إنّه اليوم الأول من السنة الجديدة، فهل سيقول أحدنا للآخر: «كل عام وأنت بخير»؟ ومن أين يأتي الخير، والجسد يتداعى بالسهر والحمى، والبنيان العربي لم يعد يشد بعضه بعضا؟ بل يتهاوى في فراغ لا نهائي من الاحتمالات المفزعة؟
يُجتثُ الفلسطينيون من أراضيهم بمجارف القتل والتهجير والأسر في السجون، ونتفرجُ نحنُ من مسافتنا الآمنة، وبعد برهة من التأثر أو التبرع أو التحدث أو الكتابة -لإراحة ضمائرنا- نعود إلى سيرتنا الأولى كأنّ المسافة الواقعة بيننا تحجبُ أنينهم ونيرانهم وحرائقهم ومشروع موتهم وإبادتهم الجماعية!
هل سنقولُ بعضنا لبعض: عاما سعيدا؟ ونشتري الحلوى والكعك ونتبادل باقات الورد؟ وجثثُ أطفال وعوائل كاملة لم تنتشل بعد من تحت الركام ولم يُصلَ عليهم بعد، بينما يفتكُ البرد القارس والأمراض بالباقين دون رحمة؟
لقد خُدعنا ألف مرّة عندما قيل لنا إنّ الإنسان اليوم يعيش أحد أكثر أطواره البشرية تحضرا ووعيا بذاته، خُدعنا بالحماية الدولية؛ لأننا نشهد بأمّ أعيننا انحدارا أخلاقيا دوليا غير مسبوق، تصديقا لقول الشاعر أوس بن حجر: إذا الحربُ حلّت ساحة القوم أخرجت/ عُيوب رجالٍ يعجبونك في الأمن.
لم يكن العالم يوما مثاليا، فنحنُ مجبولون على الشر وعلى محبة السلطة والمال والاستحواذ، إلا أنّ أمورا من هذا النوع كانت تُدار بشيء من الخفاء أو تُلبسُ لبوسا كثيرة مع تربية الكثير من الخشية من أي انفلات كارثي، لكننا نشهدُ اليوم العالم الذي لطالما وصف بالمتمدن المتحضر وهو يميطُ اللثام عن قبحه ومؤامراته ضد جسدنا الذي ظنناه واحدا فتفرقت دماؤه وانشغل كل منا بأوجاعه، من السودان إلى اليمن وسوريا والعراق ولبنان إلخ.. جسد مُتشرذم تحتضرُ فيه كل الفرص وبوارق الأمل التي كانت تمهد ليصير مركزا مُشعا ومُصدرا للأفكار والرؤى، لكننا إلى جوار حرب العالم ضدنا، نشهدُ حمى القتل التي تستشرسُ بين الأخوة، بمبررات سطحية تمّ اختلاقها لجعلنا في موقع هزيمة أبدية.. فهل سيقول أحدنا للآخر: عاما سعيدا؟
العدو لم يعد بحاجة إلى التورية، لم يعد بحاجة لإخفاء يديه المتعطشتين للدماء، ها هو يُرينا قبحه كل يوم ويعري يديه الملطختين كل لحظة، ها هو يُمزق ضحاياه باستمتاع، ويقضي على الأطفال والأمهات لأنّ فلسطين لا تموت بسببهم، فتلك البطون وتلك الأجنة تعني مجيء الكثيرين، مجيء الألسنة التي تقول: «لا»، والأيدي التي تقذف الحجارة. بالأمس رأيتُ أمّا تضعُ أربعة توائم في مُخيم مُحاط بالموت والبرد، بدا لي الأمر حربا من نوع آخر.. ترويع المحتل بالمزيد من الإنجاب والأبناء! وتلك قصّة أخرى من تناسل الأوجاع والفجائع!
لكن هذا الموت بات كثيرا، حتى وإن قال بعضنا إنّه يُخلخل المسلمات في الغرب، فهل ستنكشفُ لغة «المظلومية» التاريخية التي أشاعوها لعدة عقود، ليُداووا جراح الصهاينة في مكان آخر بعيدا عن قلب أوطانهم؟ وإلى ذلك الحين هل سنقول: عاما سعيدا لأحبتنا؟
إنّ هذا الموت أكثر مما ينبغي لقضية عادلة، في زمن تُعري الصورة والفيديو الحقائق على نحو غير مسبوق. لقد قُتلوا من قبل مئات المرات، لكن موتهم اختبأ في عتمة تزوير الحقيقة.. الآن نشاهد فيديوهات القصف والأرواح المنتفضة وهي تُغادر الأجساد.. فهل سيقول أحدنا للآخر: عاما سعيدا!
كلما قتلنا اليأس، أبهرنا الفلسطينيون بكفاحهم المستميت من أجل العيش، من أجل أن يجعلوا لحياتهم قيمة. لقد صنعوا طعامهم فوق «تنكات» مُهملة وأشعلوا النار في غياب الغاز ببقايا المطهرات الطبية، يريدون الحياة ويتشبثون بها بينما يأكلنا اليأسُ والعجز في رفاهية حياتنا!
في الحقيقة، لم نختبر في حياتنا القصيرة عاما بهذا الثقل والكآبة، كأنّ يدا امتدّت فأطفأت إنسانية العالم وخنقت ضميره، فلم يعد بحوزتنا كلمات نقولها. تحللت الإنسانية وتفككت في وحل من الغرور الوحشي القذر والجشع الاستعماري اللامتناهي!
فالعالم مُرتبك منذ السابع من أكتوبر، لم يعد كما كنا نعيه، وربما الآخر في البقعة الأخرى من الكون تزعزعت بعض يقينياته لا سيما وأنّ كل ما يمتُ بصلة لأخلاق الحروب تمّ تحييده بعنف، كأنّما أعماقُ الصهاينة المريضة تفصحُ عن كراهية لا حد لها ولا شفاء إلا عبر النيل من كل ما يدب على سطح البسيطة من حياة.. فهل سنقول لبعضنا: عاما سعيدا؟
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
يُجتثُ الفلسطينيون من أراضيهم بمجارف القتل والتهجير والأسر في السجون، ونتفرجُ نحنُ من مسافتنا الآمنة، وبعد برهة من التأثر أو التبرع أو التحدث أو الكتابة -لإراحة ضمائرنا- نعود إلى سيرتنا الأولى كأنّ المسافة الواقعة بيننا تحجبُ أنينهم ونيرانهم وحرائقهم ومشروع موتهم وإبادتهم الجماعية!
هل سنقولُ بعضنا لبعض: عاما سعيدا؟ ونشتري الحلوى والكعك ونتبادل باقات الورد؟ وجثثُ أطفال وعوائل كاملة لم تنتشل بعد من تحت الركام ولم يُصلَ عليهم بعد، بينما يفتكُ البرد القارس والأمراض بالباقين دون رحمة؟
لقد خُدعنا ألف مرّة عندما قيل لنا إنّ الإنسان اليوم يعيش أحد أكثر أطواره البشرية تحضرا ووعيا بذاته، خُدعنا بالحماية الدولية؛ لأننا نشهد بأمّ أعيننا انحدارا أخلاقيا دوليا غير مسبوق، تصديقا لقول الشاعر أوس بن حجر: إذا الحربُ حلّت ساحة القوم أخرجت/ عُيوب رجالٍ يعجبونك في الأمن.
لم يكن العالم يوما مثاليا، فنحنُ مجبولون على الشر وعلى محبة السلطة والمال والاستحواذ، إلا أنّ أمورا من هذا النوع كانت تُدار بشيء من الخفاء أو تُلبسُ لبوسا كثيرة مع تربية الكثير من الخشية من أي انفلات كارثي، لكننا نشهدُ اليوم العالم الذي لطالما وصف بالمتمدن المتحضر وهو يميطُ اللثام عن قبحه ومؤامراته ضد جسدنا الذي ظنناه واحدا فتفرقت دماؤه وانشغل كل منا بأوجاعه، من السودان إلى اليمن وسوريا والعراق ولبنان إلخ.. جسد مُتشرذم تحتضرُ فيه كل الفرص وبوارق الأمل التي كانت تمهد ليصير مركزا مُشعا ومُصدرا للأفكار والرؤى، لكننا إلى جوار حرب العالم ضدنا، نشهدُ حمى القتل التي تستشرسُ بين الأخوة، بمبررات سطحية تمّ اختلاقها لجعلنا في موقع هزيمة أبدية.. فهل سيقول أحدنا للآخر: عاما سعيدا؟
العدو لم يعد بحاجة إلى التورية، لم يعد بحاجة لإخفاء يديه المتعطشتين للدماء، ها هو يُرينا قبحه كل يوم ويعري يديه الملطختين كل لحظة، ها هو يُمزق ضحاياه باستمتاع، ويقضي على الأطفال والأمهات لأنّ فلسطين لا تموت بسببهم، فتلك البطون وتلك الأجنة تعني مجيء الكثيرين، مجيء الألسنة التي تقول: «لا»، والأيدي التي تقذف الحجارة. بالأمس رأيتُ أمّا تضعُ أربعة توائم في مُخيم مُحاط بالموت والبرد، بدا لي الأمر حربا من نوع آخر.. ترويع المحتل بالمزيد من الإنجاب والأبناء! وتلك قصّة أخرى من تناسل الأوجاع والفجائع!
لكن هذا الموت بات كثيرا، حتى وإن قال بعضنا إنّه يُخلخل المسلمات في الغرب، فهل ستنكشفُ لغة «المظلومية» التاريخية التي أشاعوها لعدة عقود، ليُداووا جراح الصهاينة في مكان آخر بعيدا عن قلب أوطانهم؟ وإلى ذلك الحين هل سنقول: عاما سعيدا لأحبتنا؟
إنّ هذا الموت أكثر مما ينبغي لقضية عادلة، في زمن تُعري الصورة والفيديو الحقائق على نحو غير مسبوق. لقد قُتلوا من قبل مئات المرات، لكن موتهم اختبأ في عتمة تزوير الحقيقة.. الآن نشاهد فيديوهات القصف والأرواح المنتفضة وهي تُغادر الأجساد.. فهل سيقول أحدنا للآخر: عاما سعيدا!
كلما قتلنا اليأس، أبهرنا الفلسطينيون بكفاحهم المستميت من أجل العيش، من أجل أن يجعلوا لحياتهم قيمة. لقد صنعوا طعامهم فوق «تنكات» مُهملة وأشعلوا النار في غياب الغاز ببقايا المطهرات الطبية، يريدون الحياة ويتشبثون بها بينما يأكلنا اليأسُ والعجز في رفاهية حياتنا!
في الحقيقة، لم نختبر في حياتنا القصيرة عاما بهذا الثقل والكآبة، كأنّ يدا امتدّت فأطفأت إنسانية العالم وخنقت ضميره، فلم يعد بحوزتنا كلمات نقولها. تحللت الإنسانية وتفككت في وحل من الغرور الوحشي القذر والجشع الاستعماري اللامتناهي!
فالعالم مُرتبك منذ السابع من أكتوبر، لم يعد كما كنا نعيه، وربما الآخر في البقعة الأخرى من الكون تزعزعت بعض يقينياته لا سيما وأنّ كل ما يمتُ بصلة لأخلاق الحروب تمّ تحييده بعنف، كأنّما أعماقُ الصهاينة المريضة تفصحُ عن كراهية لا حد لها ولا شفاء إلا عبر النيل من كل ما يدب على سطح البسيطة من حياة.. فهل سنقول لبعضنا: عاما سعيدا؟
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى