في تجربة مغايرة تعد الأولى من نوعها في عُمان -بعد محاولات فردية لم يكتب لها الشيوع- تمكن فريق عمل متخصص من ابتكار خط حاسوبي مُستلهم من الإرث الثقافي العُماني، وقد نشرت مجلة «نزوى» تفاصيل هذه التجربة في كتاب حمل عنوان: «هوية الخط النسخي العُماني»، وهو دراسة تشريحية لسمات الخط في المخطوطات العُمانية القديمة، وتعد هذه الدراسة الأولى من نوعها في هذا المجال وذلك «نظرا لخُلُوّ الأدبيات العمانية -قديما وحديثا- من محاولات تقعيد النِسَب القياسية للحروف النسخية العُمانية، ولذا فهذه الدراسة تمثل أول محاولة تشريحية للحروف العمانية، جماليًا، وتركيبيًّا». وللحديث حول هذه المغامرة التقينا بكل من: د. ياسر إبراهيم مُنجي، أكاديمي وناقد ومؤرخ فني، مُعار من كلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان لقسم التربية الفنية بكلية التربية بجامعة السلطان قابوس، ود.سلمان بن عامر بن سالم الحجري، أستاذ التصميم الجرافيكي المشارك بكلية التربية، قسم التربية الفنية بجامعة السلطان قابوس، وسالم بن محمد بن سالم المنظري، مدير اللغويات الحاسوبية بشركة إبانة (إتكو سابقا) وباحث في مجال معالجة اللغات الطبيعية. فقد توصلوا بصحبة فريق متكامل إلى استنباط تنويعاتٍ معاصرةٍ، تستمد شرعيتها من الهوية الخطية العُمانية الفريدة، التي تمتعت بزُمرة من السِمات الشكلية والأسلوبية، ميزتها عمّا عداها من أنماطٍ نَسخيّة أخرى، فتمّ انتخابُ أشكال حروف بعينها من كتابات خطاطين مختلفين من عصور متباينة.
التَجَذُّرِ في تربة الذاكرة الخطيّة
عندما توجهنا بسؤالنا حول الدوافع الأولى المُحرضة للمغامرة اللافتة التي قاموا بخوضها من أجل ابتكار خط حاسوبي مُستلهم من الإرث الثقافي العُماني، عبر نقل الخط من المخطوطات والوثائق القديمة إلى نمط حداثي يقترب من لغة العصر -في زمن الرقمنة- قدّم لنا سلمان الحجري ثلاثة دوافع مُحفزة للقيام بها، تمثل أولها في المحافظة على التراث الثقافي العُماني، حيثُ يُعد الخط العربي جزءا مهما من التراث الثقافي، فقد ساهم في تشكيل الهوية الثقافية العُمانية لقرون طويلة. ولذلك، فإن ابتكار خط حاسوبي كان فرصة مهمة للحفاظ عليه من جهة، ولإتاحته للجيل القادم من جهة أخرى. الأمر الثاني تمثل في كون الخط النسخي العُماني من أقدم أنواع الخط العربي في عُمان، فقد تميز بخصائص جمالية وفنية فريدة، ولذلك، فإن ابتكار خط حاسوبي مستوحى منه يُعد خطوة مهمة للتعريف به وإبراز جمالياته للعالم. ورأى الحجري أنّ السبب الثالث تمثل في تلبية متطلبات العصر الرقمي، ففي عصر الرقمنة، أصبح استخدام الخطوط الحاسوبية أمرا أساسيا في مختلف المجالات، بما في ذلك الطباعة والنشر والإعلام الرقمي.
ورأى سالم المنظري أنّ المخطوطات العُمانية تمثلُ إرثا ماديا ذا قيمة ثقافية عالية للخط العربي لاحتوائها على رسم مبتكر فريد لعدد من محارف اللغة العربية. فيكاد المطالع لمخطوط عُماني من الوهلة الأولى أن يتعرف على هوية المخطوط إن كان عُمانيا أو غير ذلك؛ وذلك لتشارك المخطوطات العُمانية في عدد من السمات الفنية في الرسم. وقد جرت محاولات فردية سابقا لصناعة خط طباعي مستوحى من رسم المخطوطات العُمانية، إلا أنّه لم يكتب لهذه المحاولات الشيوع. ولذلك فقد أخذت شركة «إتكو» العُمانية على عاتقها مهمة خوض هذه المغامرة ومواجهة تحدياتها المتمثلة في عدم ضمان جودة المنتج النهائي للخط لتباين أشكال الرسم عند النساخ العُمانيين في أحيان كثيرة نظرا للاختلاف الزمني بينهم أو اختلاف الموقع الجغرافي أو غير ذلك.
وقد أكد ياسر منجي على أنّ المشروع قد تأسس على خصيصة فريدة من خصائص التراث الخطي العُماني، ألا وهي خصيصة تفَرُّد نمط الخط النسخي فيه بزُمرة من السِمات الشكلية والأسلوبية، التي تميّزه عما عداه من أنماطٍ نَسخيّة أخرى قد نجدها في سائر الأقطار -وهو ما استَوفَت الدراسة المنشورة في الكتاب شرحه بتَوَسُّعٍ يضيق عنه هذا المقام، ويضاف إلى هذه الزُمرة من السِمات تمَتُّع هذا النمط الخطي بمكانة خاصة في عُمان على مدىً زمنيٍ واسع، لما يتسم به من مقروئيةٍ صريحة، وبساطةٍ في التركيب، تتفق وتتوافق مع صراحة الفطرة التي جُبِلَ عليها العُمانيون، ومع البساطة والتلقائية التي آثروها على امتداد تاريخهم فأُثِرَت عنهم، ونظرًا كذلك لظَفَر الخط النسخي بالنصيب الأوفى من عمق التَجَذُّرِ في تربة الذاكرة الخطيّة العُمانية، بما يُكَرِّسه كمصدرٍ أصيلٍ ورئيسٍ لأية محاولةٍ تروم استنباط تنويعاتٍ معاصرةٍ، تستمد شرعيتها من الهوية الخطية العُمانية الفريدة.
تضافُر جهود وخبراتٍ شتى
«انبثقت جذور الفكرة الأولى للمشروع في مرحلة البحث والتطوير لعدد من مشاريع شركة «إتكو» إبان انطلاقتها في سبتمبر 2020، ولعل الباعث الرئيس للمشروع تجلى في أهداف الشركة التي تسعى لتقديم حلول رقمية تخدم اللغة والثقافة العربية في شكل تطبيقات أو خدمات إلكترونية، وصناعة الخطوط الطباعية تقع في هذا الإطار»، هكذا حدّثنا المنظري عندما تساءلنا عن منشأ الفكرة. فلقد تمّ العمل بشكل تكاملي لبناء خطط العمل العامة والفرعية لمراحل المشروع.
المؤكد أنّ هذا النوع من الدراسات تطلب تآلف علوم مختلفة من أجل تقديم بحث رصين، كما أشار الكتاب لذلك: علم الاجتماع، والعلوم السياسية، والاقتصادية، بمختلف فروعها، وضرورة توفر المتخصصين في الدراسات المذهبيّة، ودراسات المسح الديموغرافي وفروع الأنثروبولوجيا، وغيرها من المجالات لاستقاء مادة علمية رصينة، وكان سؤالنا: كيف يمكن لهذه العلوم المتفرقة أن يجمعها مشروع ومظلة واحدة؟ وحول هذا أجابنا منجي قائلا: يمكن جمعُها ببساطة من خلال ما يُعرَف بالأبحاث البَينِيّة Interdisciplinary Researchs والتي يمكن من خلال منهَجيّاتها وأدواتها البحثية الخاصة -والتي باتت تشهد رواجًا واسعًا في الدوائر الأكاديمية العربية حاليًا- أن تتيح تضافُر جهود وخبراتٍ من مجالات شتى، يَرفِدُ كلٌّ منها الآخر، ويضيف إليه ما يسُدّ الثغرات الناجمة عن إجراء البحوث من زوايا مُوغِلة في التخصص الدقيق.
وأضاف قائلا: وقف وراء تنفيذ هذا المشروع عدد كبير من المشاركين من باحثين وخطاطين ومصممين ومبرمجين، بالإضافة إلى الدعم الرئيسي المقدم من الفريق التجاري للشركة التي تعمل على تسهيل تنفيذ المشروع. «لم يكن من بد أن تتبنى مؤسسة عُمانية هذا المشروع وذلك لارتباطه بالهُوية العُمانية، وللجدوى الثقافية والاقتصادية المتوقعة منه. وقد استغرق المشروع قرابة العام والنصف بدءا من سبتمبر 2020» هذا ما قاله المنظري عند سؤالنا عن تبني المشروع، وأكد سلمان الحجري أنّ جهودا كبيرة بذلت في سبيل إتمامه.
انتخاب قائمة المخطوطات المختارة
أخذنا الفضول للسؤال حول المخطوطات التي تمّ الاستناد إليها؟ وإلى أي زمن يعود أقدمها؟ وما هي المواضيع التي دارت حولها؟ وهل كانت كافية لاستنباط الخط الذي طمحوا إليه، فأجابنا ياسر منجي: «تنوعت مصادر الدراسة؛ إذ لم تعتمد على مرجعية المخطوطات فَحَسب، بل اعتمدت كذلك على عدد كبير من المصادر والمراجع المتخصصة، التي تم إثباتُها في قائمة المصادر الأساسية للدراسة؛ وذلك لضمان شمولية المرجعية، وعدم اقتصارها على مصدرٍ أُحاديّ، وكذلك نظرًا لطبيعة البحث نفسه، التي تجمع بين تخصصات بَينِيَّة شتى؛ إذ تجمع بين مجال الخط العربي، ومجال دراسات النقوش والمخطوطات بصفة عامة، ومجال التصميم، ومجال التحليل الشكلي (المورفولوجي) لِبِنية الحَرف نفسه؛ لذا كان من المهم جدًا الاستهداء بجهود المُبَرِّزين من الباحثين، الذين كان لهم فضل الريادة في دراسة تطور أقلام الخط العربي وتاريخها، ونظريات ظهورها وتَفَرعها، وهو ما حدا بنا لإجراء مقارنات بين نتائج تلك الدراسات، وبخاصة فيما يتعلق بالنقوش العربية القديمة، وعلاقة بعض الخصائص الشكلية لنصوصها بخصائص مُناظِرة في عدد من المخطوطات العُمانية».
وتابع منجي قائلا: «أما على الجانب الوثائقي، فقد كان من بين المصادر المهمة التي مثلت سبيلًا هاديًا للدراسة: «فهرس المخطوطات»، الصادر بسلطنة عُمان عن وزارة التراث القومي والثقافة (سابقا)، (وزارة الثقافة والرياضة والشباب حاليًا)، بالتعاون بين دائرة المخطوطات بوزارة التراث والثقافة (سابقا) (وزارة الثقافة والرياضة والشباب حاليا) وجامعة السلطان قابوس. ويوثق هذا الفهرس لمخطوطات عُمانية تتناول في مادتها مختلف فنون العلم والمعرفة، وتمثل نتاج الفكر العُماني وازدهاره، والتراث المعرفي الذي عاشته البلاد على امتداد عهودها. واسترشادًا بفهرس المخطوطات العُمانية سالف الذكر، تم انتخاب قائمة من مختارات المخطوطات العُمانية -تم ذكرُها تفصيلًا في خاتمة الكتاب- تغطي موضوعات ومجالات معرفية وأدبية وعلمية واسعة، رأى الفريق البحثي أنّها تمثل مصادر قياسية، يمكن من خلالها لأي باحث استخلاص طائفة من السمات والخصائص، الشكلية، والفنية، والأسلوبية، المُمَيّزة لهُوية النُسّاخ العُمانيين. كذلك فقد استُعين بعدد من المصادر والدراسات، التي اشتملت على صور مخطوطات عُمانية مهمة وشهيرة، لإجراء التحليل والمقارنات على المحتويات النَصّيّة لتلك الصور، وقد تم إيراد نماذج لأهم هذه الصور في الكتاب، مع الإشارة لمصادرها بالتفصيل. وأضاف قائلا: «لا يمكن إغفال خبرات الخطاطين المشاركين في المشروع، والمضطلعين بمهمة رسم المحارف، الذين أضافوا اجتهادات قَيّمة في سياق استخلاص عددٍ من السمات الشكلية للحرف النسخي العُماني - وقد تمت الإشارة لذلك في بعض جداول الكتاب - بالإضافة للاستهداء بمجموعة النتائج والمؤشرات القائمة على المقارنات التاريخية التي أفضَت إليها هذه الدراسة».
المثاقفة والانصهار الحضاري
لكن كيف يمكن الجزم بأنّه خط عُماني وثمّة نسيج عام يُؤالف بين الخطوط العربية ويسمها بسمات عامّة؟ هكذا طرحنا السؤال فأجابنا منجي قائلا: هذا صحيح، لا سيما في ظل التثاقُف والتفاعل الحضاري، بين مختلف الأعراق والثقافات التي انصهرت في نسيج المجتمع الإسلامي على مَرّ القرون. من جانبٍ آخر، فمن الشواهد التي يصعب إغفالُها، والتي عَضَّدَتها نتائج التحليل والمقارنات بين عدد من المصادر الواردة تفصيلًا في الكتاب، اصطباغ الخط النسخي داخل عُمان بصبغة مميزة، تختلف عن صبغته الأصلية القياسية، الشائعة في بقية الأقطار العربية، والسائرة على نهج القياسات المعيارية التي قَعّدها له أقطاب الخط العربي عبر العصور.
وقد ظهر من النتائج التي خلصت إليها الدراسة، والتي تم تفصيلها في 22 نتيجة في خاتمة الدراسة، أن العديد من السمات الشكلية والأسلوبية الخطية النَسخية تكاد تكون مجموعةً حصرًا في المخطوطات العُمانية، بل وفي أساليب عدد كبير من الخطاطين العُمانيين المعاصرين، وهو ما ظهر كذلك في نتائج أعمال الخطاطين العُمانيين المشاركين في التنفيذ.
ومما يؤكد خلاصة هذه النتائج أن المصادر الخطية، في المخطوطات والصور المُستَشهَد بها في الكتاب، كلها مصادر عُمانية. وفي هذا السياق لا يجب أن نغفِل الجهد المحمود، في المراجعة والتدقيق الوثائقي – لكلٍ من الدراسة وقائمة المخطوطات المختارة - الذي قام به كلٌ من الباحث العُماني الأستاذ «وليد النبهاني»، منسق تحرير الموسوعة العُمانية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، وكذلك الباحث العُماني الأستاذ «سلطان الشيباني»، المتخصص في التراث العُماني المخطوط، الذي تولى المراجعة التراثية للدراسة.
السمات الشكليّة والتكوينية والجمالية
وعن السمات الشكليّة والتكوينية والجمالية التي ميزت المخطوط العُماني عن غيره، أجابنا منجي: عدم الحُفول كثيرًا بالتقيُّد بقاعدة «التفريق» (التفريق من مصطلحات الخط العربي، وتكمُن أهميته في حفظ الحروف من مزاحمة بعضها بعضا، وملامسة أول منها للآخر ليكون كل حرف منها مفارقًا للحرف المجاور له). من هنا أيضا يكون الخط العُماني من الخطوط التي يغلب عليها الإطلاق دون التحقيق، (والخطُّ المُطلق هو الذي تداخلت حروفه واتصل بعضها ببعض). (أما الخط «المحقق» فهو ما صحت أشكاله وحروفه على اعتبار أنها مفردة وعلى نسبة فاضلة مع تجنب تزاحم الحروف). من الظواهر التي رصدتها الدراسة أيضًا ظاهرة الجمع بين إثبات الهمزة وإغفالها في المخطوطات العمانية، وكذلك الاستعاضة عن همزة المَدّ بشكل الهمزة العادية. يشترك الخط العُماني كذلك -ولاسيّما في مخطوطات المصاحف- مع نقوش الخط المكي في خاصية «البسط» (وهو الامتداد الأفقي للحروف ويعنى مد أجزاء الحروف الأفقية، مثل بسط الياء والسين والصاد والكاف). تلك فقط أربع سمات تمثل إشارات لما تم حصرُه في النتائج التي أوفَت على العشرين كما ذُكِرَ قبلًا.
مخطوط يعود للقرن الثامن الهجري
المنبع الذي تمّ الاتكاء عليه في الكتاب هو «المخطوطات» وذلك لما تتمتعُ به من موثوقية، ولما تختزنُ مادتها التطورات التاريخية والثقافية والفنية التي مرّت بها الكتابة وأساليبها.. الأمر الذي دفعنا للسؤال إلى أي مدى ساعد فحص المخطوطات على المضي قُدما في صنع منهجية الدراسة والانفتاح على قراءات متعددة للوصول إلى نتائج حقيقية، فأجابنا الحجري: «كان من الضروري إجراء دراسة علمية حول هذا الخط، تتناول كافة جوانبه التاريخية والثقافية والفنية. وقد تم إجراء هذه الدراسة من قبل فريق من الباحثين العُمانيين، الذين اعتمدوا في دراستهم على مجموعة من المخطوطات العُمانية القديمة وعلى منهجية علمية شاملة، تضمنت الخطوات التالية: التعريف بالخط العربي العُماني: تناول الباحثون في البداية تعريف الخط العربي العُماني، ونشأته، وتطوره، وخصائصه الفنية. دراسة المخطوطات العُمانية: قام الباحثون بدراسة مجموعة من المخطوطات العُمانية القديمة، التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة، من القرن الثامن الهجري وحتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري. تحليل سمات الخط العربي العُماني: قام الباحثون بتحليل سمات الخط العربي العُماني، من حيث الشكل والتكوين والنسب والجماليات.
يستبطن الذات ويغوص في أعماقها
ظفر الخط النسخي بالنصيب الأوفى في المخطوطات العُمانية، وهنالك إشارات واضحة لتفَرُّد الخط النسخيِّ من بين سائر الخطوط العُمانية، لما يتسم به من مقروئيةٍ صريحة، وبساطةٍ في التركيب، وعليه تساءلنا : كيف تمكنتم من نقل هذه السمات إلى الخط الحاسوبي، فأجابنا الحجري: «تم ذلك بعد الاستعانة بمجموعة من الخطاطين المبدعين في الخط النسخي العُماني ممن يتقنون كتابة خط النسخ، بطريقة معتمدة على تقعيد الخط، ومنعكسا ذلك على ما تم الوصول له في مرحلة الجمع والتحليل، ومن ثم الاستفادة منها في ابتكار محارف عُمانية مميزة لها سمات الخطوط الكتابية العُمانية في المخطوطات». وأضاف المنظري قائلا: «تبع ذلك مرحلة رسم المحارف على برامج حاسوبية بالاعتماد على خبرات مصممين مبدعين لديهم اهتمام بالخط العربي، وبإشراف خبراء دوليين في صناعة الخطوط العربية. ولم تقف شخصية خط عُمان عند الخط العربي، بل شمل المشروع كذلك صناعة خط لاتيني منطلق من هوية الخط العربي؛ ولذا فإن خط عمان يدعم الكتابة بعدد من اللغات التي تعتمد الأبجدية العربية مثل الفارسية والأوردو، بجانب تلك التي تعتمد الأبجدية اللاتينية مثل اللغات الأوروبية. فكان أن طرحتُ سؤالا حول إمكانية وجود علاقة بين الخط والإنسان، فثمّة إشارة صريحة في الكتاب إلى أنّ بساطة الخط قد لا تنفصل عن الفطرة التي جُبِلَ عليها العمانيون، فأجاب منجي: «دون شك، فالخط العربي من مجالات الفنون التي تلعب فيها التركيبة الشخصية والنفسية لكل خطاط دورًا فارقًا في وَسمِ مُنتَجِه الخطي بسِماتٍ فارقة، فضلًا عن كونه من الفنون التي تقترِن فيها الممارسة الفنية بالتجربة الوجدانية اقترانًا وثيقًا، وهو أمرٌ يعلمه الخطاطون الراسخون جيدًا. فالخطاط في أثناء عمله يكاد يختبر حالةً من استبطان الذات والغوص في أعماقها. من هنا كانت إمكانية ظهور العلاقة بين التكوين الذاتي والاجتماعي للفنان الخطاط في أسلوبه» وأردف قائلا: « لقد استَوفى بحث تجَلّيات هذا النوع من الخبرات الوجدانية/ الفنية عددٌ كبير من ثقاة الباحثين الشرقيين والغربيين؛ أكتفي منهم بالفنان والباحث العراقي الراسخ الشهير «شاكر حسن آل سعيد» (1925 - 2004)، في أكثر من مؤَلَّف من مؤلَّفاته، وكذلك في دراسات مهمة للفنان والأكاديمي المصري الراحل «أحمد ماهر رائف» (1926 - 1999).
