صرتُ أفكّر دوما لمَ أنتصرُ لبعضٍ من رواياتِ الخليج، وأنشدُّ إلى قسمٍ مهم منها، حتّى صرتُ أكاد أشكُّ في نفسي وأتّهمها بالتملّق والتزلّف والتقرّب، ثمّ سرعان ما تنبّهني نفسي الأمّارة بالكبرياء أنّي لم أرض على عدد مهمّ من الرواية الخليجيّة وأنّي كتبتُ فيها ما كتبه مالك في الخمر؟ جواب سؤالي أنّ عددا مهمّا من أصحاب الكتابة الروائيّة المشرقيّة قد دخل في تقديس مرجعيّاته، وأنهى رصيده الحكائيّ (هذا حُكم نسبيّ جدّا)، فدخل في سرْد العاديّ، في حين أنّ التجربة الخليجيّة عموما ما زالت بصدد صناعة مرجعيّاتها، وحكاياتها جمّة، وملقاة على قارعة الطريق، تحتاجُ روائيّا فَطِنا لتحويلها إلى رواية أو إلى قصّة تسرُّ القُرّاء وتُبْهرهم، فإن أخذت عُمان (التي أعرفها جيّدا) نموذجًا، فإنّ ظُفار لها رصيدٌ من الحكايات ومن التقاليد ومن الطقوس ومن العادات، ما به تختلف عن منطقة الشرقيّة، ومنطقة الشرقيّة لها من الأساطير والعادات والتقاليد والحكايات ما به تنفرد عن الباطنة أو الوسطى وهكذا دواليك، المُختلف في ظلّ المؤتلف يقدّ ثراء حكائيّا زاخرا، وهي مناطقُ مليئةٌ بحكايات مختلفة عن عموم حكايات المشرق -نسبيّا- في تاريخها القديم والحديث، في حين أنّ الشرق العربيّ التقليدي يتآكل ويأكلُ من فُتات رُواته الذين فتّحوا سُبُل الرواية، ويتعثّرُ المُحدَثون في السبيل الذي أشاده الأقدمون في الكتابة الروائيّة، وعديد التجارب تُستَعَاد وتُجتَرّ. في نطاق هذه الفكرة المركزيّة ووصلا لها بموضوع الروائيّ الباحث أردتُ أن أتحدّث عن باحثٍ جامعيّ متألّق في اللّغة العربيّة وآدابها، أراد أن يختم تجربته التدريسيّة بكتابة الرواية وهو الروائيّ شكري المبخوت، وكما كان يردّد أحد أساتذتي مستنقصًا ما يكتبه هذا الروائيّ الباحث، واصفا إيّاه بأنّه «مبخوتٌ» فعلا، وهو حاصِدُ جوائز، أمّا منزلته الروائيّة، فهي منزلةٌ خلافيّة، بعضهم يراه مشروعا روائيّا، والبعض يراه روائيّا في حدّه الأدنى، وأنا أرى أنّه كتب الرواية الوحيدة وهي «الطلياني»، ويعسُر أن يكتب روايةً في حجمها (على أنّها روايةٌ عاديّة أجازتْها الجائزة التي مُنحت لها)، ذلك أنّ الباحث الروائيّ في موضوع مقالي، في الأصل هو مُعلّم صبية، وأراد أن يحكي حكايةً جمّع فيها حوادث جيل باعتماد شكل حكائي لا جِدّة فيه، وإنّما هي عودةٌ إلى النمط المحفوظيّ في الرواية، أو استعادة شكل الحكاية التقليدي، الاجتماعي. روايةُ «الطلياني»، هي حكايةُ شخصيّة استثمر فيها الروائيّ الواقع السياسيّ والاجتماعي في تونس ثمانينيّات القرن الماضي وتسعينياته، واستدعى حكايات من واقع هذه الفترة ووظّف منها وقائع عديدة، فأخرجها في قالب رواية قابلة للقراءة، جمّع فيها الكاتب شتات حكايات، وصُور شخصيّات وصراع أيديولوجيّات وعجنها واصلا إيّاها بوتَدٍ أنشدت إليه هذه الشظايا، وهو شخصيّة الطلياني من منظور سارد عارف عالم، في عودةٍ بيّنة إلى صورة الراوي العارف، الذي يبدو في السطح مصاحبا للشخصيّة الأساس، وهو في الأصل داخلٌ في سرائرها مبينٌ لدواخلها، وهي ظاهرةٌ تشفّ عن استرجاع الطرق الروائيّة القديمة استكانةً إلى معهود السرد، مع أخطاء وقع فيها الكاتب في إعمال شخصيّة رائية راوية، مقرَّبة من الشخصيّة الأساس الفاعلة المرويّة (ليس هذا مجال التوسّع فيها).
لقد كتبت رواية «الطلياني» تعبيرا عن مرحلةٍ من اليسير أن يجد كاتبها وفْرةَ الأحداث وتنوّع الشخصيّات لإثراء روايته، ولكنّه يكون عاجزا عن تخييل أحداث، وصناعة شخصيّات، ويكون عاجزا عن صناعة حكايته بعيدا عن المرجعيّات المكشوفة، ولذلك، فقد كانت الأعمال الروائيّة اللاّحقة واهنة، ضعيفة، سافرة المرجعيّة، ومنها -تمثيلا- رواية «باغندا» التي أُقِيمت على شخصيّة مرجعيّة رياضيّة حقيقيّة، لم يُوَفّق كاتبها في بنائها بناء روائيّا، رغما من عمله على إخفائها، وإدارته السرد على سبب اختفائها. عودا إلى مسألة الجامعيّ وكتابة الرواية، فإنّ افتقار بعض كتَبَة الرواية إلى مَلَكة التخييل يرجع أساسا إلى الوعي بالاقتدار، والإيمان أنّ الجامعيّ قادرٌ على صناعة الرواية بحكم علمه بقوانينها وأدواته، مع العلم أنّ العالم بقانون الظاهرة لا يعني بالضرورة أن يُتقن الإبداع فيها. لقد أدرك العرب منذ القديم، أنّ العالم بالنحو والبلاغة والعروض لا يكتب شعرا بالضرورة، بل لا يكتب شعرا بالأساس، ومن كَتب من اللّغويين في قديم الأدب شعرا فقد انتهى إلى الفشل والخيبة، ولذلك فإنّ فكرةً سائدة وجب أن تُدْحَض، وهي أنّ دكاترة اللّغة العربيّة قادرون على كتابة الأدب، بالعكس، فهم الأعجز عن الإبداع، لسببٍ بسيط يتمثّل في أنّ أغلبهم محكوم بالضوابط والقوانين، وفي ذهنه قياسٌ منطقيّ لما يجوز وما لا يجوز، والأدب في جوهره قائم على ما لا يجوز فمبدعوه «أمراء الكلام»، وليسوا خاضعين بالضرورة لسنن الكتابة. شكري المبخوت باحثٌ له مكانته، وكاتب رواية لا أعتقد أنّه يحتلّ منزلة فارقة في تاريخ الرواية العربيّة، ولا يُحدث رجّة ولا أثرا -رغم جائزة البوكر- فما يكتبه داخلٌ في المألوف ممّا هو سائدٌ ومنتشرٌ، ما يكتبه هو نمطٌ سلفيّ في كتابة الرواية، وكان الأجدى والأجدر أن يكتفي بِعُصارة ذهنه، أي بالرواية الفائزة. الأستاذ الجامعيّ والرواية صلةٌ جديرة بالاهتمام، قد لا تُطرَح في النقد الغربيّ، ولكنّها شاعت في حديث الأدب العربيّ، وصار عددٌ مهم من «الدكاترة» يستهينون بمَركب الكتابة الروائيّة، ولهذا فصلتُ في المقالة السابقة بين نمطين من الجامعيين الذين يكتبون الرواية، نمط هو في الأصل كاتب، قصّاصٌ، حكّاءٌ، ثم يتوجّه إلى البحث العلمي، فهذا مالكٌ لزمام الرواية، له هبةُ الحكي، والنمط الثاني الذي يدخل فيه شكري المبخوت ومَن ماثله، هو أنّه في الأصل باحثٌ جامعيّ ينتهي إلى كتابة الرواية من باب أنّه مالكٌ للّغة، عارفٌ بقوانين الأدب، وأعتقد أنّ هذا النمط يُمكن أن يكتب روايةً فحسب، هي مذكّراته، أو هي حصيلة تجربته، ثمّ يصمت، فلا ينساق في الكتابة، ويذهب في ظنّه أنّه كاتبٌ روائيّ، ويدخل ضمن هذا الإطار عددٌ مهم من الكُتّاب الجامعيين، أغلب رواياتهم باهتة، تفتقر إلى مِلح الرواية، فهم عموما من كُتّاب الرواية الوحيدة، وما عداها هو وهْم الرواية، ولعلّ الروائيّ حسونة المصباحي على حقّ -نسبيّا- عندما صرّح أنّ «الجامعيين أفسدوا المشهد الروائيّ»، فقد جمعوا بين السلطة (نقدا) والحُكم (لجان الجوائز) والكتابة الإبداعيّة (كتابة الرواية).
