سيظل استشهاد المصور الصحفي لقناة الجزيرة سامر أبو دقة وإصابة زميله المراسل الكبير وائل الدحدوح علامة فارقة في تاريخ الصحافة والإعلام الدوليين، ليس فقط لأنهما كانا ضحية قصف صاروخي متعمد لجيش العدوان الهمجي الإسرائيلي في جريمة حرب كاملة ولكن لأنها -وهذا هو الأهم- تأتي في سياق عربي ودولي. هذا السياق يجعلني أقول -بثقة ٤٠ عاما من العمل في هذه الصناعة الشاقة- إنها تمثل إضافة عربية تاريخية إلى المهنة الأكثر تأثيرا في الوعي البشري منذ 3 قرون.

حسبت خطة العدوان الأمريكي - الإسرائيلي في هذا الصراع -الذي فجره هجوم المقاومة المظفر في طوفان الأقصى- كل العوامل العسكرية وردود الفعل الإقليمية والدولية واتخذت كل إجراءات الترهيب والترغيب لمنع الأطراف كالصين وروسيا وإيران والتحالف الإقليمي المرتبط بها وكذلك باقي الدول العربية والإسلامية من اتخاذ خطوات من شأنها أن تمنع إسرائيل من أن تأخذ كل الوقت وكل السلاح المحرم لعملية الإبادة الجماعية للشعب في غزة وتصفية المقاومة التي باتت العائق الوحيد أمام خطط التطبيع والهيمنة الأمريكية الإسرائيلية على المنطقة، لكنها لم تحسب حساب الصحافة الفلسطينية ولا حساب الصحفيين الفلسطينيين وشجاعتهم الشخصية والمهنية وقدراتهم الإعلامية والصحفية العالية ولا حسبت حتى صحافة المواطن التي يوفرها هاتف جوال ذكي يصور وينقل الصورة في ثانية واحدة.

كانت أمريكا وإسرائيل قد اطمأنتا إلا أنهما حجبتا الحقيقة وفرضتا سرديتهما للحرب وقامتا كالعادة بتضليل الرأي العام الغربي؛ فقد منعت سلطات الاحتلال الإسرائيلي المراسلين الأجانب المستقلين من الوصول إلى غزة بحجة أنها لا تضمن سلامتهم وقامت بقطع الاتصالات تماما لخمس مرات عن القطاع لمنع أي تواصل مع العالم عبر الإنترنت.

ولم يبق في الميدان سوى ما تسميهم الصحافة الغربية في نوع من أنواع تقليل أهميتهم «الصحفيين المحليين».. هؤلاء الصحفيون الفلسطينيون قلبوا مسار الحرب رأسا على عقب، فبسبب شجاعتهم ومهنيتهم ومعرفتهم كأهل مكة بواقع بلدتهم جغرافيا وسوسيولوجيا وفروا للمنصات الدولية والإقليمية والمحلية التي يعملون بها الصور الحقيقية لحجم العدوان الأمريكي -الإسرائيلي وعملية الإبادة الجماعية والاستهداف الممنهج للمدارس والمستشفيات والمخابز ومحطات وخزانات المياه ومصادر الكهرباء، فجعلت غزة مقبرة جماعية ومكانا غير قابل للحياة لفرض التهجير القسري على شعب خيب أملهم وأفصح بكل- وسيلة تتجاوز الطاقة البشرية وسير تاريخ الأبطال الأسطوريين- انه سيموت دون أرضه ودون قضيته.

هذه الصور والشهادات التي نقلتها كاميرا سامر مع زملائه المصورين وحكتها سردية شاهد العيان الصادق لوائل وزملائه من المراسلين لم تهزم فقط السردية الإسرائيلية لأول مرة منذ ٧٥ سنة من قيام الكيان الغاصب بل فجرت عنصر الضغط الوحيد الذي له قيمة في هذا الصراع والذي لم يحسب حسابه الموساد والـ سي آي آيه، ألا وهو انفجار المظاهرات الشعبية في كل الدول الغربية المليونية بشكل شبه يومي ليس فقط ضد العدوان الإسرائيلي ولكن ضد انحياز حكوماتهم الأعمى لإسرائيل ولطخ أموالهم كمواطنين ودافعي ضرائب بدماء عشرين ألف شهيد مدني وخمسين ألف مصاب أغلبهم من النساء والأطفال.

يقول محلل إسرائيلي - بكل تبجح ـ إن بايدن لو قام في يوم من الأيام بالضغط على إسرائيل لوقف حربها، فلن يكون ذلك بسبب خوفه من ضغوط عربية أو إسلامية ولكن بسبب تأثير المعارضة الشعبية الداخلية الأمريكية للحرب التي قد تحطم آماله في الفوز بفترة حكم ثانية في البيت الأبيض. هذه المعارضة للحرب يقدرها محللون أمريكيون بنسبة ٧٠٪ من الأمريكيين.

لم يستدع إلى قلب الصراع والأزمة ذلك العامل الشعبي العالمي المهم في ظل التقيد الصيني الروسي ومحور الممانعة الإقليمي بعدم تجاوز الخط الأحمر الذي فرضته واشنطن منذ ٨ أكتوبر (بعدم توسيع نطاق الحرب) إلا شجاعة، مهنية أبو دقة والدحدوح وأنس الشريف ومئات من الصحفيين الفلسطينيين استشهد منهم ٩٠ صحفيا في أكبر عدد من الصحفيين يقتل في أي صراع عسكري عالمي أو محلي بما في ذلك الحرب العالمية الثانية.

هذا الأداء المتفوق الدقيق وغير الدعائي مهنيا والشجاع للصحفيين الفلسطينيين العرب بدرجة لم يستطع أي صحفي غربي على مدى ثلاثة قرون من المهنة أن يقدمها هي إضافة تسجل وتقاليدها وتراكم خبرات لم تتوفر لصحفيين آخرين في العالم. خبرة كتبت بدمائهم ودماء أسرهم وفلذات أكبادهم سيتم تدريسها في المستقبل والتدريب على أساليبها وقدرتها على تجاوز كل العقبات لكل مراسل في الميدان ولكل مراسل حربي. أي أنه ربما بات على كل مؤسسة إعلامية دولية تريد أن تتأكد من امتلاك مراسليها الميدانيين لخبرات حقيقية أن تبدأ فورا وبعد الحرب في الاستعانة بالصحفيين المحليين من العرب في فلسطين لتدريب الصحفيين الدوليين على معنى أن تكون مراسلا شجاعا ومهنيا في منطقة نزاع مسلح.

لم تعد مهنية وتضحيات الصحفيين الفلسطينيين في حرب غزة الجارية الاعتبار لصحافة الميدان وهي أصل وعمود الصحافة الفقري فحسب ولكن استردت شرف ومهنة صناعة الأخبار العربية بعد أن تلوث هذا الشرف في العقد الأخير بانهيار شبه كامل في هذه الصناعة تحت وطأة الصراعات العربية العربية في الخليج والمشرق والمغرب العربي وتحولت محطات التلفزة ومواقع الأخبار والصحف والإذاعات إلى أدوات محلية مباشرة للسياسات الخارجية المتصارعة تنشر الدعاية بدلا من الحقيقة وتتبادل التهم برعاية الإرهاب. جاء أداء سامر ووائل ووليد وجيفارا وأحمد وهبة.. قل ما شئت من أسماء صحفيي فلسطين ليعيد شرف المهنة وقيمة صناعة الأخبار باعتبارها المهنة الأكثر طلبا من الجمهور والأكثر أخلاقية لدرجة أن يقدم منتسبوها لأدائها وهم يعلمون أنهم مستعدون بشكل متعمد «من أكثر جيش أخلاقي»!! في العالم بالقتل العاجل أو البطيء. بمنع وصول الإسعاف إليك خمس ساعات وأنت تنزف دما حتى تستشهد بطلا كمقاومي شعبك يا سامر الحبيب، جاء أداؤهم ليكشف ضحالة إعلام التوك شو والفضائح والتسلية التي تستهدف تغييب الوعي.

ويتيح نافذة لخروج مئات من الشخصيات التي اقتحمت مجال الإعلام تفتقر إلى المصداقية والحد الأدنى من التقاليد والقدرات المهنية، فنفرت الناس من الصحافة التقليدية ودفعتهم بكل قوة لصحافة الأون لاين والمواطن. استعدنا بوجوه فلسطين تقاليد أن يكون المراسل والمذيع صديقا مألوفا ومحبوبا ومصدقا من المشاهد والجمهور وكأنه فرد من العائلة.

حسين عبد الغني إعلامي وكاتب مصري