ما زال اهتمامي بالقضية الفلسطينية هو ما يدفعني منذ مدة طويلة للتردد على قراءة الصحافة الإنجليزية على الإنترنت، إلى جانب اهتمامات وأغراض أخرى أقل أهمية. غالبا كان فضولي هو ما يقودني لأتتبع بشكل خاص مواقفَ عددٍ معين من الكُتَّاب الإسرائيليين البارزين الذين تندر ترجمة أصواتهم للعربية، متأملا في إجماعهم أو تباين آرائهم حول المسائل السياسية ذات الصلة المباشرة بالصراع العربي الإسرائيلي. وقبلها بسنوات كنت أواظب على قراءة ما تنشره مؤسسة الدراسات الفلسطينية من مختارات مترجمة عن الصحافة العبرية، ثم تعرفت فيما بعد على موقع مدار (المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية) وهو مركز بحثي تأسس في رام الله عام 2000 لاستثمار جهود عدد من الباحثين والأكاديميين الفلسطينيين في مراقبة وتحليل الشؤون الإسرائيلية، ويمثل في هذه الأيام مرجعا نادرا في العالم العربي لقراءة المزاج الإسرائيلي العام من الداخل.
كان عاموس عوز أول كاتب إسرائيلي أقرأ له قبل سنوات. لم تأتِ قراءتي له وقت ذاك بدافع من الشعار الأمني المعتاد «اعرف عدوك» بقدر ما كانت رغبةً مني في التخفف من حدة الصوت الواحد والحقيقة الأحادية الجانب؛ تلك هي المعضلة التي يبدو أن الإسرائيليين هم أكثر من يعاني مضاعفاتها الفكرية، بمن فيهم مثقفون يقدمون أنفسهم كيساريين، لم يكن آخرهم ولا أولهم بالطبع الأديب الإسرائيلي الأشهر عاموس عوز، الذي ليس من الصعب أن نتخيل موقفه من الجريمة الإسرائيلية في أيام كهذه، هو الذي سبق أن أيَّد في ديسمبر - 2008 حرب «الرصاص المصوب» على غزة في بدايتها، قبل أن يتراجع مُبديًا بعض التحفظات البراغماتية على الحملة البرية. لكنه ما زال يحافظ على سطوته الأدبية لدى شريحة واسعة من قرائه في إسرائيل، إذ ظلَّت «صهيونيته الليبرالية» حجر توازنه الخاص والجذاب في الجمع بين الماء والنار، فهو يؤيد حق الفلسطينيين في الاستقلال، في الوقت الذي يبرر فيه الحرب عليهم بحجة «تأديبهم». ولديه ما يكفي من الثقة ليتأمل الطوفان من علو فيكتب: «إن الذي يغرق ويتشبث بلوح من خشب مسموح له بكل المقاييس الطبيعية، أن يوجد لنفسه مكانًا فوق اللوح، حتى ولو كان عليه ليفعل ذلك أن يزيح الآخرين قليلًا»! هكذا يختزل أبرز المعبرين الأدبيين عن إسرائيل نظرته العلوية للماضي دون أن يرفَّ له جفن هو يتجول في متحف التطهير العرقي.
لقد وضع الكاتب البريطاني جوناثان فريدلاند عاموس عوز في كلمات مناسبة حين كتب عن «تعاطفه الراديكالي»: «أصرَّ عوز على أن صهيونيته ذاتها هي التي دفعته إلى الإيمان بحق الفلسطينيين في الاستقلال. لقد دعم الفلسطينيين، ليس رغما عن صهيونيته، بل لأنه صهيوني». كما لا يمكنني أن أنسى التصريح المدوي لإدوارد سعيد قُبيل وفاته، في حواره مع صحيفة هآرتس، عندما وجَّه توبيخه المهين للمثقفين اليهود، بمن فيهم عاموس عوز شخصيا الذي وصفه بأنه مجرد «وجيه ضاحية» مشيرا إلى نفسه: «أنا هو المثقف اليهودي الأخير»!
لم تنجُ من «عقلية الحصار» المَرضية في إسرائيل سوى قلة نادرة وغريبة من الكتَّاب وأساتذة الجامعات الذين سرعان ما اتهموا بالشذوذ الفكري. فعلى الضفة المقابلة لعاموس عوز يمكننا أن نقرأ أحد أبرز المؤرخين الجدد في إسرائيل، إيلان بابيه، الذي يمكن اعتباره المؤلف الإسرائيلي الأكثر مقروئية في العالم العربي. إذ تقابل مواقف إيلان بابيه الكاشفة لأسطورة إسرائيل و«خرافاتها العشر» بإعجاب واستشهاد واسع وسط القراء العرب، وتوظف كتاباته غالبا كحجة دامغة تحت عنوان «وشهد شاهد من أهلها». وفي أحد حواراته الأخيرة على يوتيوب، بعد السابع من أكتوبر، يصف المؤرخ الإسرائيلي العلاقة القائمة على الاحتلال طيلة أكثر من 75 عاما، بين اليهود الغرباء والعرب الفلسطينيين أصحاب المكان والزمان، بأنها «لم تكن زواجا سعيدا» في يوم من الأيام. ومع ذلك؛ فهو لا يجد خيارا سوى أن يراهن على قوة تفاؤله بإمكانية العثور على صيغة توافقية بين الطرفين من أجل مستقبل مشترك، مجددا إيمانه بالحل الذي يتمثل في إقامة دولة ديمقراطية واحدة. يشاطر إيلان بابيه حلمه هذا زميله المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف الذي تعرفتُ عليه من خلال كتابه المهم عن سنة 1949 في إسرائيل، والذي وثقَّ فيه الأجواء السياسية والاجتماعية التي سادت بين المهاجرين إلى «أرض ميعادهم». نشر سيغف كتابه «الإسرائيليون الأوائل» عام 1986 (صدرت ترجمته العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية) لينضم لتيار المؤرخين الإسرائيليين الجدد، إلى جانب إيلان بابيه وآفي شلايم، الذين «أبطلت أبحاثهم مفعول سحر تأسيس دولة إسرائيل» على حد تعبيره. ولا حاجة لنا لأن نتخيل موقف توم سيغف اليوم من حرب الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني، فما زال المؤرخ الذي يشارف على الثمانين من عمره قادرا على مواكبة الأحداث الجارية بمزيج من تشاؤم المؤرخ في نظرته إلى الماضي والتفاؤل بالمستقبل المشترك الذي ينصبُّ في الحلم الدولة الديمقراطية الواحدة، معتبرا أن حل الدولتين ليس سوى «خيال دبلوماسي قديم» يروّج له السياسيون في إسرائيل والولايات المتحدة بهدف إهدار المزيد من الوقت. غير أن عاموس عوز ظل مناوئا لحلم المؤرخين الجدد، متشبثا من منطلقه العنصري النفعي بحل الدولتين الذي يضمن نقاء العرق اليهودي من الاختلاط بالأغيار.
وبين جدل الحلَّين المُعلَّقين، تتردد في إسرائيل صرخة بن غوريون القادمة من عام 1919:
«لا يوجد حل. لا يوجد حل. لا يوجد حل»!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
كان عاموس عوز أول كاتب إسرائيلي أقرأ له قبل سنوات. لم تأتِ قراءتي له وقت ذاك بدافع من الشعار الأمني المعتاد «اعرف عدوك» بقدر ما كانت رغبةً مني في التخفف من حدة الصوت الواحد والحقيقة الأحادية الجانب؛ تلك هي المعضلة التي يبدو أن الإسرائيليين هم أكثر من يعاني مضاعفاتها الفكرية، بمن فيهم مثقفون يقدمون أنفسهم كيساريين، لم يكن آخرهم ولا أولهم بالطبع الأديب الإسرائيلي الأشهر عاموس عوز، الذي ليس من الصعب أن نتخيل موقفه من الجريمة الإسرائيلية في أيام كهذه، هو الذي سبق أن أيَّد في ديسمبر - 2008 حرب «الرصاص المصوب» على غزة في بدايتها، قبل أن يتراجع مُبديًا بعض التحفظات البراغماتية على الحملة البرية. لكنه ما زال يحافظ على سطوته الأدبية لدى شريحة واسعة من قرائه في إسرائيل، إذ ظلَّت «صهيونيته الليبرالية» حجر توازنه الخاص والجذاب في الجمع بين الماء والنار، فهو يؤيد حق الفلسطينيين في الاستقلال، في الوقت الذي يبرر فيه الحرب عليهم بحجة «تأديبهم». ولديه ما يكفي من الثقة ليتأمل الطوفان من علو فيكتب: «إن الذي يغرق ويتشبث بلوح من خشب مسموح له بكل المقاييس الطبيعية، أن يوجد لنفسه مكانًا فوق اللوح، حتى ولو كان عليه ليفعل ذلك أن يزيح الآخرين قليلًا»! هكذا يختزل أبرز المعبرين الأدبيين عن إسرائيل نظرته العلوية للماضي دون أن يرفَّ له جفن هو يتجول في متحف التطهير العرقي.
