حوالي السابعة صباحا، في طريقي إلى مطرح، دخلت من دوار الحمرية مرورا بمفترق شارع هوندا (هذا هو اسمه الشعبي) إلى التقاطع الذي يلي مركز الشرطة سابقا، وصولا إلى مسجد عبدالرضا سلطان، لم أر خلاله غير مواطن واحد ربما كان نائما عند حافلته! لم أصدم كثيرا لأنني أعرف هذا الواقع. ولكن عند مدرستي القديمة ارتفعت معنوياتي قليلا ببياض ملابس الطلبة والمعلمين قبل طابور الصباح.. استوقفني هذا الموضوع، وقد سمعت أن بعض المدارس أغلقت، وربما أخرى في طريقها للإلغاء بسبب الهجرة من هذه المناطق! المشكلة ليست في إلغاء مبنى مدرسة، فقد يحول إلى استخدام آخر. ولكن السؤال الأهم: إلى أين تتجه التركيبة السكانية لهذه المناطق؟؟ حاولت تأجيل التفكير في الموضوع لأستمتع بلحظات بدء إيقاع الحياة اليومية، فالجولة محفزة مثيرة لذاكرة قديمة جدا.. فأنا أعرف هذه المنطقة منذ أكثر من خمسين عاما، عندما كانت تشكل محطة خضراء في سفرنا للبلد، حيث كانت تتوقف سيارة العريبيا للتزود ببعض الماء من أحد آبارها العذبة، وربما ببعض ربطات من الرويد (الفجل) وكأنها باقات تزينها قطرات الندى. فقد كانت واحة خضراء فعلا.. في ذلك الوقت كانت التركيبة السكانية عكس اليوم تماما، يندر أن ترى أجنبيا، فالبيئة كباقي قرى عمان، عمانية صرفة بسكانها وعمالها وتجارها وحتى الزوار هم أبناء هذه البيئة.

في السبعينات من القرن الماضي، تغيرت روي بشكل مذهل، وظهرت حولها أحياء حديثة مثل مطرح الكبرى، التي تلامس دارسيت التي تشبهها كثيرا في البيئة الزراعية، امتدادا إلى دارسيت الساحل وعينت. وفي الناحية الأخرى الولجة، والوادي الكبير، حيث أول سوق أسبوعية (سوق الجمعة). وزاد الزحام داخل روي، وعلت أصوات الأغاني الهندية، وكبرت المباني وكثرت بشكل لافت وكأنها تنبت من الأرض وتحل محل النخيل والسدر وغيرها، ويختفي معها مشهد المواشي والحمير المروضة وقوافل الجمال. وتوسعت الشوارع رغم ضيق الجغرافيا. فبعد إلغاء المطار القديم، وانتقال دار الإذاعة إلى القرم، حل محلهما الثقل الاقتصادي والمالي للبلاد بتحف معمارية كبيرة مثل البنك المركزي العماني وسوق المال، والأوراق المالية، ووزارة التجارة والصناعة، وغرفة التجارة والصناعة، وعلى الطرف ميدان وبرج رمزي تزينه مجموعات الحمام، في مشهد يشبه ميدان الطرف الأغر في لندن، وسلسلة من البنوك، وأضخم مقسم للاتصالات، والبريد، وبعض الفنادق، كما انتقلت من هنا لاحقا دار جريدة عمان التي ظلت سنوات طويلة، وهيبة معسكر بيت الفلج والمتحف العسكري الذي يعد أحد أهم المعالم حتى اليوم، وأول ملعب كرة معشب، كما ظهر مبنى أبيض شامخ بمقياس ذلك الوقت على الأقل، هو مبنى مجمع الوزارات، إضافة إلى بضع بنايات تشبه بعضها تعرف بالسفارات رفرفت فوقها أعلام بعض الدول. لم تعد هذه البنايات موجودة، ولكن ما زالت نسخة منها باقية مقابل مطار الشرطة تقريبا.. وهنا في قلب روي زخم الحراك السينمائي بظهور التحفة المعمارية الدائرية لسينما النجوم (cinema star) التي تصل فيها تذكرة الدرجة الأولى إلى 750 بيسة، نحتاج لبعض الادخار لنحظى بحضور فيلم ننتقيه من الكتيب الشهري الأنيق الذي تصدره هذه الدار، وسينما ريكس التي تتوسط مخبز عمان الحديث ومدرسة النجاح الخاصة ومكتبة العائلة ومدرسة روي النموذجية للبنات، والمساكن الشعبية التي يفخر بها سكانها قبل أن تتغير مفاهيمنا تجاه الإسكان الاجتماعي، وسينما النصر، التي لا ينافسها على هذا الموقع سوى نادي روي الرياضي، الذي يشكل حضورا اجتماعيا واضحا، ويعد الند الأبرز لنادي فنجا، وسينما عمان بلازا، وما أدراك ما سينما بلازا، التي تحفّظ كثيرون على ظهورها مقابل باكورة جوامع السلطان قابوس، الذي أحيا صلاة الجمعة بعد أن هجرت أو كادت أن تهجر! والذي شهد توثيق سلسلة طويلة من دروس سماحة المفتي. وكانت أكثر من مجرد سينما، فهنا غنى المطربون المحليون والذين استضيفوا من الدول الشقيقة بين منتصف وأواخر السبعينات في الأعياد الوطنية لعدم توفر صالات ومسارح. وهنا مطعم ويمبي الذي لا نفكر حتى في الدخول إليه لأنه حسب إمكانياتنا (مال الناس الهاي هاي)، يقابله محطة المواصلات التي أحدثت مشهدا وحراكا في النقل العام، وبدأنا نستوعب كيف يمكن أن تعتمد على الحافلة، وتعرف أوقاتها وأين ستقوم بتغييرها إذا كان مشوارك طويلا، وأخذ بعضنا بطاقة اشتراك شهرية يمكن أن تستخدم بها الحافلة مرات غير محددة. وليس بعيدا عنها مطعم دجاج تكساس.. ظهرت دور السينما هذه لتحل محل سينما روي وسينما عمان الجديدة المكشوفتين.. وهنا ظهر أول مول تجاري ok center، اختصارا لعبارة (مركز عمان والكويت)، الذي ظهر أمامه وفوق دوار الحمرية أول مشهد لجسور الشوارع في مسقط، وفاحت من الشارع التجاري رائحة الشاورما الأصلية بأيد شامية قبل أن تتولاها العمالة الآسيوية وتشوهها شكلا ومذاقا، وعلى الخط نفسه ما عُرف بسوق الظفاريين، لأن كثيرا أو معظم التجار فيه من الجنوب.. أما على الطرف الغربي تقريبا من روي، مقابل حلة السد، يظهر مستشفى النهضة، الذي ما زال متشبثا بموقعه حتى اليوم. وإلى الجنوب الغربي منه تظهر منطقة سكنية جديدة مختبئة اسمها وادي عدي، التي يقال إن اسمها القديم مريوح (حيث تنيخ وتريح قوافل الجمال). فليس بعيدا من هنا يفرض المعوشري ضريبة الدخول للعاصمة، وما زالت آثارها باقية إلى اليوم. انتقلنا للسكن فيها عام 1978/م، فكانت فرحتنا لا توصف ببيتنا الجديد، رغم وقوعها بين الجبال التي تحيط بها من كل جهاتها، ومساحات الأراضي التي لا تتجاوز مائة وخمسين مترا مربعا (40/40 قدم مربع) أي أن الستمائة، المساحة الشائعة، تقسم على أربعة مواطنين (أربع أسر)! ربما الفكر ذاته الذي قرر يوما ما نقل عدد كبير من المواطنين، من بيوت الصفيح في الغبرة إلى ما سمي بمدينة النهضة، في مشهد لا يشبه النهضة، حتى لا يشوهوا المنظر العام! ولكن البركة كانت أوسع بكثير، والألفة والحميمية والود بين الجيران تجعل من ضيق المكان قصورا وجنائن، ومن طفولةِ أزقتِها وأحلامِها يظهر مبدعون وقياديون في كل المجالات.

