قبل مائة عام والعالم يستقبل سنة 1924م حيث كان العالم شبه أشل اقتصاديا وسياسيا بسبب الحرب العالمية الأولى، ومع آثارها السلبية قتلا وتشريدا ومجاعة؛ إلا أن طيش السياسيين سوف يقود العالم إلى حرب عالمية ثانية، تقود العالم إلى مزيد من الدماء والبؤس والدمار.
وقبلها بسنوات قليلة كان رجل عجوز من إيران، عاش في فلسطين، وهو في بدايات السبعين من عمره، ذهب بذاته على كبر سنه إلى أوروبا وأمريكا، لعله يجد بصيص أمل في التعقل، وإحلال السلم بدل الحرب، والبناء بدل الدمار، والعقل بدل الطيش، ملتقيا بالأحبار والرهبان والمفكرين والفلاسفة، ثم الساسة ورجال الأعمال، كما كانت له علاقات حسنة مع المجدد الإسلامي حينها محمد عبده (ت 1905م)، والتقى بتلميذه محمد رشيد رضا (ت 1935م) لما زار مصر في بدايات القرن العشرين، وله علاقات ومراسلات مع ليو تولستوي (ت 1910م).
وأقصد هنا عباس أفندي (ت 1921م)، والملقب بعبد البهاء، وبعيدا عن جدلية ديانته أو توجهه الغنوصي إلا أنه ترك إرثا من الخطب الإنسانية الراقية، والتي سبقت أفكاره العديد ممن تبناها في فترة لاحقة، وتجانست حتى مع الفلاسفة كالبرت أنيشتاين (ت 1955م) ، والتي ستظهر في مقالاته باسم السلام العالمي، والتي أطلق عليها قبله عباس أفندي باسم الصلح العالمي، ثم تطورت إلى السلام العالمي، ومنها نشأت عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم.
وما تركه عباس أفندي من خطب وحوارات في البعد الإنساني، ذات عمق روحي وقيمي؛ تحتاج إلى قراءة من جديد، والتفاتة إليها، كما أنه يمكن المقارنة بين العديد من المشاريع الإنسانية في العالم، والتي قدمت في فترة مبكرة كمشاريع تولستوي والأفغاني (ت 1897م) والسيد أحمد خان (ت 1898م) ومحمد إقبال (ت 1936م) وغيرهم، فهي وإن كانت الدراسات الإنسانوية تقدمتها في أوروبا، خصوصا في ألمانيا، كما رأينا في مقالة سابقة لي في جريدة عمان بعنوان «توني ديفيز والنزعة الإنسانية»، إلا أن هؤلاء حاولوا قراءة البعد الإنساني وفق النزعة الروحية، بعدا عن المادية المطلقة.
يقول عباس أفندي بعد تجربة تجواله إلى أوروبا وأمريكا من عام 1910م وحتى عام 1913م: «لقد قابلتُ في أمريكا وأوروبا نفوسا مقدسة [أي ذات مكانة في قومها] كانت متعاونة ومتجاوبة معنا في الصلح العمومي .... إلا أنها ويا للأسف كانت قليلة العدد، وكان أعاظم الرجال يظنون بأن تجهيز الجيوش، ومضاعفة القوى الحربية سبب الصلح والسلام».
ومن قراءته للواقع السياسي حينها حذرهم أن هذه الرؤية ستشتعل قريبا «وأن انفجارها يتوقف على شرارة واحدة تشعل العالم بغتة»، وفعلا بعد ثمان سنوات من وفاته، وفي عام 1939م قامت الحرب العالمية الثانية، بين دول المحور وقوات الحلفاء، وكانتا قد تسابقت دولها في التسليح، إلا أن شرارة غزو ألمانيا لبولندا كما يرى العديد؛ قادت العالم إلى أسوأ حرب عرفتها الإنسانية في تأريخها، وتأثر العالم أجمع بها، حتى قال قبلها أحمد شوقي (ت 1932م) مصورا مثل هذه الحالة الكالحة من تأريخ الإنسانية:
حرب على حرب حنانك ربنا ** لم يبق منا ما ينال المدفع
لا تأخذن بريئنا بمسيئنا ** فالعدل كل حاصد ما يزرع
أدرك دماء الخلق إن دماءهم ** سالت فوجه الأرض منها مترع
سبحت ببحر دمائهم أشلاؤهم ** والأرض لا تَروَى ولا هي تشبع
زاد الأرامل واليتامى كثرةً ** حتى لقد صعدت إليك الأدمع
يا رب هل تلك القيامة كلها *** أم للقيامة بعد ذلك موقع
ونحن اليوم بعد أكثر من قرن من الزمن، نستقبل عام 2024م بمؤشرات ليست مبشرة، فالوضع في فلسطين وغزة خصوصا أمام حرب دموية ضحيتها الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، والواقع في أوكرانيا قد تمتد شرارته إلى حروب أوسع بين الشرق والغرب، وهناك مؤشرات لحروب جديدة في الجزيرة وفي اليمن خصوصا بعد الأحداث الأخيرة، كما أن العالم لم يعد محصورا في محاور أو أقطاب محددة، بل هناك بؤر قطرية تتسابق في التسليح في الشرق والغرب، ومنها ما يتعلق بالأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل، وإذا غاب العقلاء في إدارة هذه الأوضاع؛ بلا شك الإنسانية تتهيأ لأوضاع مأساوية لا يعلم نتائجها إلا الله وحده.
وقد بين عباس أفندي «أن الحروب هي آفة العالم الإنساني ... وهادمة للمدن المعمورة، ونار تحيط بالعالمين ... لقد سالت العيون بالعبرات من ضجيج الأيتام من الأطفال، واحترقت القلوب وذابت من صراخ الأيامى من النساء البائسات... لتصل أصوات المدافع والبنادق كأصوات الرعد وقد حولت المواد الملتهبة ساحات الحرب إلى مقابر للشباب اليافعين»، ولهذا ختم رحلته بهذه الرسالة: «فيا دول العالم: ارحموا العالم الإنساني، ويا ملل العالم: توجهوا بنظرة عطف على ساحات الحرب، ويا علماء البشر: تفقدوا حال المظلومين، ويا فلاسفة الغرب: تعمقوا في هذه البلية العظمى، ويا رؤساء العالم: تفكروا في دفع هذه الآفة الكبرى، ويا أيها الجنس البشري: تدبر في منع هذه البربرية والافتراس».
وقد يتصور بعضهم أن هذه المقولات أقرب إلى التفكير الساذج؛ لأن العالم طبع على حيوانية الصراع، فالبشر لا يختلفون عن حيوانات الغاب، والبقاء هو للأقوى الذي يحفظ أمانات الغاب، وقد كان العالم فسيحا لقابيل وهابيل، يأكلان حيثما يشاءان، ويمرحان كيفما يشاءان، ومع ذلك قتل قابيل هابيل، لتكون السيادة له، وفي هذا رمزية مبكرة لحيوانية الإنسان، ليستثمر عقله في تعزيز هذه الحيوانية، ولا تتحقق إنسانية الإنسان الكامل أو الأسمى إلا عندما يسمو بذلك ماديا أو غرائزيا، ليكون عرقه أو قطره هو الأكمل والأسمى في السيطرة على خيرات الأمم الأخرى، كحالة الغاب تماما.
لهذا قام عباس أفندي بنقض هذه النظرية من حيث الكمال الإنساني، ومن هذا المقارنة الطبيعية الغرائزية بين الإنسان والحيوانات، وأما من حيث الكمال الإنساني فتتمثل في إدراك الرتبة «فكل رتبة دانية لا تدرك الرتبة العالية»، «فالحيوان يدرك مرتبة النبات والجماد، وكذا الإنسان يدرك مرتبة الحيوان والنبات والجماد، ولكن الجماد مستحيل عليه إدراك عوالم الإنسان»، وإذا كانت «صفات الافتراس طبيعة في العالم الحيواني»، إلا أن الكمال الإنساني تتخلق وتتهذب بالفضائل الإنسانية الراقية والمهذبة للطبيعة المحبة للحروب والصراع والدماء والتعصب والكراهية، لهذا جاءت الأديان باعثة لهذه الروح الإنسانية الداعية إلى البناء والسلم وحفظ الإنسان، ففي القرآن {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَلْ عَلَى اللَهِ إِنَهُ هُوَ السَمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
وأما من حيث المقارنة الطبيعية الغرائزية بين الإنسان والحيوانات، فيرى أن الحيوانات الوديعة «لا حرب بينها ولا جدال، فترعى آلاف الأغنام معا، وتطير آلاف الأسراب من الحمام، ولا تتنازع أبدا، لكن الذئاب والكلاب المفترسة ... مضطرة من أجل طعامها إلى الصيد، أما الإنسان فليس محتاجا لذلك، فلديه من الأطعمة والأقوات ما يكفيه، ولكنه لمجرد الطمع وحب الشهرة والصيت يسفك هذه الدماء»، ومع هذا «عظماء البشر في منتهى الراحة في قصورهم العالية مستقرون، ويدفعون البؤساء إلى ساحات الحروب، ويخترعون كل يوم آلة جديدة يهدمون بها البنيان البشري، ولا يرحمون أبدا حال هؤلاء المساكين، ولا يرثون لحال الأمهات» وأطفالهن.
ويضرب هنا مثالا للواقع الذي يعيشه من خلال الاستعمار الطلياني للأراضي الليبية، متسائلا: «كم من مساكين يتمرغون في دمائهم، وكم من أطفال باتوا بدون آباء، وكم من آباء فقدوا أبناءهم، وكم من أمهات يولولن بالعويل لموت أبنائهن، لعمركم، ما الثمرة التي تجنى من هذا، لا ثمرة ولا نتيجة، وليس من الإنصاف أن يكون الإنسان غافلا إلى هذه الدرجة من الغفلة»، ومن الغفلة «لو يقتل إنسان شخصا واحدا فإنهم يسمونه قاتلا، ويعاقبونه بعقاب الموت أو الحبس الأبدي، ولكنهم إذا شاهدوا إنسانا يقتل في يوم واحد مائة ألف شخص؛ فإنه يسمونه القائد الأعظم، وأشجع أهل زمانه، ولو سرق إنسان ريالا واحدا من أموال الآخرين؛ فإنهم يسمونه خائنا ظالما، ولكنه إذا أغار على مملكة كاملة ونهبها فإنهم يسمونه الفاتح العظيم».
وإذا كان الصراع سببه عنصري هنا يتساءل أيضا ألم يخلق الله خلقة بشرية واحدة، «فلم يخلق واحدا إنجليزيا، والآخر فرنسيا، والآخر إيرانيا، والآخر أمريكيا، فليس هناك اختلاف في الجنس البشري، والكل أوراق شجرة واحدة»، وأما إذا كان الصراع لأسباب دينية يتساءل أليس الله هو رمز المحبة بين البشر، وهو مطلق العدل والرحمة، وعلى هذا يكون «أساس الأديان الإلهية هو الألفة ومحبة البشر، ولو كان الدين سبب البغضاء والعداوة فإنه ليس دينا إلهيا».
الإسهاب حول هذا يطول، ولكن رجوعنا إلى ما قبل قرن من الزمن، ونحن بدأنا العام الشمسي الجديد، ولا زلنا في بدايات الألفية الثانية، فهل سنكرر ذات الأخطاء، ونكون أيضا سببا في الصراع، وإثارة الحروب، وأن نأخذ بيد السياسيين إلى دائرة وهم العظمة والأمجاد، ليترأس العالم فئات من الناس تستغفلهم، فتقود العالم إلى مزيد من الدمار والحروب والعصبيات، ونحن اليوم كمجتمعات إنسانية توفر ما لدينا من إمكانات إعلامية لبناء عالم أكثر إشراقا وتعقلا وإحياء للأجيال القادمة، فهل ستثني علينا، أو نكون سببا رئيسا في بؤسها وشقائها؟!