الخطوط في صيرورة التطور
من الواضح أنّ فريق العمل قد تتبع هوية الخط العُماني في ضوء المراحل التاريخية لتطور أقلام الخط العربي، ولذا فإنّ أول ما خطر بذهننا هو التساؤل حول هذا الخط إن كان متطورا أم جامدا، وأيضا حول إن كانت هنالك أسباب مؤثرة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تركت بصمتها عليه، وحول هذا حدثنا منجي قائلا: «الخطوط العربية، بصفةٍ عامة، من أكثر الخطوط تطورًا عبر التاريخ، وتشهد بذلك كافة التنويعات والأنماط والأساليب المبتكرة، التي تَوالى ظهورها على امتداد التاريخ العربي، من أقدم عهوده وحتى الآن». وأضاف: «في تقديري أن أي تطورٍ فني - لا في مجال الخط فحَسب، بل وفي سائر الفنون على اختلافها واتساع مجالاتها - لا ينفَصِم عن المؤثرات التي تَموجُ بها الحواضر التي يطفُرُ فيها عبر التاريخ، ومنها الاقتصادية والسياسية كما أسلَفتُم. ومن المعلوم لدى مؤرخي الفنون ونُقّادها مدى عُمق أثر تلك المؤثرات على تطور مجالات الفنون وأساليبها ومدارسها وطُرُزها، وهو ما يفسر اشتمال دراسات تاريخ الفنون على مباحث مُسهِبة عن هذه المؤثرات».
عقبنا متسائلين: هل سيكون هذا الخط نهائيا أم أنه قابل للتعديل والتحسين بحسب ما تتيح المعارف الجديدة؟، فأجابنا الحجري: «التطوير والتحسين صيرورة الإنسان وجميع منتجاته الإبداعية لها نفس هذه الخاصية. إن التراكم المعرفي والانفجار المعلوماتي قد يفرض صيغا جديدة للتعاطي مع هذا الخط المبتكر، لذلك فإن عملية التطوير مستمرة بكل تأكيد».
انتخاب أشكال من عصور مختلفة
وعن الصعوبات التي كانت حجر عثرة أمام المشروع أجاب المنظري: « اكتنف العمل في المشروع تحديات كثيرة في جميع مراحله، ولكن بتوفيق الله ثم بالكفاءة العالية التي تحلى بها فريق العمل أمكن تجاوزها. ولعل من أصعب تلك التحديات هو التوافق على رأي واحد في عمل فني إبداعي كطبيعة هذا العمل. ولذلك فلم يكن السهل انتخاب أشكال حروف بعينها دون أشكال أخرى رغم وجود معايير ضابطة في الاختيار حددتها الدراسة العلمية، ولكن لكثرة الأشكال أحيانا لرسم الحرف الواحد وتقاربها الشديد يتشكل التحدي في اختيار الرسم الأنسب. ويتعلق بهذا التحدي تحدٍّ آخر لا يقل أهمية عنه وهو محاولة إيجاد انسجام وتوافق في رسم جميع المحارف في المنتج النهائي للخط إذا ما علمنا أن هذه المحارف استُلّت من كتابات خطاطين مختلفين وفي عصور زمنية مختلفة.
تخدم الاقتصاد والسياحة والثقافة
ولعلنا نتساءل: في عصرنا الحاضر تنشطُ آراء كثيرة حول ما يسمى باقتصاد الثقافة، ولذا تساءلنا حول تحول الثيمات الأساسية للخط من المخطوطات القديمة إلى انفتاح رقمي عصري، كيف يمكن أن تتجلى هذه الجهود في أبعاد اقتصادية، لا سيما وأنّ مشاريع من هذا النوع مُكلفة، أجابنا الحجري: «يمكن للخط العربي العُماني أن يُساهم في الاقتصاد العُماني من خلال عدّة أبعاد، منها: اعتماده
كخط أساسي أو ثانوي في المؤسسات الرسمية في سلطنة عمان باعتباره يمثل هوية عمانية خالصة، ويمكن استخدامه في التسويق والبيع، بحيث يمكن استخدام الخط العربي العُماني في الإعلانات والمطبوعات والمنتجات الأخرى، مما يجذب الزبائن ويزيد المبيعات، ويمكن أن يغدو نافعا في المواقع السياحية والتذكارات والمنتجات الأخرى، مما يروج لسلطنة عُمان ويجذب السياح، وكذلك هو الأمر مع التنمية الثقافية، في التعليم والتدريب والبرامج الثقافية الأخرى، مما يعزز الثقافة العمانية.
ويبدو الحجري متفائلا وهو يقول: من المؤكد أنّ مشاريع ابتكار خطوط حاسوبية تطلب استثمارات مالية كبيرة، لكنها يمكن أيضا أن تحقق مردودا اقتصاديا كبيرا من خلال القنوات التي ذكرتها سابقا. كما يمكن أن تساهم في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز الهوية الثقافية العمانية.
توثيق الأساليب والحرية !
من بين الظواهر اللافتة التي رصدها الكتاب: ظاهرة عدم اهتمام النُسّاخ العُمانيين بتوثيق أساليبهم الشخصية، أو تَتَبُّع امتدادها واستمرارها التاريخي، وعندما تساءلنا عن الأسباب التي تكمن وراء ذلك، أكد منجي على صحة ذلك وأضاف قائلا: «من الملاحظ أيضا عدم شيوع الإجازات في التراث الخطي العُماني، وأعني الشهادات التي تُمنَح مكتوبةً من خطاطٍ راسخ القَدَم شهير، ليُجيزَ خطاطًا آخر مُجيدًا قطع أشواطا تؤهله ليُجازَ من أقطاب هذا الفن. وأضاف منجي قائلا: «في الحقيقة لاحظنا هذه الظاهرة فقط، لكننا لم نَخلُص بعد لسببٍ نطمئنُ له لتفسيرها. ومن هنا كانت التوصيات الختامية بإجراء مزيد من البحوث المستقبلية».
وتابع منجي قائلا: أشار الكتاب أيضا لواحدة من أهم سمات هوية الخط العُماني، وهي تلك القائمة على حرية النُسّاخ في تعديل الحروف، واستنباط أساليب شخصية منها، وعندما تساءلنا عن الدلالات العميقة لذلك، قدّر منجي أن تكون: «دلالة على صفة السماحة التي تطبع الشخصية العُمانية بطابعٍ عام، قِوامُه تَقَبُّل التنوع والاختلاف، واحترام تَعَدُّد الاجتهادات المشفوعة بالسعي للتحسين والإضافة والابتكار».
ثمّ طرحنا سؤالنا الأخير: فطالما أنّ خط عُمان يحمل هُوية عُمانية واضحة الملامح، فكيف يمكن أن يكون حاضرا في أشكال الاتصال الرسمي كالمراسلات والمنشورات الإعلانية والمواد المطبوعة؟ فأجابنا المنظري قائلا: استطاع المشروع بناء بنك موسّع لأشكال المحارف المستنبطة من المخطوطات العمانية، وسيكون هذا المخزون مفيدا لعمليات التحديث المستمر للخط وإطلاق نسخ جديدة منه مستقبلا. أما بالنسبة لاستخدام الخط، فبكل تأكيد، يمكن للمؤسسات الحكومية والخاصة الحصول على ترخيص لاستخدام الخط من شركة «إبانة» التي تقدمه في شكل محفظة متكاملة متوافقة مع الاستخدامات الرقمية والطباعية المختلفة، إذ يمكن استخدامه على برامج التحرير والتصميم، وعلى الحواسيب والتطبيقات والخوادم والويب، بطريقة تتوافق مع مختلف أنظمة التشغيل.
التَجَذُّرِ في تربة الذاكرة الخطيّة
عندما توجهنا بسؤالنا حول الدوافع الأولى المُحرضة للمغامرة اللافتة التي قاموا بخوضها من أجل ابتكار خط حاسوبي مُستلهم من الإرث الثقافي العُماني، عبر نقل الخط من المخطوطات والوثائق القديمة إلى نمط حداثي يقترب من لغة العصر -في زمن الرقمنة- قدّم لنا سلمان الحجري ثلاثة دوافع مُحفزة للقيام بها، تمثل أولها في المحافظة على التراث الثقافي العُماني، حيثُ يُعد الخط العربي جزءا مهما من التراث الثقافي، فقد ساهم في تشكيل الهوية الثقافية العُمانية لقرون طويلة. ولذلك، فإن ابتكار خط حاسوبي كان فرصة مهمة للحفاظ عليه من جهة، ولإتاحته للجيل القادم من جهة أخرى. الأمر الثاني تمثل في كون الخط النسخي العُماني من أقدم أنواع الخط العربي في عُمان، فقد تميز بخصائص جمالية وفنية فريدة، ولذلك، فإن ابتكار خط حاسوبي مستوحى منه يُعد خطوة مهمة للتعريف به وإبراز جمالياته للعالم. ورأى الحجري أنّ السبب الثالث تمثل في تلبية متطلبات العصر الرقمي، ففي عصر الرقمنة، أصبح استخدام الخطوط الحاسوبية أمرا أساسيا في مختلف المجالات، بما في ذلك الطباعة والنشر والإعلام الرقمي.
ورأى سالم المنظري أنّ المخطوطات العُمانية تمثلُ إرثا ماديا ذا قيمة ثقافية عالية للخط العربي لاحتوائها على رسم مبتكر فريد لعدد من محارف اللغة العربية. فيكاد المطالع لمخطوط عُماني من الوهلة الأولى أن يتعرف على هوية المخطوط إن كان عُمانيا أو غير ذلك؛ وذلك لتشارك المخطوطات العُمانية في عدد من السمات الفنية في الرسم. وقد جرت محاولات فردية سابقا لصناعة خط طباعي مستوحى من رسم المخطوطات العُمانية، إلا أنّه لم يكتب لهذه المحاولات الشيوع. ولذلك فقد أخذت شركة «إتكو» العُمانية على عاتقها مهمة خوض هذه المغامرة ومواجهة تحدياتها المتمثلة في عدم ضمان جودة المنتج النهائي للخط لتباين أشكال الرسم عند النساخ العُمانيين في أحيان كثيرة نظرا للاختلاف الزمني بينهم أو اختلاف الموقع الجغرافي أو غير ذلك.
وقد أكد ياسر منجي على أنّ المشروع قد تأسس على خصيصة فريدة من خصائص التراث الخطي العُماني، ألا وهي خصيصة تفَرُّد نمط الخط النسخي فيه بزُمرة من السِمات الشكلية والأسلوبية، التي تميّزه عما عداه من أنماطٍ نَسخيّة أخرى قد نجدها في سائر الأقطار -وهو ما استَوفَت الدراسة المنشورة في الكتاب شرحه بتَوَسُّعٍ يضيق عنه هذا المقام، ويضاف إلى هذه الزُمرة من السِمات تمَتُّع هذا النمط الخطي بمكانة خاصة في عُمان على مدىً زمنيٍ واسع، لما يتسم به من مقروئيةٍ صريحة، وبساطةٍ في التركيب، تتفق وتتوافق مع صراحة الفطرة التي جُبِلَ عليها العُمانيون، ومع البساطة والتلقائية التي آثروها على امتداد تاريخهم فأُثِرَت عنهم، ونظرًا كذلك لظَفَر الخط النسخي بالنصيب الأوفى من عمق التَجَذُّرِ في تربة الذاكرة الخطيّة العُمانية، بما يُكَرِّسه كمصدرٍ أصيلٍ ورئيسٍ لأية محاولةٍ تروم استنباط تنويعاتٍ معاصرةٍ، تستمد شرعيتها من الهوية الخطية العُمانية الفريدة.
تضافُر جهود وخبراتٍ شتى
«انبثقت جذور الفكرة الأولى للمشروع في مرحلة البحث والتطوير لعدد من مشاريع شركة «إتكو» إبان انطلاقتها في سبتمبر 2020، ولعل الباعث الرئيس للمشروع تجلى في أهداف الشركة التي تسعى لتقديم حلول رقمية تخدم اللغة والثقافة العربية في شكل تطبيقات أو خدمات إلكترونية، وصناعة الخطوط الطباعية تقع في هذا الإطار»، هكذا حدّثنا المنظري عندما تساءلنا عن منشأ الفكرة. فلقد تمّ العمل بشكل تكاملي لبناء خطط العمل العامة والفرعية لمراحل المشروع.
المؤكد أنّ هذا النوع من الدراسات تطلب تآلف علوم مختلفة من أجل تقديم بحث رصين، كما أشار الكتاب لذلك: علم الاجتماع، والعلوم السياسية، والاقتصادية، بمختلف فروعها، وضرورة توفر المتخصصين في الدراسات المذهبيّة، ودراسات المسح الديموغرافي وفروع الأنثروبولوجيا، وغيرها من المجالات لاستقاء مادة علمية رصينة، وكان سؤالنا: كيف يمكن لهذه العلوم المتفرقة أن يجمعها مشروع ومظلة واحدة؟ وحول هذا أجابنا منجي قائلا: يمكن جمعُها ببساطة من خلال ما يُعرَف بالأبحاث البَينِيّة Interdisciplinary Researchs والتي يمكن من خلال منهَجيّاتها وأدواتها البحثية الخاصة -والتي باتت تشهد رواجًا واسعًا في الدوائر الأكاديمية العربية حاليًا- أن تتيح تضافُر جهود وخبراتٍ من مجالات شتى، يَرفِدُ كلٌّ منها الآخر، ويضيف إليه ما يسُدّ الثغرات الناجمة عن إجراء البحوث من زوايا مُوغِلة في التخصص الدقيق.