لقد وضع الكاتب البريطاني جوناثان فريدلاند عاموس عوز في كلمات مناسبة حين كتب عن «تعاطفه الراديكالي»: «أصرَّ عوز على أن صهيونيته ذاتها هي التي دفعته إلى الإيمان بحق الفلسطينيين في الاستقلال. لقد دعم الفلسطينيين، ليس رغما عن صهيونيته، بل لأنه صهيوني». كما لا يمكنني أن أنسى التصريح المدوي لإدوارد سعيد قُبيل وفاته، في حواره مع صحيفة هآرتس، عندما وجَّه توبيخه المهين للمثقفين اليهود، بمن فيهم عاموس عوز شخصيا الذي وصفه بأنه مجرد «وجيه ضاحية» مشيرا إلى نفسه: «أنا هو المثقف اليهودي الأخير»!
لم تنجُ من «عقلية الحصار» المَرضية في إسرائيل سوى قلة نادرة وغريبة من الكتَّاب وأساتذة الجامعات الذين سرعان ما اتهموا بالشذوذ الفكري. فعلى الضفة المقابلة لعاموس عوز يمكننا أن نقرأ أحد أبرز المؤرخين الجدد في إسرائيل، إيلان بابيه، الذي يمكن اعتباره المؤلف الإسرائيلي الأكثر مقروئية في العالم العربي. إذ تقابل مواقف إيلان بابيه الكاشفة لأسطورة إسرائيل و«خرافاتها العشر» بإعجاب واستشهاد واسع وسط القراء العرب، وتوظف كتاباته غالبا كحجة دامغة تحت عنوان «وشهد شاهد من أهلها». وفي أحد حواراته الأخيرة على يوتيوب، بعد السابع من أكتوبر، يصف المؤرخ الإسرائيلي العلاقة القائمة على الاحتلال طيلة أكثر من 75 عاما، بين اليهود الغرباء والعرب الفلسطينيين أصحاب المكان والزمان، بأنها «لم تكن زواجا سعيدا» في يوم من الأيام. ومع ذلك؛ فهو لا يجد خيارا سوى أن يراهن على قوة تفاؤله بإمكانية العثور على صيغة توافقية بين الطرفين من أجل مستقبل مشترك، مجددا إيمانه بالحل الذي يتمثل في إقامة دولة ديمقراطية واحدة. يشاطر إيلان بابيه حلمه هذا زميله المؤرخ الإسرائيلي توم سيغف الذي تعرفتُ عليه من خلال كتابه المهم عن سنة 1949 في إسرائيل، والذي وثقَّ فيه الأجواء السياسية والاجتماعية التي سادت بين المهاجرين إلى «أرض ميعادهم». نشر سيغف كتابه «الإسرائيليون الأوائل» عام 1986 (صدرت ترجمته العربية عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية) لينضم لتيار المؤرخين الإسرائيليين الجدد، إلى جانب إيلان بابيه وآفي شلايم، الذين «أبطلت أبحاثهم مفعول سحر تأسيس دولة إسرائيل» على حد تعبيره. ولا حاجة لنا لأن نتخيل موقف توم سيغف اليوم من حرب الإبادة الجارية ضد الشعب الفلسطيني، فما زال المؤرخ الذي يشارف على الثمانين من عمره قادرا على مواكبة الأحداث الجارية بمزيج من تشاؤم المؤرخ في نظرته إلى الماضي والتفاؤل بالمستقبل المشترك الذي ينصبُّ في الحلم الدولة الديمقراطية الواحدة، معتبرا أن حل الدولتين ليس سوى «خيال دبلوماسي قديم» يروّج له السياسيون في إسرائيل والولايات المتحدة بهدف إهدار المزيد من الوقت. غير أن عاموس عوز ظل مناوئا لحلم المؤرخين الجدد، متشبثا من منطلقه العنصري النفعي بحل الدولتين الذي يضمن نقاء العرق اليهودي من الاختلاط بالأغيار.
وبين جدل الحلَّين المُعلَّقين، تتردد في إسرائيل صرخة بن غوريون القادمة من عام 1919:
«لا يوجد حل. لا يوجد حل. لا يوجد حل»!
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني