«كيف يمكنك أن تنزع نفسك من سيلان الحياة اليومية إلى الحياة الباطنية؟ كيف يُمكنك الاختفاء؟»، هكذا طُرح السؤال في إحدى أمسيات السهر، فتباينت الآراء، كان هنالك من يختفي بإغلاق هاتفه أو بالسفر أو حتى بإغلاق عينيه عن ضجيج الحياة. بينما كان جوابي: الاتصال بشيء حميمي يربطني بطفولتي، الغوص لما يقرب الدقيقة في «الجباة» الصافية، إبقاء الرأس تحت ظلمة بطانية بنية للتحدث إلى شخصيات مُتخيلة، الحديث الخافت فوق سطح البيت مع النخلات المشرئبة، النهوض الباكر بعد ليال ممطرة لنفض أغصان الشجر كمن ينفض ثوبا مبلولا.. كانت هذه طُرقي الطفولية للاختفاء العذب وللتخفف من ثقل الذات، ولا أدري إن كان بحوزتنا الآن أساليب لافتة للتواري عن ذواتنا!

لنا أن نتصور أنّ الانسحاب -أحيانا- هو وسيلة للحفاظ على الذات، تلك الطريقة الغامضة في الانحدار من مرتبة «الشخص إلى مرتبة القناع، إبطاء تدفق الأفكار إلى الامحاء التام، أن نعود لا أحد!»

هكذا يُفزعنا دافيد لوبروتون في كتابه «اختفاء الذات عن نفسها»، ترجمة: زكية البدور، دار صفحة سبعة، إذ يحدثُ كل هذا من أجل تسطيح سُمك الحقيقة التي لا نقدر على مسايرة تدفقها المرير، كما هو الحال مع تصاعد وتيرة الأحداث في فلسطين الآن. فهنالك من سيراهنُ على اختفائك واعتيادك وتلاشيك من مركز الصورة، وهنالك من سينتظرك أن تُحدث تغييرا -وإن بدا لك ضئيلا- عبر التضامن المستمر!

لكن عندما نُعاني من صعوبة في القدرة على تغيير الأشياء من حولنا فإننا نميل إلى الاختفاء، الاختفاء بالذهاب إلى بواطننا أو بالذهاب إلى الخارج دون ترك عناوين تدل علينا!

تُلقي التوترات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بثقلها على المرء في مواجهات شرسة مع الحياة، كمن يواجه شراسة الغابات الموحشة، «فلم يعد الإنسان اليوم محميا بإطار سياسي يثبتُ فيه نفسه ضمن نضال مشترك، كما أنّه لم يعد محميا بثقافة مصير يقتسمه مع آخرين»، لقد تُرك ليهنأ بفرديته!

هذا بالضرورة لا يعني اختفاء الذات الفردية من المشهد الكبير، بل محاولة ألا نكون مجرد ببغاوات للإعلام ووسائل السوشال ميديا، تلك التي تُمارس حضورها العبثي دون فهم أو وعي، عبر تقمص هش لرأي الآخر، لترديد سردية جاهزة. يحتاجُ أحدنا للتنحي جانبا -كما يقول لوبروتون- عندما يشعر بأنّه مُعرض للسحق بين الجموع، إذ يمكن لأحدنا في اختفائه أن يُبصر تعقيدات العالم وتناقضاته، «فلا يعرف الفرد إلا طبقة من الوعي لا تنيرُ إلا جزءا مما هو عليه».

من المؤكد أنّ ظروف عيشنا الآن أفضل من ظروف من سبقونا، فيما لو قسنا الأمر بالخدمات التي يُقدمها العالم لنا، إلا أننا من جهة أخرى مُكبلون بمشاق من نوع آخر، تلك التي تكمن في ضرورة أن نُعطي «قيمة» ما لوجودنا ولمواقفنا مما يعتمل في الحياة، فليس من السهل أن نُهيئ ذواتنا لمعارك المنافسة واحتدام الآراء كل يوم! إذ لم تعد مهمتنا في الحياة اليوم مُقتصرة على «المجيء ومن ثمّ النمو، يتوجبُ على كل واحد منا أن يبني نفسه على الدوام».

تدفق الأحداث السائلة على هذا النحو المحموم، يمنعُ فرصة تكوين علاقات عميقة بالأشياء والأشخاص على حد سواء، يدفع بنا إلى ولوج أزمنة وجغرافيا ومكابدة ظروف وأهوال مضغوطة في كبسولة إخبارية! تتفجر في نسيج حياتنا كما لم يحدث يوما لبشر عاشوا في أزمنة سابقة لنا، الأمر الذي يجعلنا أكثر ميلا للتواري!

في الأوقات الأكثر مرارة نختفي في ذكرياتنا التي خُزنت على مهل، ولذا من الطبيعي أن نسأل عن حظ أبنائنا من الذكريات، في زمنِ توحُشِ وسائل الاتصال ودخولها إلى أدق تفاصيل حياتنا. يؤكد لوبروتون أنّ «الفرد الآن متصل أكثر منه مرتبط»، فنحن في ثورة اتصال عارمة لكن الالتقاء بالآخرين في تناقص مطرد!

ولذا فالعالم في ذواتنا وفي خارجها لا وجود له إلا من خلال ما نُكسبه نحن إياه من دلالات، ففي اللحظة التي نُعلي فيها من قيمة الفردية المتحررة من قيود الجماعة، غالبا ما نصبحُ فريسة الارتياب مخافة ألا نستطيع تقديم «ذواتنا» بوصفها المتكأ الآمن الوحيد في ظل تراخي صورة الجماعة ونوازعها! ولذا يغدو السعي للانفلات من الذات ولو لوقت وجيز حماية لها.

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى