(1)

أكتب عن الاستعارات مرة أخرى. فكرة تكاد تكون مضادة لما كتبت الأسبوع الماضي. هذه المرة ليس عن الاستعارات البصرية بل اللغوية. حاولت الأسبوع الماضي أن أُجادل بأن استخدام استعارة الهولوكوست لوصف ما يحدث في غزة على يد الاحتلال، لا يخدم الخطاب الفلسطيني، وهو يأخذ من تاريخ الصراع خصوصيته.

يدور جدل حامي هذه الأيام إثر منح ماشا غيسين جائزة حنا أرندت للفكر السياسي. تم -على إثر الاحتجاجات التي حصلت عشية التكريم- إلغاء الحفل، والعشاء الملحق، وعوضا عن الاحتفال في العموم مع 400 شخص، ينتهي الأمر بهم للاحتفال مع 14 شخصًا في مكان خاص. ليأتي تعليق غيسين كالآتي: ما كانت حنا أرندت نفسها لتحصل على جائزة حنا أرندت في ألمانيا اليوم.

ماشا غيسين هم من الأمريكان الروس، المختصين بالصحافة والتأليف والترجمة، والمنحدرين من عائلة يهودية ناجية من المحرقة. وقد نشروا على «The New Yorker» في التاسع من ديسمبر مقالًا يُمكن ترجمة عنوانه للآتي: «في ظل الهولوكوست: كيف تحجب سياسة الذاكرة في أوروبا ما نراه في إسرائيل وغزة اليوم».

حسب رأي غيسين، لطالما أُستخدم التعبير «سجن مفتوح» لوصف غزة (ما قبل 7 أكتوبر)، وإذا فكرتُ في الموضوع للحظة، أُدرك أنني لا أعرف ما يعنيه السجن المفتوح. الاستعارات والتشبيهات عادة ما تَستثمر صورة يُمكن للواحد تخيلها. عندما أُفكر بغزة تحت الحصار فهي مثل غيتو، أي مثل الأحياء اليهودية في ألمانيا النازية. بالطبع ثمة فروق -ليس هذا ما أقوله- إنما هذه هي الاستعارة الأقرب لما عليه غزة، أي مكان معزول، كثيف السكان، محاط بمن يملكون السلاح، لكنه ليس محكوما من قِبلهم، بل من قِبل مجموعة دُعمت -على نحو ما- من بناة السور. سبب أني أجد استخدام كلمة «غيتو» مهم هنا، هو أنه يُعطينا اللغة للتعبير عما يحدث. وحتى لا يصبح الوعد الذي قطعته الإنسانية «never again» أجوفَ، علينا أن نمتلك الأدوات لتمييزه عندما نراه، وأنا أعتقد أن شيئا كهذا يحدث في غزة.

(2)

الحياة متوقفة. هذا ما أشعر به، ما أزال أشعر به. ثمة ركود وانتظار، وهذا كل شيء. أمر يذكر ببدايات الجائحة قبل أعوام. الفارق أن الموت حينها كان موزعا بالتساوي (تقريبا) بين الأمم، وأنه كان -على عكس هذه الحرب الدموية- يوحدنا كبشر. أراهن أن كثيرين مثلي. أحاول أن أعود لمشاريعي، لكنني أشعر بانفصال عنها، وكأنها تنتمي لحياة أخرى. ليس الأمر وكأن مقاطعة الحياة شيء أختاره، ولكنه شيء يحدث لي رغما عني. يزيد الطين بلة أنني في مرحلة أقرر فيها مسار حياتي، أمر يتطلب نوعًا خاصًا من الحماسة والإيمان والقدرة على تصور القادم.

أعرف عن نفسي أنني شجاعة، عنيدة، ومندفعة بعض الشيء. إلا أن كل هذا غادرني. لا أدري إن كانت الطريقة الألمانية في حساب الأشياء بتأنِ أثرت عليّ بخلاف ما أظن. تائهة على نحو أتمنى فيه أن تُفرض علي الأشياء فرضًا. شيء ما يقول لي أن رحلتي في ألمانيا على وشك أن تنتهي. خصوصا وأنني أرى المناخ السياسي يتجه نحو مُعاداة الأجانب (القادمين من الشرق الأوسط تحديدا). إذا كُنّا سابقا ومع الادعاءات بمحاولة إدماج المهاجرين، ومنح فرص لهم، إذا كانت في ظروف كتلك «ما مترقعة»، فكيف لنا أن نأمل بشيء في مناخ طارد.

لا أجد في نفسي القوة لإجراء المقابلات. أجلّتُ الأخيرة، ثم طلبتُ أن يُسحب طلبي. كيف لي أن أنخرط في بحوث الذكاء الاصطناعي وأخلاقياته، إن لم يكن بإمكاني أن أُعالج المسألة الأهم اليوم، ألا وهي كيف تُستغل هذه الأدوات في إبادة الآلاف، وكيف تنحاز الخوارزميات ضد الضحايا، كاتمة شهاداتهم، وواقفة عقبة أمام التضامن معهم.

رؤية الظلم الذي يتعرض له الآلاف تُفرغني من الطاقة. أرى كثيرين مُحفزين ليُغيروا، ليُساهموا، ولا أعرف سبيلا لتقليدهم. أتمنى لو أني جزء من شيء آخر لا علاقة له بالتفكير والكتابة. لو أني أعمل في مخبز مثلا. لا يُوقف المخابز شيء (عدا التدمير في الحروب طبعا، أو قطع الطحين والخميرة والملح عنها). أعجن بيدي طول اليوم، حبذا بسماعة على رأسي، وموسيقى تأخذ اليوم برفق إلى نهايته.

أن نفعل شيئا ذا معنى. فكرة كهذه يُمكنها أن تُسمم حياتك إن كنتْ مخلصا لها. تُحملك مسؤولية لا يكون بوسعك دائما الوفاء بها. الأسهل للواحد إذا لم يشعر أنه ذو نفع، أن ينسحب. نحتاج للشعور أننا نافعون. إن جهدنا القليل يصب في مجرى التغيير الذي نتخيله. لكن حين ترى ألّا شيء يتغير، وأن القوي ينجح في فعل ما خطط له، ماذا يكون منك؟

أظن أن هذا هو سبب «الركود» في المجالات الفنية العربية في الفترة الأخيرة. وكأن الجميع يشعرون بلا معنى أي فعل. يعز عليهم أن يستخدموا مفردة مثل المقاومة لوصف أغنية أو نص أو لوحة، وكأنهم يلوثونها لنظافة ما عليهم من لباس، ولنضارة ما على أجسادهم من بشرة.