديم، يقال إن من يقف بجانبها ينادِي عليه الجن، وكأنه سلعة معروضة للبيع، وهو لا يعلم، فيشتريه الجن ليصبح وليمة بين شعاب الخيال الإنساني، ولعل الغرض من الحكاية حراسة السُّوق، حتى لا يسطو عليه اللصوص.
ويتطاول خيال الحكاية ليبلغ ذرى حصن بهلا المهيب، الذي حتما يكون للجن نصيب من بنائه، وقد سمعت أحد الأجداد يصف الشيخ أبو زيد الريامي (ت: 1945م)، أنه كث الشعر، وأنه لا يقص شعر رأسه، إنما يسفه في ضفيرتين، أما السبب فلأنه (مالك رياضَة)!.
ولا نبعد عن بهلا كثيرا، فموقع «سَلُّوت» الذي قدم إليه مالك بن فهم، ودارت فيه رحى المعركة بينه وبين الفرس، الموقع ذاته بانتظار حكاية ثانية تقول: إن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، سار من أرض فارس، من قلعة «اصْطخَر» إلى عُمان، في نصف يوم، ونزل في موضع القصر من سَلُّوت بعُمان، وهو بناء جديد كأنما رفع الصناع أيديهم منه في ذلك الوقت، وإذ عليه نسْرٌ، فسأله نبي الله عليه السلام عنه، فقال: يا نبي الله، أخبرني أبي عن أبيه عن جده، أنه عَهَدَه على هذا الحال.
جبل الكور وكمة الساحر
إذا سرحنا أنظارنا إلى جهة الغرب من بهلا، سنرى قمم «جبل الكور» تلوح في الأفق، بقممه الغامضة البعيدة عن مرمى البصر، لكن الخيال كان قريبا من سفوحها، فيصنع أسطورة رائعة لكمَّة تشبه طاقية الإخفاء، هي «كمة الساحر» المنسية في كهف غائص في السفح، هناك في البعيد حيث لا تستطيع الأقدام أن تصل إليه، تقول الحكاية كما دوَّنها الشيخ الشيبة: محمد بن عبدالله السالمي (ت: 1985م)، في كتابه «نهضة الأعيان»: (إنه توجد في بعض كهوف جبل الكور كمَّة مصنوعة من «الجوخ الأحمر»، إذا وضعها الرجل الضخم على رأسه تبلغ منكبيه، فإذا أراد إخراجها من موضعها ذهب بصره، حتى يردها في محلها). لعل الجبل مسكون بالجن؟!، سؤال تأتي إجابته من فلج «دَنْ»، النابع من أنحاء جبل الكور، فهو (يوم للإنس، ويوم للجن)، هكذا تقول الأسطورة، فالجبال ليست منبعا للأفلاج، بل للحكايات أيضًا. وعلى ما يبدو للجن أفضال على البشر، ففي «أَدَم» قاموا ببناء مسجد صَغير مُقوَّس السَّقف، ولأنه كذلك، تمت تسميته: «مسجد باني رُوحُه»، أي المسجد الذي بنى نفسَه، تقول الحكاية: (إن الأهالي اختلفوا فيما بينهم أثناء إنشاء هذا المسجد وتعميره، وباتوا عند هذا الخلاف، وما إن حلَّ الصباح حتى فوجئوا بأن هذا المسجد قد تم بناؤه، دون وجود آثار لمواد البناء على سقفه).
عجل جرنان وقرن الجارية
وفي إزكي، لا تزال أسطورة «عجل جَرْنان» المحفوظ داخل كهف مسحور، تتراقص في أذهان الناس، وتلوكها الألسن، وكأنها فاكهة شهية في غير موسِمها، تقول الحِكاية: إن عجلا ذهبيًا محفوظا داخل كهف جرنان، الواقع أسفل إحدى الحارات، وأنَّ كل من حاول دخول الكهف يخرج منه أعمى، وإليه يشير الشاعر أبو مسلم البهلاني في ثلاثة أبيات من قصيدته النونية الشهيرة، وأرقام الأبيات في القصيدة هي: 4، و44، و257:
1 سَقىَ الشَّواجِنَ مِنْ رَضْوَى وَغَصَّ بهِ
سِرٌ وَجَوْفٌ وَغَصَّتْ مِنهُ جَرْنَانُ
2 - ويامِنِ الدَّوْحَ والخَضْرَاءَ مُنتَحِيًا
أفنَاءَ حَلفينَ حيثُ السُّوحُ جَرْنانُ
3 - وأينَ إزْكِي وطيسُ الحَرْبِ مَا فَعَلَتْ
فإنَّ عُمْدَةَ هذا الأمْرِ جَرْنانُ
لكن الشارح محمد الحارثي (ت: 2018م)، لم يذكر الأسطورة، إنما أشار إلى أن «جرنان» اسم جاهلي قديم لإزكي، أما الشارح د. راشد بن علي الدغيشي، فيضيف تفصيلا فيقول: إن إزكي كانت في القديم تسمى جرنان، (نسبة إلى صنم كان يعبده أهلها في الجاهلية، ويقع في غار في الجبال).
وفي سمائل حكايات أخرى عن «قرن الجارية»، تنقلها إلينا «الموسوعة العُمانية»، تصفها أنها (حِكاية من المَورُوث الاجتماعي العُماني)، تجعل من القارئ يرسم في ذهنه صورة الجارية، التي تزوَّجها الملك بعد أن قتل والدها، فواعدته في قمة الجبل، حتى تحيَّنتْ فرصة، دفعت به إلى الأرض، فسقط ميتا، ومنذ ذلك اليوم سُمِّيَ «قرْنُ الجَارية»... ويا جبال أوِّبي بالحِكايات.
ولو أصغينا الحديث لتلك الشفاه المُتمْتِمَة بالحكايات الغيبية والأساطير الشعبية، لكنا أصَخنا السمع طويلًا؛ لأن خيط الحكاية يمتد إلى ما وراء الخيال، واللسان عاجز عن سرد كل ما يُروى ويقال، حتى كتب التاريخ صيغت بقالب حِكائي أخّاذ، من الكلمة الأولى التي يكتبها المؤرخ: (يُرْوَى أنه..)، وهي رديفة لمعنى الحكاية: (يُحْكَى أنَّ..)، فما يُروى هو ما سجلته الذاكرة الشعبية من حكايات وقصص وروايات، مسبوكة بخيال شعبي جمعي، وفي النهاية تنتهي الحكاية كما يشاء لها الرَّاوي.
في كتابه الماتع جدًا: «تحفة الأعيان بسيرة أهل عُمان» يتحفنا الشيخ عبدالله بن حميد السالمي (ت: 1914م)، بحكايات وأخبار شعبية شيقة، في الفصول الأولى من كتابه المهم هذا، إذ يسرد أخبارًا عن «مالك بن فهم» بعد ملكه لعُمان، وصَفته الموسوعة العمانية في مدخلها عنه أنه: مَلِك، وأخباره منقولة من كتاب: «الأنساب» للعوتبي، الذي نقلها عن الراوي الحَكَّاء ابن هشام الكلبي، وبغض النظر عن مصداقية هذه القصص المُتناقلة، إلا أنه في مجملها الجَمالِي، هي قصص من الذاكرة الشفهية الشَّعبية، ترتبط بموتيفات في الواقع، في أغلبها مجموعة من الحَصَى والحجارة والآثار المتبقية من القرون الماضية.
حكاية مالك بن فهم
تبدأ تفاصيل حكاية مالك بن فهم، منذ خروجه من اليمن بسبب «كلبة» كانت لجاره، وكانت تنبح بني أخيه عمرو بن فهم، فتفرِّق غنمَهم، حتى رماها رجل منهم بسهم فقتلها، فشكا جار مالك إليه ما فعل بنو أخيه، فغضب مالك وقال: لا أقيم ببلد ينال فيها هذا من جاري، ثم خرج مراغمًا لأخيه: التحفة.
ويروي أبو حاتم السَّجستاني صاحب الذاكرة الفذة بخياله الأدبي، هذه القصة بصيغة أخرى: أنَّ سبب خروج مالك بن فهم عن قومه، أنَّ راعيا لمالك خرج بغنم، وكان في طريقهم ثنِيَّة (عقبة في جبل)، فيها كلب عقور لغلام من دوس، فشدَّ الكلب على الراعي فرماه بسهم فقتله، فخرج مالك يريد عُمان، ويضيف هشام الكلبي للقصة مسحة أدبية أخرى تقول: في طريقه حنَّت إبله إلى مراعيها، فقال مالك في ذلك شِعرًا:
تَحِنُّ إلى أوْطانِها بُزْلُ مالِكٍ
ومِنْ دُونِها عَرْضُ الفَلا والدَّكادِكِ
وللبيت وما يليه صيغة أخرى، يمكن الرجوع إليها في كتاب التحفة، ص: 20.