لقد كتبت رواية «الطلياني» تعبيرا عن مرحلةٍ من اليسير أن يجد كاتبها وفْرةَ الأحداث وتنوّع الشخصيّات لإثراء روايته، ولكنّه يكون عاجزا عن تخييل أحداث، وصناعة شخصيّات، ويكون عاجزا عن صناعة حكايته بعيدا عن المرجعيّات المكشوفة، ولذلك، فقد كانت الأعمال الروائيّة اللاّحقة واهنة، ضعيفة، سافرة المرجعيّة، ومنها -تمثيلا- رواية «باغندا» التي أُقِيمت على شخصيّة مرجعيّة رياضيّة حقيقيّة، لم يُوَفّق كاتبها في بنائها بناء روائيّا، رغما من عمله على إخفائها، وإدارته السرد على سبب اختفائها. عودا إلى مسألة الجامعيّ وكتابة الرواية، فإنّ افتقار بعض كتَبَة الرواية إلى مَلَكة التخييل يرجع أساسا إلى الوعي بالاقتدار، والإيمان أنّ الجامعيّ قادرٌ على صناعة الرواية بحكم علمه بقوانينها وأدواته، مع العلم أنّ العالم بقانون الظاهرة لا يعني بالضرورة أن يُتقن الإبداع فيها. لقد أدرك العرب منذ القديم، أنّ العالم بالنحو والبلاغة والعروض لا يكتب شعرا بالضرورة، بل لا يكتب شعرا بالأساس، ومن كَتب من اللّغويين في قديم الأدب شعرا فقد انتهى إلى الفشل والخيبة، ولذلك فإنّ فكرةً سائدة وجب أن تُدْحَض، وهي أنّ دكاترة اللّغة العربيّة قادرون على كتابة الأدب، بالعكس، فهم الأعجز عن الإبداع، لسببٍ بسيط يتمثّل في أنّ أغلبهم محكوم بالضوابط والقوانين، وفي ذهنه قياسٌ منطقيّ لما يجوز وما لا يجوز، والأدب في جوهره قائم على ما لا يجوز فمبدعوه «أمراء الكلام»، وليسوا خاضعين بالضرورة لسنن الكتابة. شكري المبخوت باحثٌ له مكانته، وكاتب رواية لا أعتقد أنّه يحتلّ منزلة فارقة في تاريخ الرواية العربيّة، ولا يُحدث رجّة ولا أثرا -رغم جائزة البوكر- فما يكتبه داخلٌ في المألوف ممّا هو سائدٌ ومنتشرٌ، ما يكتبه هو نمطٌ سلفيّ في كتابة الرواية، وكان الأجدى والأجدر أن يكتفي بِعُصارة ذهنه، أي بالرواية الفائزة. الأستاذ الجامعيّ والرواية صلةٌ جديرة بالاهتمام، قد لا تُطرَح في النقد الغربيّ، ولكنّها شاعت في حديث الأدب العربيّ، وصار عددٌ مهم من «الدكاترة» يستهينون بمَركب الكتابة الروائيّة، ولهذا فصلتُ في المقالة السابقة بين نمطين من الجامعيين الذين يكتبون الرواية، نمط هو في الأصل كاتب، قصّاصٌ، حكّاءٌ، ثم يتوجّه إلى البحث العلمي، فهذا مالكٌ لزمام الرواية، له هبةُ الحكي، والنمط الثاني الذي يدخل فيه شكري المبخوت ومَن ماثله، هو أنّه في الأصل باحثٌ جامعيّ ينتهي إلى كتابة الرواية من باب أنّه مالكٌ للّغة، عارفٌ بقوانين الأدب، وأعتقد أنّ هذا النمط يُمكن أن يكتب روايةً فحسب، هي مذكّراته، أو هي حصيلة تجربته، ثمّ يصمت، فلا ينساق في الكتابة، ويذهب في ظنّه أنّه كاتبٌ روائيّ، ويدخل ضمن هذا الإطار عددٌ مهم من الكُتّاب الجامعيين، أغلب رواياتهم باهتة، تفتقر إلى مِلح الرواية، فهم عموما من كُتّاب الرواية الوحيدة، وما عداها هو وهْم الرواية، ولعلّ الروائيّ حسونة المصباحي على حقّ -نسبيّا- عندما صرّح أنّ «الجامعيين أفسدوا المشهد الروائيّ»، فقد جمعوا بين السلطة (نقدا) والحُكم (لجان الجوائز) والكتابة الإبداعيّة (كتابة الرواية).