يدور جدل كبير في بعض وسائل الإعلام الغربية الكبرى حول ما إذا كانت أرقام القتلى في غزة منذ بداية الحرب ترقى إلى أن تكون جرائم حرب أم هي أرقام طبيعية يمكن «تقبُّلها» على هامش كل الحروب. وخرج هذا الجدل من المجتمع العسكري والأمني في الغرب وبشكل خاص في أمريكا إلى المجتمع السياسي والأكاديمي والإعلامي، وهذا الأخير ما زال في الكثير من صفحاته يتبنّى الرؤية العسكرية التي تدافع بأن «إسرائيل لم ترتكب جرائم حرب.. ولكن عليها احتياطا أن تتجنب المدنيين»، وكأن آلاف الأطفال الذين يُقتلون يوميا تحت الركام أو في المستشفيات هم ضمن كتائب النخبة في كتائب عز الدين القسام.. وكتبت مجلة أمريكية مرموقة تقول: «إن عدد الضحايا المعلن عنهم في غزة مذهل، والصور المنقولة من هناك مفجعة، ولكن استنادا إلى بيانات جديدة وحصرية حول حجم الهجمات الإسرائيلية، فإن عدد الضحايا، رغم ارتفاعه، لا يبدو غير مناسب مع نوع التدابير المستخدمة في القانون الدولي، وتوافق المصادر العسكرية الأمريكية على ذلك».

ورغم ما في هذا الجدل وهذه النتيجة التي تتبنّاها المجلة الأمريكية كما الكثير من وسائل الإعلام الغربية من عمى عن الحقيقة الواضحة وضوح الشمس إلا أنه أيضا، يكشف عن مأزق أخلاقي خطير ينظر للحياة الإنسانية بمعايير مزدوجة.. فهي غالية جدا عندما يتعلق الأمر بالإسرائيليين أو الغرب ولا قيمة لها أبدا عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين أو العرب. وإلا فإن تلك الوسائل تقول إن «عدد الضحايا مذهل» و«الصور المنقولة من هناك مفجعة» لكنها تبقى لفلسطينيين وليست لإسرائيليين!

إن قبول إزهاق حياة أي إنسان بريء مهما كان العدد معضلة أخلاقية كبرى تكشف عن خلل نفسي أو تحوّل «حضاري» نحو التوحش، وليس الأمر جدلًا فلسفيًّا كما يقول بعض المثقفين الغربيين.. والأمر نفسه ينطبق قبول و/أو الموافقة على العقاب الجماعي ومشاهدة صور المعاناة التي يتعرَّض لها الآن أكثر من مليوني إنسان يسكنون قطاع غزة دون الحد الأدنى من احتياجات الإنسان ليبقى على قيد الحياة وفي مقدمة ذلك الماء والخبز.

وقتلت إسرائيل بشكل مباشر ومتعمد جدا أكثر من 25 ألف فلسطيني ثلاثة أرباعهم من الأطفال والنساء، وما زال هناك أكثر من عشرة آلاف شخص تحت ركام المنازل المهدمة إضافة إلى آلاف الجثث التي تحللت في الشوارع والعراء. ونقلت وسائل الإعلام بشكل مباشر الجرائم التي ارتكبت خلال قصف المستشفيات والمدارس وتجمعات النازحين وكل هؤلاء القتلى/ الشهداء والمجازر وهناك من لا يرى جرائم حرب ترتكب في غزة! رغم أن من يمتلك بعضا من الإنسانية يرى فيما تفعله إسرائيل إبادة جماعية، وترتكبها بكثير من الحقد التاريخي والأيديولوجي.

على أن النخب الغربية السياسية والثقافية والأكاديمية التي تدافع عن جرائم إسرائيل أو التي لا تراها أصلا لم تضع رقما لعدد القتلى الذي يمكن لحظة الوصول له أن تكون إسرائيل قد بدأت في ارتكاب جرائم حرب أو إبادة جماعية! على الأقل من أجل أن تظهر ببعض المصداقية أمام شعوبها التي فطنت جيدًا لتهافت السردية الإسرائيلية وبعدها عن المنطق.

لقد كشفت هذه الحرب حقيقة البعد الإنساني والقيم والمبادئ في الحضارة الغربية التي تغوّلت وتحولت إلى وحش كاسر لا يعترف إلا بنفسه ومصلحته المادية وما دون ذلك لا يعدو كونه من «سقط المتاع».