وقبلها بسنوات قليلة كان رجل عجوز من إيران، عاش في فلسطين، وهو في بدايات السبعين من عمره، ذهب بذاته على كبر سنه إلى أوروبا وأمريكا، لعله يجد بصيص أمل في التعقل، وإحلال السلم بدل الحرب، والبناء بدل الدمار، والعقل بدل الطيش، ملتقيا بالأحبار والرهبان والمفكرين والفلاسفة، ثم الساسة ورجال الأعمال، كما كانت له علاقات حسنة مع المجدد الإسلامي حينها محمد عبده (ت 1905م)، والتقى بتلميذه محمد رشيد رضا (ت 1935م) لما زار مصر في بدايات القرن العشرين، وله علاقات ومراسلات مع ليو تولستوي (ت 1910م).
وأقصد هنا عباس أفندي (ت 1921م)، والملقب بعبد البهاء، وبعيدا عن جدلية ديانته أو توجهه الغنوصي إلا أنه ترك إرثا من الخطب الإنسانية الراقية، والتي سبقت أفكاره العديد ممن تبناها في فترة لاحقة، وتجانست حتى مع الفلاسفة كالبرت أنيشتاين (ت 1955م) ، والتي ستظهر في مقالاته باسم السلام العالمي، والتي أطلق عليها قبله عباس أفندي باسم الصلح العالمي، ثم تطورت إلى السلام العالمي، ومنها نشأت عصبة الأمم، ثم هيئة الأمم.
وما تركه عباس أفندي من خطب وحوارات في البعد الإنساني، ذات عمق روحي وقيمي؛ تحتاج إلى قراءة من جديد، والتفاتة إليها، كما أنه يمكن المقارنة بين العديد من المشاريع الإنسانية في العالم، والتي قدمت في فترة مبكرة كمشاريع تولستوي والأفغاني (ت 1897م) والسيد أحمد خان (ت 1898م) ومحمد إقبال (ت 1936م) وغيرهم، فهي وإن كانت الدراسات الإنسانوية تقدمتها في أوروبا، خصوصا في ألمانيا، كما رأينا في مقالة سابقة لي في جريدة عمان بعنوان «توني ديفيز والنزعة الإنسانية»، إلا أن هؤلاء حاولوا قراءة البعد الإنساني وفق النزعة الروحية، بعدا عن المادية المطلقة.
يقول عباس أفندي بعد تجربة تجواله إلى أوروبا وأمريكا من عام 1910م وحتى عام 1913م: «لقد قابلتُ في أمريكا وأوروبا نفوسا مقدسة [أي ذات مكانة في قومها] كانت متعاونة ومتجاوبة معنا في الصلح العمومي .... إلا أنها ويا للأسف كانت قليلة العدد، وكان أعاظم الرجال يظنون بأن تجهيز الجيوش، ومضاعفة القوى الحربية سبب الصلح والسلام».
ومن قراءته للواقع السياسي حينها حذرهم أن هذه الرؤية ستشتعل قريبا «وأن انفجارها يتوقف على شرارة واحدة تشعل العالم بغتة»، وفعلا بعد ثمان سنوات من وفاته، وفي عام 1939م قامت الحرب العالمية الثانية، بين دول المحور وقوات الحلفاء، وكانتا قد تسابقت دولها في التسليح، إلا أن شرارة غزو ألمانيا لبولندا كما يرى العديد؛ قادت العالم إلى أسوأ حرب عرفتها الإنسانية في تأريخها، وتأثر العالم أجمع بها، حتى قال قبلها أحمد شوقي (ت 1932م) مصورا مثل هذه الحالة الكالحة من تأريخ الإنسانية:
حرب على حرب حنانك ربنا ** لم يبق منا ما ينال المدفع
لا تأخذن بريئنا بمسيئنا ** فالعدل كل حاصد ما يزرع
أدرك دماء الخلق إن دماءهم ** سالت فوجه الأرض منها مترع
سبحت ببحر دمائهم أشلاؤهم ** والأرض لا تَروَى ولا هي تشبع
زاد الأرامل واليتامى كثرةً ** حتى لقد صعدت إليك الأدمع
يا رب هل تلك القيامة كلها *** أم للقيامة بعد ذلك موقع
ونحن اليوم بعد أكثر من قرن من الزمن، نستقبل عام 2024م بمؤشرات ليست مبشرة، فالوضع في فلسطين وغزة خصوصا أمام حرب دموية ضحيتها الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، والواقع في أوكرانيا قد تمتد شرارته إلى حروب أوسع بين الشرق والغرب، وهناك مؤشرات لحروب جديدة في الجزيرة وفي اليمن خصوصا بعد الأحداث الأخيرة، كما أن العالم لم يعد محصورا في محاور أو أقطاب محددة، بل هناك بؤر قطرية تتسابق في التسليح في الشرق والغرب، ومنها ما يتعلق بالأسلحة النووية، وأسلحة الدمار الشامل، وإذا غاب العقلاء في إدارة هذه الأوضاع؛ بلا شك الإنسانية تتهيأ لأوضاع مأساوية لا يعلم نتائجها إلا الله وحده.
وقد بين عباس أفندي «أن الحروب هي آفة العالم الإنساني ... وهادمة للمدن المعمورة، ونار تحيط بالعالمين ... لقد سالت العيون بالعبرات من ضجيج الأيتام من الأطفال، واحترقت القلوب وذابت من صراخ الأيامى من النساء البائسات... لتصل أصوات المدافع والبنادق كأصوات الرعد وقد حولت المواد الملتهبة ساحات الحرب إلى مقابر للشباب اليافعين»، ولهذا ختم رحلته بهذه الرسالة: «فيا دول العالم: ارحموا العالم الإنساني، ويا ملل العالم: توجهوا بنظرة عطف على ساحات الحرب، ويا علماء البشر: تفقدوا حال المظلومين، ويا فلاسفة الغرب: تعمقوا في هذه البلية العظمى، ويا رؤساء العالم: تفكروا في دفع هذه الآفة الكبرى، ويا أيها الجنس البشري: تدبر في منع هذه البربرية والافتراس».
وقد يتصور بعضهم أن هذه المقولات أقرب إلى التفكير الساذج؛ لأن العالم طبع على حيوانية الصراع، فالبشر لا يختلفون عن حيوانات الغاب، والبقاء هو للأقوى الذي يحفظ أمانات الغاب، وقد كان العالم فسيحا لقابيل وهابيل، يأكلان حيثما يشاءان، ويمرحان كيفما يشاءان، ومع ذلك قتل قابيل هابيل، لتكون السيادة له، وفي هذا رمزية مبكرة لحيوانية الإنسان، ليستثمر عقله في تعزيز هذه الحيوانية، ولا تتحقق إنسانية الإنسان الكامل أو الأسمى إلا عندما يسمو بذلك ماديا أو غرائزيا، ليكون عرقه أو قطره هو الأكمل والأسمى في السيطرة على خيرات الأمم الأخرى، كحالة الغاب تماما.
لهذا قام عباس أفندي بنقض هذه النظرية من حيث الكمال الإنساني، ومن هذا المقارنة الطبيعية الغرائزية بين الإنسان والحيوانات، وأما من حيث الكمال الإنساني فتتمثل في إدراك الرتبة «فكل رتبة دانية لا تدرك الرتبة العالية»، «فالحيوان يدرك مرتبة النبات والجماد، وكذا الإنسان يدرك مرتبة الحيوان والنبات والجماد، ولكن الجماد مستحيل عليه إدراك عوالم الإنسان»، وإذا كانت «صفات الافتراس طبيعة في العالم الحيواني»، إلا أن الكمال الإنساني تتخلق وتتهذب بالفضائل الإنسانية الراقية والمهذبة للطبيعة المحبة للحروب والصراع والدماء والتعصب والكراهية، لهذا جاءت الأديان باعثة لهذه الروح الإنسانية الداعية إلى البناء والسلم وحفظ الإنسان، ففي القرآن {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَلْ عَلَى اللَهِ إِنَهُ هُوَ السَمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
وأما من حيث المقارنة الطبيعية الغرائزية بين الإنسان والحيوانات، فيرى أن الحيوانات الوديعة «لا حرب بينها ولا جدال، فترعى آلاف الأغنام معا، وتطير آلاف الأسراب من الحمام، ولا تتنازع أبدا، لكن الذئاب والكلاب المفترسة ... مضطرة من أجل طعامها إلى الصيد، أما الإنسان فليس محتاجا لذلك، فلديه من الأطعمة والأقوات ما يكفيه، ولكنه لمجرد الطمع وحب الشهرة والصيت يسفك هذه الدماء»، ومع هذا «عظماء البشر في منتهى الراحة في قصورهم العالية مستقرون، ويدفعون البؤساء إلى ساحات الحروب، ويخترعون كل يوم آلة جديدة يهدمون بها البنيان البشري، ولا يرحمون أبدا حال هؤلاء المساكين، ولا يرثون لحال الأمهات» وأطفالهن.
ويضرب هنا مثالا للواقع الذي يعيشه من خلال الاستعمار الطلياني للأراضي الليبية، متسائلا: «كم من مساكين يتمرغون في دمائهم، وكم من أطفال باتوا بدون آباء، وكم من آباء فقدوا أبناءهم، وكم من أمهات يولولن بالعويل لموت أبنائهن، لعمركم، ما الثمرة التي تجنى من هذا، لا ثمرة ولا نتيجة، وليس من الإنصاف أن يكون الإنسان غافلا إلى هذه الدرجة من الغفلة»، ومن الغفلة «لو يقتل إنسان شخصا واحدا فإنهم يسمونه قاتلا، ويعاقبونه بعقاب الموت أو الحبس الأبدي، ولكنهم إذا شاهدوا إنسانا يقتل في يوم واحد مائة ألف شخص؛ فإنه يسمونه القائد الأعظم، وأشجع أهل زمانه، ولو سرق إنسان ريالا واحدا من أموال الآخرين؛ فإنهم يسمونه خائنا ظالما، ولكنه إذا أغار على مملكة كاملة ونهبها فإنهم يسمونه الفاتح العظيم».
وإذا كان الصراع سببه عنصري هنا يتساءل أيضا ألم يخلق الله خلقة بشرية واحدة، «فلم يخلق واحدا إنجليزيا، والآخر فرنسيا، والآخر إيرانيا، والآخر أمريكيا، فليس هناك اختلاف في الجنس البشري، والكل أوراق شجرة واحدة»، وأما إذا كان الصراع لأسباب دينية يتساءل أليس الله هو رمز المحبة بين البشر، وهو مطلق العدل والرحمة، وعلى هذا يكون «أساس الأديان الإلهية هو الألفة ومحبة البشر، ولو كان الدين سبب البغضاء والعداوة فإنه ليس دينا إلهيا».
الإسهاب حول هذا يطول، ولكن رجوعنا إلى ما قبل قرن من الزمن، ونحن بدأنا العام الشمسي الجديد، ولا زلنا في بدايات الألفية الثانية، فهل سنكرر ذات الأخطاء، ونكون أيضا سببا في الصراع، وإثارة الحروب، وأن نأخذ بيد السياسيين إلى دائرة وهم العظمة والأمجاد، ليترأس العالم فئات من الناس تستغفلهم، فتقود العالم إلى مزيد من الدمار والحروب والعصبيات، ونحن اليوم كمجتمعات إنسانية توفر ما لدينا من إمكانات إعلامية لبناء عالم أكثر إشراقا وتعقلا وإحياء للأجيال القادمة، فهل ستثني علينا، أو نكون سببا رئيسا في بؤسها وشقائها؟!