وأضاف قائلا: وقف وراء تنفيذ هذا المشروع عدد كبير من المشاركين من باحثين وخطاطين ومصممين ومبرمجين، بالإضافة إلى الدعم الرئيسي المقدم من الفريق التجاري للشركة التي تعمل على تسهيل تنفيذ المشروع. «لم يكن من بد أن تتبنى مؤسسة عُمانية هذا المشروع وذلك لارتباطه بالهُوية العُمانية، وللجدوى الثقافية والاقتصادية المتوقعة منه. وقد استغرق المشروع قرابة العام والنصف بدءا من سبتمبر 2020» هذا ما قاله المنظري عند سؤالنا عن تبني المشروع، وأكد سلمان الحجري أنّ جهودا كبيرة بذلت في سبيل إتمامه.
انتخاب قائمة المخطوطات المختارة
أخذنا الفضول للسؤال حول المخطوطات التي تمّ الاستناد إليها؟ وإلى أي زمن يعود أقدمها؟ وما هي المواضيع التي دارت حولها؟ وهل كانت كافية لاستنباط الخط الذي طمحوا إليه، فأجابنا ياسر منجي: «تنوعت مصادر الدراسة؛ إذ لم تعتمد على مرجعية المخطوطات فَحَسب، بل اعتمدت كذلك على عدد كبير من المصادر والمراجع المتخصصة، التي تم إثباتُها في قائمة المصادر الأساسية للدراسة؛ وذلك لضمان شمولية المرجعية، وعدم اقتصارها على مصدرٍ أُحاديّ، وكذلك نظرًا لطبيعة البحث نفسه، التي تجمع بين تخصصات بَينِيَّة شتى؛ إذ تجمع بين مجال الخط العربي، ومجال دراسات النقوش والمخطوطات بصفة عامة، ومجال التصميم، ومجال التحليل الشكلي (المورفولوجي) لِبِنية الحَرف نفسه؛ لذا كان من المهم جدًا الاستهداء بجهود المُبَرِّزين من الباحثين، الذين كان لهم فضل الريادة في دراسة تطور أقلام الخط العربي وتاريخها، ونظريات ظهورها وتَفَرعها، وهو ما حدا بنا لإجراء مقارنات بين نتائج تلك الدراسات، وبخاصة فيما يتعلق بالنقوش العربية القديمة، وعلاقة بعض الخصائص الشكلية لنصوصها بخصائص مُناظِرة في عدد من المخطوطات العُمانية».
وتابع منجي قائلا: «أما على الجانب الوثائقي، فقد كان من بين المصادر المهمة التي مثلت سبيلًا هاديًا للدراسة: «فهرس المخطوطات»، الصادر بسلطنة عُمان عن وزارة التراث القومي والثقافة (سابقا)، (وزارة الثقافة والرياضة والشباب حاليًا)، بالتعاون بين دائرة المخطوطات بوزارة التراث والثقافة (سابقا) (وزارة الثقافة والرياضة والشباب حاليا) وجامعة السلطان قابوس. ويوثق هذا الفهرس لمخطوطات عُمانية تتناول في مادتها مختلف فنون العلم والمعرفة، وتمثل نتاج الفكر العُماني وازدهاره، والتراث المعرفي الذي عاشته البلاد على امتداد عهودها. واسترشادًا بفهرس المخطوطات العُمانية سالف الذكر، تم انتخاب قائمة من مختارات المخطوطات العُمانية -تم ذكرُها تفصيلًا في خاتمة الكتاب- تغطي موضوعات ومجالات معرفية وأدبية وعلمية واسعة، رأى الفريق البحثي أنّها تمثل مصادر قياسية، يمكن من خلالها لأي باحث استخلاص طائفة من السمات والخصائص، الشكلية، والفنية، والأسلوبية، المُمَيّزة لهُوية النُسّاخ العُمانيين. كذلك فقد استُعين بعدد من المصادر والدراسات، التي اشتملت على صور مخطوطات عُمانية مهمة وشهيرة، لإجراء التحليل والمقارنات على المحتويات النَصّيّة لتلك الصور، وقد تم إيراد نماذج لأهم هذه الصور في الكتاب، مع الإشارة لمصادرها بالتفصيل. وأضاف قائلا: «لا يمكن إغفال خبرات الخطاطين المشاركين في المشروع، والمضطلعين بمهمة رسم المحارف، الذين أضافوا اجتهادات قَيّمة في سياق استخلاص عددٍ من السمات الشكلية للحرف النسخي العُماني - وقد تمت الإشارة لذلك في بعض جداول الكتاب - بالإضافة للاستهداء بمجموعة النتائج والمؤشرات القائمة على المقارنات التاريخية التي أفضَت إليها هذه الدراسة».
المثاقفة والانصهار الحضاري
لكن كيف يمكن الجزم بأنّه خط عُماني وثمّة نسيج عام يُؤالف بين الخطوط العربية ويسمها بسمات عامّة؟ هكذا طرحنا السؤال فأجابنا منجي قائلا: هذا صحيح، لا سيما في ظل التثاقُف والتفاعل الحضاري، بين مختلف الأعراق والثقافات التي انصهرت في نسيج المجتمع الإسلامي على مَرّ القرون. من جانبٍ آخر، فمن الشواهد التي يصعب إغفالُها، والتي عَضَّدَتها نتائج التحليل والمقارنات بين عدد من المصادر الواردة تفصيلًا في الكتاب، اصطباغ الخط النسخي داخل عُمان بصبغة مميزة، تختلف عن صبغته الأصلية القياسية، الشائعة في بقية الأقطار العربية، والسائرة على نهج القياسات المعيارية التي قَعّدها له أقطاب الخط العربي عبر العصور.
وقد ظهر من النتائج التي خلصت إليها الدراسة، والتي تم تفصيلها في 22 نتيجة في خاتمة الدراسة، أن العديد من السمات الشكلية والأسلوبية الخطية النَسخية تكاد تكون مجموعةً حصرًا في المخطوطات العُمانية، بل وفي أساليب عدد كبير من الخطاطين العُمانيين المعاصرين، وهو ما ظهر كذلك في نتائج أعمال الخطاطين العُمانيين المشاركين في التنفيذ.
ومما يؤكد خلاصة هذه النتائج أن المصادر الخطية، في المخطوطات والصور المُستَشهَد بها في الكتاب، كلها مصادر عُمانية. وفي هذا السياق لا يجب أن نغفِل الجهد المحمود، في المراجعة والتدقيق الوثائقي – لكلٍ من الدراسة وقائمة المخطوطات المختارة - الذي قام به كلٌ من الباحث العُماني الأستاذ «وليد النبهاني»، منسق تحرير الموسوعة العُمانية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب، وكذلك الباحث العُماني الأستاذ «سلطان الشيباني»، المتخصص في التراث العُماني المخطوط، الذي تولى المراجعة التراثية للدراسة.
السمات الشكليّة والتكوينية والجمالية
وعن السمات الشكليّة والتكوينية والجمالية التي ميزت المخطوط العُماني عن غيره، أجابنا منجي: عدم الحُفول كثيرًا بالتقيُّد بقاعدة «التفريق» (التفريق من مصطلحات الخط العربي، وتكمُن أهميته في حفظ الحروف من مزاحمة بعضها بعضا، وملامسة أول منها للآخر ليكون كل حرف منها مفارقًا للحرف المجاور له). من هنا أيضا يكون الخط العُماني من الخطوط التي يغلب عليها الإطلاق دون التحقيق، (والخطُّ المُطلق هو الذي تداخلت حروفه واتصل بعضها ببعض). (أما الخط «المحقق» فهو ما صحت أشكاله وحروفه على اعتبار أنها مفردة وعلى نسبة فاضلة مع تجنب تزاحم الحروف). من الظواهر التي رصدتها الدراسة أيضًا ظاهرة الجمع بين إثبات الهمزة وإغفالها في المخطوطات العمانية، وكذلك الاستعاضة عن همزة المَدّ بشكل الهمزة العادية. يشترك الخط العُماني كذلك -ولاسيّما في مخطوطات المصاحف- مع نقوش الخط المكي في خاصية «البسط» (وهو الامتداد الأفقي للحروف ويعنى مد أجزاء الحروف الأفقية، مثل بسط الياء والسين والصاد والكاف). تلك فقط أربع سمات تمثل إشارات لما تم حصرُه في النتائج التي أوفَت على العشرين كما ذُكِرَ قبلًا.
مخطوط يعود للقرن الثامن الهجري
المنبع الذي تمّ الاتكاء عليه في الكتاب هو «المخطوطات» وذلك لما تتمتعُ به من موثوقية، ولما تختزنُ مادتها التطورات التاريخية والثقافية والفنية التي مرّت بها الكتابة وأساليبها.. الأمر الذي دفعنا للسؤال إلى أي مدى ساعد فحص المخطوطات على المضي قُدما في صنع منهجية الدراسة والانفتاح على قراءات متعددة للوصول إلى نتائج حقيقية، فأجابنا الحجري: «كان من الضروري إجراء دراسة علمية حول هذا الخط، تتناول كافة جوانبه التاريخية والثقافية والفنية. وقد تم إجراء هذه الدراسة من قبل فريق من الباحثين العُمانيين، الذين اعتمدوا في دراستهم على مجموعة من المخطوطات العُمانية القديمة وعلى منهجية علمية شاملة، تضمنت الخطوات التالية: التعريف بالخط العربي العُماني: تناول الباحثون في البداية تعريف الخط العربي العُماني، ونشأته، وتطوره، وخصائصه الفنية. دراسة المخطوطات العُمانية: قام الباحثون بدراسة مجموعة من المخطوطات العُمانية القديمة، التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة، من القرن الثامن الهجري وحتى نهاية القرن الرابع عشر الهجري. تحليل سمات الخط العربي العُماني: قام الباحثون بتحليل سمات الخط العربي العُماني، من حيث الشكل والتكوين والنسب والجماليات.
يستبطن الذات ويغوص في أعماقها
ظفر الخط النسخي بالنصيب الأوفى في المخطوطات العُمانية، وهنالك إشارات واضحة لتفَرُّد الخط النسخيِّ من بين سائر الخطوط العُمانية، لما يتسم به من مقروئيةٍ صريحة، وبساطةٍ في التركيب، وعليه تساءلنا : كيف تمكنتم من نقل هذه السمات إلى الخط الحاسوبي، فأجابنا الحجري: «تم ذلك بعد الاستعانة بمجموعة من الخطاطين المبدعين في الخط النسخي العُماني ممن يتقنون كتابة خط النسخ، بطريقة معتمدة على تقعيد الخط، ومنعكسا ذلك على ما تم الوصول له في مرحلة الجمع والتحليل، ومن ثم الاستفادة منها في ابتكار محارف عُمانية مميزة لها سمات الخطوط الكتابية العُمانية في المخطوطات». وأضاف المنظري قائلا: «تبع ذلك مرحلة رسم المحارف على برامج حاسوبية بالاعتماد على خبرات مصممين مبدعين لديهم اهتمام بالخط العربي، وبإشراف خبراء دوليين في صناعة الخطوط العربية. ولم تقف شخصية خط عُمان عند الخط العربي، بل شمل المشروع كذلك صناعة خط لاتيني منطلق من هوية الخط العربي؛ ولذا فإن خط عمان يدعم الكتابة بعدد من اللغات التي تعتمد الأبجدية العربية مثل الفارسية والأوردو، بجانب تلك التي تعتمد الأبجدية اللاتينية مثل اللغات الأوروبية. فكان أن طرحتُ سؤالا حول إمكانية وجود علاقة بين الخط والإنسان، فثمّة إشارة صريحة في الكتاب إلى أنّ بساطة الخط قد لا تنفصل عن الفطرة التي جُبِلَ عليها العمانيون، فأجاب منجي: «دون شك، فالخط العربي من مجالات الفنون التي تلعب فيها التركيبة الشخصية والنفسية لكل خطاط دورًا فارقًا في وَسمِ مُنتَجِه الخطي بسِماتٍ فارقة، فضلًا عن كونه من الفنون التي تقترِن فيها الممارسة الفنية بالتجربة الوجدانية اقترانًا وثيقًا، وهو أمرٌ يعلمه الخطاطون الراسخون جيدًا. فالخطاط في أثناء عمله يكاد يختبر حالةً من استبطان الذات والغوص في أعماقها. من هنا كانت إمكانية ظهور العلاقة بين التكوين الذاتي والاجتماعي للفنان الخطاط في أسلوبه» وأردف قائلا: « لقد استَوفى بحث تجَلّيات هذا النوع من الخبرات الوجدانية/ الفنية عددٌ كبير من ثقاة الباحثين الشرقيين والغربيين؛ أكتفي منهم بالفنان والباحث العراقي الراسخ الشهير «شاكر حسن آل سعيد» (1925 - 2004)، في أكثر من مؤَلَّف من مؤلَّفاته، وكذلك في دراسات مهمة للفنان والأكاديمي المصري الراحل «أحمد ماهر رائف» (1926 - 1999).
الخطوط في صيرورة التطور
من الواضح أنّ فريق العمل قد تتبع هوية الخط العُماني في ضوء المراحل التاريخية لتطور أقلام الخط العربي، ولذا فإنّ أول ما خطر بذهننا هو التساؤل حول هذا الخط إن كان متطورا أم جامدا، وأيضا حول إن كانت هنالك أسباب مؤثرة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية تركت بصمتها عليه، وحول هذا حدثنا منجي قائلا: «الخطوط العربية، بصفةٍ عامة، من أكثر الخطوط تطورًا عبر التاريخ، وتشهد بذلك كافة التنويعات والأنماط والأساليب المبتكرة، التي تَوالى ظهورها على امتداد التاريخ العربي، من أقدم عهوده وحتى الآن». وأضاف: «في تقديري أن أي تطورٍ فني - لا في مجال الخط فحَسب، بل وفي سائر الفنون على اختلافها واتساع مجالاتها - لا ينفَصِم عن المؤثرات التي تَموجُ بها الحواضر التي يطفُرُ فيها عبر التاريخ، ومنها الاقتصادية والسياسية كما أسلَفتُم. ومن المعلوم لدى مؤرخي الفنون ونُقّادها مدى عُمق أثر تلك المؤثرات على تطور مجالات الفنون وأساليبها ومدارسها وطُرُزها، وهو ما يفسر اشتمال دراسات تاريخ الفنون على مباحث مُسهِبة عن هذه المؤثرات».
عقبنا متسائلين: هل سيكون هذا الخط نهائيا أم أنه قابل للتعديل والتحسين بحسب ما تتيح المعارف الجديدة؟، فأجابنا الحجري: «التطوير والتحسين صيرورة الإنسان وجميع منتجاته الإبداعية لها نفس هذه الخاصية. إن التراكم المعرفي والانفجار المعلوماتي قد يفرض صيغا جديدة للتعاطي مع هذا الخط المبتكر، لذلك فإن عملية التطوير مستمرة بكل تأكيد».
انتخاب أشكال من عصور مختلفة
وعن الصعوبات التي كانت حجر عثرة أمام المشروع أجاب المنظري: « اكتنف العمل في المشروع تحديات كثيرة في جميع مراحله، ولكن بتوفيق الله ثم بالكفاءة العالية التي تحلى بها فريق العمل أمكن تجاوزها. ولعل من أصعب تلك التحديات هو التوافق على رأي واحد في عمل فني إبداعي كطبيعة هذا العمل. ولذلك فلم يكن السهل انتخاب أشكال حروف بعينها دون أشكال أخرى رغم وجود معايير ضابطة في الاختيار حددتها الدراسة العلمية، ولكن لكثرة الأشكال أحيانا لرسم الحرف الواحد وتقاربها الشديد يتشكل التحدي في اختيار الرسم الأنسب. ويتعلق بهذا التحدي تحدٍّ آخر لا يقل أهمية عنه وهو محاولة إيجاد انسجام وتوافق في رسم جميع المحارف في المنتج النهائي للخط إذا ما علمنا أن هذه المحارف استُلّت من كتابات خطاطين مختلفين وفي عصور زمنية مختلفة.
تخدم الاقتصاد والسياحة والثقافة
ولعلنا نتساءل: في عصرنا الحاضر تنشطُ آراء كثيرة حول ما يسمى باقتصاد الثقافة، ولذا تساءلنا حول تحول الثيمات الأساسية للخط من المخطوطات القديمة إلى انفتاح رقمي عصري، كيف يمكن أن تتجلى هذه الجهود في أبعاد اقتصادية، لا سيما وأنّ مشاريع من هذا النوع مُكلفة، أجابنا الحجري: «يمكن للخط العربي العُماني أن يُساهم في الاقتصاد العُماني من خلال عدّة أبعاد، منها: اعتماده
كخط أساسي أو ثانوي في المؤسسات الرسمية في سلطنة عمان باعتباره يمثل هوية عمانية خالصة، ويمكن استخدامه في التسويق والبيع، بحيث يمكن استخدام الخط العربي العُماني في الإعلانات والمطبوعات والمنتجات الأخرى، مما يجذب الزبائن ويزيد المبيعات، ويمكن أن يغدو نافعا في المواقع السياحية والتذكارات والمنتجات الأخرى، مما يروج لسلطنة عُمان ويجذب السياح، وكذلك هو الأمر مع التنمية الثقافية، في التعليم والتدريب والبرامج الثقافية الأخرى، مما يعزز الثقافة العمانية.
ويبدو الحجري متفائلا وهو يقول: من المؤكد أنّ مشاريع ابتكار خطوط حاسوبية تطلب استثمارات مالية كبيرة، لكنها يمكن أيضا أن تحقق مردودا اقتصاديا كبيرا من خلال القنوات التي ذكرتها سابقا. كما يمكن أن تساهم في خلق فرص عمل جديدة وتعزيز الهوية الثقافية العمانية.
توثيق الأساليب والحرية !
من بين الظواهر اللافتة التي رصدها الكتاب: ظاهرة عدم اهتمام النُسّاخ العُمانيين بتوثيق أساليبهم الشخصية، أو تَتَبُّع امتدادها واستمرارها التاريخي، وعندما تساءلنا عن الأسباب التي تكمن وراء ذلك، أكد منجي على صحة ذلك وأضاف قائلا: «من الملاحظ أيضا عدم شيوع الإجازات في التراث الخطي العُماني، وأعني الشهادات التي تُمنَح مكتوبةً من خطاطٍ راسخ القَدَم شهير، ليُجيزَ خطاطًا آخر مُجيدًا قطع أشواطا تؤهله ليُجازَ من أقطاب هذا الفن. وأضاف منجي قائلا: «في الحقيقة لاحظنا هذه الظاهرة فقط، لكننا لم نَخلُص بعد لسببٍ نطمئنُ له لتفسيرها. ومن هنا كانت التوصيات الختامية بإجراء مزيد من البحوث المستقبلية».
وتابع منجي قائلا: أشار الكتاب أيضا لواحدة من أهم سمات هوية الخط العُماني، وهي تلك القائمة على حرية النُسّاخ في تعديل الحروف، واستنباط أساليب شخصية منها، وعندما تساءلنا عن الدلالات العميقة لذلك، قدّر منجي أن تكون: «دلالة على صفة السماحة التي تطبع الشخصية العُمانية بطابعٍ عام، قِوامُه تَقَبُّل التنوع والاختلاف، واحترام تَعَدُّد الاجتهادات المشفوعة بالسعي للتحسين والإضافة والابتكار».
ثمّ طرحنا سؤالنا الأخير: فطالما أنّ خط عُمان يحمل هُوية عُمانية واضحة الملامح، فكيف يمكن أن يكون حاضرا في أشكال الاتصال الرسمي كالمراسلات والمنشورات الإعلانية والمواد المطبوعة؟ فأجابنا المنظري قائلا: استطاع المشروع بناء بنك موسّع لأشكال المحارف المستنبطة من المخطوطات العمانية، وسيكون هذا المخزون مفيدا لعمليات التحديث المستمر للخط وإطلاق نسخ جديدة منه مستقبلا. أما بالنسبة لاستخدام الخط، فبكل تأكيد، يمكن للمؤسسات الحكومية والخاصة الحصول على ترخيص لاستخدام الخط من شركة «إبانة» التي تقدمه في شكل محفظة متكاملة متوافقة مع الاستخدامات الرقمية والطباعية المختلفة، إذ يمكن استخدامه على برامج التحرير والتصميم، وعلى الحواسيب والتطبيقات والخوادم والويب، بطريقة تتوافق مع مختلف أنظمة التشغيل.