ولا أستطرد كثيرًا في سرد قصة مالك بن فهم، فتفاصيلها مذكورة في كتب التاريخ، إنما ألمح إلى إقامته في «منح»، وشقه لفلج سمي باسمه، لا تزال آثار مجراه باقية إلى اليوم في قرية الفيقين، وهناك أيضا ما يعرف بموقع «المَرابيط» بمنح، وهو المكان الذي كان مالك بن فهم يربط فيه خيوله، ثم اتجه بعد ذلك إلى موقع «سلُّوت» ببهلا، ليدخل في حرب ضروس مع الفرس، رسمها الكلبي في تاريخه بتفاصيلها الدقيقة، ذاكرا عدد الجند، ولون الثياب والدروع، واحتدام المعركة بين الفريقين، والقارئ لهذه الحكاية يشعر وكأنه يرى فيلما وثائقيا عنها، حتى تنتهي بانتصار مالك.
هذه القصة منشؤها فن السرد، الذي يجيده بعض المُؤرخين، وإن كان لا يستبعد أن تكون حقيقية، لكن التفاصيل المذكورة توحي بأن الخيال لعب دورًا في نسْجها، كما لا يعني أنني أنكر شخصية مالك بن فهم، باعتباره الجد الأكبر لقبائل كثيرة في عمان منها الأزد، لكن في نفسي من تفاصيل قصته، حتى اسمه يوحي لي بصنعة شعبية: فكأن «مالك بن فهم» ذو سطوة وقوة، وصاحب حنكة وفراسة وفَهْم، وقد ذكر بعض المفسرين أن المَلِك الذي ذُكر في القرآن الكريم في سورة الكهف، آية رقم: 79 (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) هو: مالك بن فهم، وقيل غيره، وتفاصيل قصته كما وردت في كتب التاريخ يُغري بمشاكستها نقديًا، فالقصة مذكورة في «تحفة الأعيان» للسالمي، و«كشف الغمة» للأزكوي، وقبلهما كتاب «الأنساب» للعوتبي، وجميعهم ينسبونها لابن هشام الكلبي، وهذه القصة لها مكان بملامح واضحة في منح وسلَّوت، هيَّئته الذاكرة الشعبية.
سلاموه وبناتها الممسوخات
ونمضي مع الحِكايات والأساطير الشعبية في محافظة الداخلية، فنجدها في أكثر من موقع، ولها أكثر من صيغة، فهناك أساطير شعبية جعلت من الحجر كائنات بشرية ممسُوخة، مثال على ذلك: عند مدخل ولاية منح، تتفيأ مجموعة من الحصيَّات الوردية ظلال أشجار السمر، تعرف باسم: «سلاموه وبناتها»، وتتناقل الأخبار قصة «سلاموه وبناتها»، وهي حجارات مختلفة الأحجام، فالكبيرة هي الأم: «سلاموه»، والأصغر هن: بناتها، يشكلن في مجموعهن «سلاموه وبناتها»، اللائي مُسِخْنَ إلى حجارة، بسبب فُحْشهن في التعامل مع نِعَم الله، وكأنَّ الأسطورة تريد أن تقول: إن الفُحْش في القول والفعل يؤدي إلى المسخ، أو أن المعبودات الحجرية هي بالأصل كائنات بشرية، وربما يكون لهن مثيل في أماكن أخرى، فالأسطورة الشعبية تختلف بحسب موقعها، ويوجد لها مكان مناسب، وقد تظهر لها تفاصيل أخرى خاصة بذلك الموقع.
وفي نزوى، المدينة المحاطة بسور من الجبال، والواقعة بين واديي «الأبيض» و«كلبوه»، خرج منها الكثير من الأساطير الشعبية، والحكايات الخرافية، والقصص الإنسانية، كلها تتداخل في نسيج واحد، لمحاولة إنعاش إحساس الدهشة في ذهن من يسمعها، فالإنسان بطبيعته صاحب خيال أسطوري، ويميل إليه كثيرًا، وهو أقوى بكثير من العقل العلمي، الذي لا يقبل التحليق والتصعيد، ولا يميل إلى النسج والتوشية والهذر.
الحصاة والفتاة المسحورة
وفي أي الأمكنة نكون نرى للأسطورة حضورًا، يجسدها الواقع، ويضع لها ملامح ثابتة، فهذه صخرة مستديرة عملاقة، انحدرت ذات يوم من جبل «الحَوْرَاء» بنزوى، لتستقر بالقرب من مسجد صغير، يطلق عليه اسم: «مسجد الحَصَاة»، يقع في سفح الجبل بمحاذاة وادي الأبيض، يقال: إن الحَجَرة نُقلت بعزيمة ورياضة روحية، لتبقى أحد أسرار المكان، ونُقش في ظاهرها هذه العبارة، التي لا تزال باقية حتى اليوم: (تاريخ يوم نقلت الحَجَرة صباح الثلاثاء الحادي عشر من شهر جمادى الأولى سنة واحد وستين بعد ألف سنة)، لكن ما صحة هذا الكلام؟، وهل حقا نقلت من سفح الجبل الأشم؟، أم انحدرت لوحدها واستقرت في مكانها؟، الذاكرة الشعبية تقول: إنها نُقِلتْ، وأن من نقلها لديه علم بالرياضة الرُّوحية أو أنه يملك الجن. ويا للعجب!.
وللسحر سطوة على قلوب الناس، يذكِّرنا بقصة «الفتاة المَسْحُورة» في نزوى، يسردها شاعر فصيح حَكَّاء، في قصيدة طريفة، تتألف من 66 بيتا، مطلعها:
لقد ظهَرَتْ أعجُوبَةٌ في زَمانِنا
بقريَةِ نَزوَى وهي أمُّ العَجائِبِ
وما أكثر القصص المسبوكة في بهلا عن السَّحَرة، ولا أبالغ في القول: إنها صنعت صناعة شعبية كما يُصنع الفخار في مواقده على نار هادئة، تتخلَّق من تلك الطينة الخاصة به، حكايات السَّحَرة لها طينتها الخاصَّة هي الأخرى، هي أشبه بأواني الفخار، ولكنها لا تتصدَّع، بل تزداد بمرور الأيام صلابة وقوة.
نقصة السُّوق وسَلُّوت
للجن في الذاكرة الشعبية ببهلا حضور كبير، فأينما تتجه تجد لهم لمسَة، قد تبدو مرعبة لغير أصحاب المكان، أما لأهل بهلا فهي لمسة تدعو للتفكُّه والتندُّر والضَّحك، من ذلك: تلك «النقصَة» داخل السوق القديم، يقال إن من يقف بجانبها ينادِي عليه الجن، وكأنه سلعة معروضة للبيع، وهو لا يعلم، فيشتريه الجن ليصبح وليمة بين شعاب الخيال الإنساني، ولعل الغرض من الحكاية حراسة السُّوق، حتى لا يسطو عليه اللصوص.
ويتطاول خيال الحكاية ليبلغ ذرى حصن بهلا المهيب، الذي حتما يكون للجن نصيب من بنائه، وقد سمعت أحد الأجداد يصف الشيخ أبو زيد الريامي (ت: 1945م)، أنه كث الشعر، وأنه لا يقص شعر رأسه، إنما يسفه في ضفيرتين، أما السبب فلأنه (مالك رياضَة)!.
ولا نبعد عن بهلا كثيرا، فموقع «سَلُّوت» الذي قدم إليه مالك بن فهم، ودارت فيه رحى المعركة بينه وبين الفرس، الموقع ذاته بانتظار حكاية ثانية تقول: إن نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام، سار من أرض فارس، من قلعة «اصْطخَر» إلى عُمان، في نصف يوم، ونزل في موضع القصر من سَلُّوت بعُمان، وهو بناء جديد كأنما رفع الصناع أيديهم منه في ذلك الوقت، وإذ عليه نسْرٌ، فسأله نبي الله عليه السلام عنه، فقال: يا نبي الله، أخبرني أبي عن أبيه عن جده، أنه عَهَدَه على هذا الحال.
جبل الكور وكمة الساحر
إذا سرحنا أنظارنا إلى جهة الغرب من بهلا، سنرى قمم «جبل الكور» تلوح في الأفق، بقممه الغامضة البعيدة عن مرمى البصر، لكن الخيال كان قريبا من سفوحها، فيصنع أسطورة رائعة لكمَّة تشبه طاقية الإخفاء، هي «كمة الساحر» المنسية في كهف غائص في السفح، هناك في البعيد حيث لا تستطيع الأقدام أن تصل إليه، تقول الحكاية كما دوَّنها الشيخ الشيبة: محمد بن عبدالله السالمي (ت: 1985م)، في كتابه «نهضة الأعيان»: (إنه توجد في بعض كهوف جبل الكور كمَّة مصنوعة من «الجوخ الأحمر»، إذا وضعها الرجل الضخم على رأسه تبلغ منكبيه، فإذا أراد إخراجها من موضعها ذهب بصره، حتى يردها في محلها). لعل الجبل مسكون بالجن؟!، سؤال تأتي إجابته من فلج «دَنْ»، النابع من أنحاء جبل الكور، فهو (يوم للإنس، ويوم للجن)، هكذا تقول الأسطورة، فالجبال ليست منبعا للأفلاج، بل للحكايات أيضًا. وعلى ما يبدو للجن أفضال على البشر، ففي «أَدَم» قاموا ببناء مسجد صَغير مُقوَّس السَّقف، ولأنه كذلك، تمت تسميته: «مسجد باني رُوحُه»، أي المسجد الذي بنى نفسَه، تقول الحكاية: (إن الأهالي اختلفوا فيما بينهم أثناء إنشاء هذا المسجد وتعميره، وباتوا عند هذا الخلاف، وما إن حلَّ الصباح حتى فوجئوا بأن هذا المسجد قد تم بناؤه، دون وجود آثار لمواد البناء على سقفه).
عجل جرنان وقرن الجارية
وفي إزكي، لا تزال أسطورة «عجل جَرْنان» المحفوظ داخل كهف مسحور، تتراقص في أذهان الناس، وتلوكها الألسن، وكأنها فاكهة شهية في غير موسِمها، تقول الحِكاية: إن عجلا ذهبيًا محفوظا داخل كهف جرنان، الواقع أسفل إحدى الحارات، وأنَّ كل من حاول دخول الكهف يخرج منه أعمى، وإليه يشير الشاعر أبو مسلم البهلاني في ثلاثة أبيات من قصيدته النونية الشهيرة، وأرقام الأبيات في القصيدة هي: 4، و44، و257:
1 سَقىَ الشَّواجِنَ مِنْ رَضْوَى وَغَصَّ بهِ
سِرٌ وَجَوْفٌ وَغَصَّتْ مِنهُ جَرْنَانُ
2 - ويامِنِ الدَّوْحَ والخَضْرَاءَ مُنتَحِيًا
أفنَاءَ حَلفينَ حيثُ السُّوحُ جَرْنانُ
3 - وأينَ إزْكِي وطيسُ الحَرْبِ مَا فَعَلَتْ
فإنَّ عُمْدَةَ هذا الأمْرِ جَرْنانُ
لكن الشارح محمد الحارثي (ت: 2018م)، لم يذكر الأسطورة، إنما أشار إلى أن «جرنان» اسم جاهلي قديم لإزكي، أما الشارح د. راشد بن علي الدغيشي، فيضيف تفصيلا فيقول: إن إزكي كانت في القديم تسمى جرنان، (نسبة إلى صنم كان يعبده أهلها في الجاهلية، ويقع في غار في الجبال).
وفي سمائل حكايات أخرى عن «قرن الجارية»، تنقلها إلينا «الموسوعة العُمانية»، تصفها أنها (حِكاية من المَورُوث الاجتماعي العُماني)، تجعل من القارئ يرسم في ذهنه صورة الجارية، التي تزوَّجها الملك بعد أن قتل والدها، فواعدته في قمة الجبل، حتى تحيَّنتْ فرصة، دفعت به إلى الأرض، فسقط ميتا، ومنذ ذلك اليوم سُمِّيَ «قرْنُ الجَارية»... ويا جبال أوِّبي بالحِكايات.