هنا ذكريات الصفين الثاني والثالث الإعدادي في مدرسة الوليد بن عبدالملك -التي مررت أمامها قبل قليل- وكانت تحيط بها مطاعم كيرلا ومدراس، ورائحة الكيما والناشف والدال والبراتا والبكوراة وغيرها، ومخبز اللبناني وسندويكات جبن مثلثات وجبن جام، ومرحلة الانتقال من الطفولة إلى المراهقة.

وقبل أن تتشبع المؤسسات الرسمية بالموظفين، وتتقلص فرص التوظيف فيها، كانت هناك مبادرة من الحكومة بتوظيف الطلبة في الإجازة الصيفية، فحظيتُ بقبولي حوالي العام 1980م في دائرة الخدمات بوزارة التربية والتعليم، في مرتفعات دارسيت براتب ستين ريالا شكلت لي نقلة مهمة.. بالنسبة لي كان حدثا مهما جدا بما تركه من تجربة ومفارقات ظريفة بدءا من تعلم معنى ومبادئ المسؤولية الوظيفية وبعض تفاصيل وأدوات الوظائف النمطية من مراسلات وسجلات الجرد والتسليم وما شابه، خاصة أنني مع تسليمي العمل خرجت سكرتيرة المدير في إجازة طويلة، لأجد نفسي وأنا ابن 16 عاما تقريبا (سكرتير المدير) ليتفاجأ بي بعض المعلمين الوافدين عندما يأتون لاستلام مساكنهم وأثاثهم الذي توفره لهم الوزارة بأنني أنا من أملك مفاتيح مقابلة المدير أو بعض الموافقات، فأمارس عليهم -مازحا- بعض التنمر.

وقتها تعلمت القيادة على سيارة خالي، التي كنا نسرقها أنا وابنه يحيى صديق الطفولة فترة ما بعد الغداء، ونركّب عليها لوحة (ت L) معتقدين أننا نوهم المرور بأن أحدنا يحمل رخصة ويعلّم الآخر، متحملين حرارة الظهر لأنها دون تكييف كما هو الحال في كثير من الطرازات حتى ذلك الوقت، فالمكيف من الكماليات، وبالكاد بدأ يصبح من الضرورات. ثم يتولى صديقي حمود مشكورا تكملة تدريبي لمدة عشرة أيام نذهب بعدها في صباح رمضان إلى مركز الفحص للاختبار وأحصل على رخصة القيادة من أول تراي (امتحان)، عام1981م. وحمود اليوم، هو (حمود العيسري) الشاعر الغنائي المشهور صاحب كلمات (تزهو بك الأعوام، وسلمت مهابا وغيرها).. من المفارقات الجميلة أن تصبح هذه السيارة لاحقا أول سيارة أمتلكها كهدية من خالي رحمه الله، والتي خدمتني سنة دراسية كاملة في الصف الأول الثانوي بالمعهد الإسلامي بالوطية، أبلت خلالها بلاء جميلا، وشعرت بميزة أنني من الطلبة الذين يملكون سيارة خاصة. وبعدما عاشت حوالي سبع سنوات بعتها بـ 250 ريالا لقريب لي، ليحولها إلى قطع سكراب في كراجه، وقريبا سأمتلك سيارة جديدة. فبعد انتهاء العام الدراسي هذا مباشرة حملتني هذه المبروكة إلى تلال القرم، حيث مقر الإذاعة والتلفزيون حاملا معي ظرفا بنيا بداخله شهادة الأول الثانوي، وشهادة تقدير السن، وشهادة حسن سيرة وسلوك، وجواز السفر، الخالي من أي تأشيرات سفر أو أختام مطارات، لأتقدم لوظيفة محرر أخبار، أعمل في الفترة المسائية، وأدرس في الفترة الصباحية.