لمرة الثالثة على التوالي، ينعقد مؤتمر الرياض الدولي للفلسفة تحت عنوان (القيم العابرة للثقافات والتحديات الأخلاقية في العصر التواصلي) وهو مؤتمر تنظمه سنويًا جمعية الفلسفة في السعودية برئاسة الدكتور عبدالله المطيري، حيث شهدت هذه الدورة انضمام الجمعية إلى الاتحاد الدولي للجمعيات الفلسفية (FLSP).

شهد المؤتمر خلال أيامه الثلاثة إقبالًا كبيرًا من رواد من مختلف الفئات شبابًا وطلابًا، نساء ورجالًا، وكان واضحًا أن ثمة احتفاء بالفلسفة (التي غابت عن مناهج التعليم السعودي في كافة مراحله) بدا أمرًا محفزًا للجميع، كما أن الاهتمام بالفلسفة اليوم في سياق الانفتاح الذي تشهده المملكة يعتبر ظاهرة إيجابية للكثير من الأسباب التي تأتي في مقدمتها؛ رغبة حثيثة في التفكير بطرائق وأنماط غير تقليدية من ناحية، ومختلفة من ناحية أخرى، وهذا ما تعد به الفلسفة من حيث كونها اشتغالًا للعقل على العقل.

كانت النقاشات تفيض بالحماس والجدل بين رواد المؤتمر والباحثين الضيوف الذين شاركوا في هذه الدورة من مختلف الدول العربية والأجنبية.

لطالما ارتبطت الفلسفة بالقدرة على الاختلاف في البحث عن الحقيقة، وبمحاولة الاكتشاف الدائم بطرق لامتناهية للتفكير في الوجود والإنسان، وستظل كذلك بالرغم من التحول الكبير الذي ضرب هويتها اليوم، حيث أصبحت الفلسفة أكثر ارتباطًا بفلسفة العلوم منها بمطلق التفكير العقلي في محض الوجود.

إن الشغف بالفلسفة الذي يبدو اليوم ملاحظًا في بعض اتجاهات الشباب في السعودية لا يخلو من تلك الرغبة التي تعكس اهتمامًا بما كان مغيبًا لسنوات طويلة من درس المجال العام، وإن كان الاطلاع على كتب الفلسفة وتياراتها العالمية أمرًا متاحًا بطبيعة الحال.

هناك حاجة للتفكير المختلف، ولقد كان من أحد فوائد وسائط التواصل الاجتماعي إطلاق نقاشات متسائلة في أوساط الشباب بالسعودية على منصة تويتر، وكان لهذه النقاشات والمساءلات الحرة التي لا تسلم عفوًا لكل رأي؛ مساهمات كبيرة في بدايات أفول المرحلة التي سميت بمرحلة الصحوة في المملكة العربية السعودية.

لا يحتاج الشروع في نقاش قضايا الفلسفة بالمملكة العربية السعودية إلى اشتراطات قد يتصورها بعض الباحثين العرب؛ كالبيئات المناسبة ومحيط الدرس المنهجي، وغير ذلك من الاشتراطات، متى ما أدركنا أن النقاش الفلسفي بما هو نظر في طرائق وعي الوجود واختبار هوية الحياة ومعرفتها يمكنه أن يلتقط الفرد من أي مكان هو فيه.

لهذا، فيما سيبدو البعض مستغربًا من هذا النشاط الفلسفي في السعودية وهو يضع تلك الاشتراطات قد يتفاجأ بأن تصوره ذاك إنما هو ضرب من المقررات السابقة التي قد لا تعني أحدًا اليوم في المملكة العربية السعودية.

تنشط الفلسفة اليوم في المملكة العربية السعودية وهي تتلمس خطى للتفاعل مع العالم، وتختبر كل يوم درسًا جديدًا في سياق الانفتاح الكبير الذي تشهده السعودية، وهو سياق يعني الكثير جدًا للسعوديين.

إن إحدى أهم مشكلات الوعي تكمن في التمثيلات المضللة التي تحكم تصوراتنا بمقررات سابقة عن بعضنا البعض في هذه المنطقة.

لقد بدا البعض متعجبًا من مؤتمر للفلسفة في المملكة العربية السعودية ومتسائلا عن سياقات لا علاقة لها بمطلق عمل التفلسف، أيًا كان مكانه، كما تساءلت قناة عربية مع ضيف لها من باريس عن طبيعة ومناسبة مؤتمر الرياض للفلسفة في محاولة للإيهام بغرابة ما جرى في الرياض من وقائع ذلك المؤتمر، لكن الضيف الحصيف من باريس كان أكثر وعيًا بفخ السؤال، حيث كانت إجاباته الرصينة في الدفاع عن ضرورة الفلسفة في أي مكان وزمان، أكثر من شافية للرد.

إن هوية الفلسفة اليوم تنحسر في كل مكان من العالم العربي الذي تتراجع فيه حظوظ التنوير لحساب انتشار الجماعات المتطرفة، لكنها في الرياض تعكس سياقًا آخر لمعنى الاحتفاء بالفكر الإنساني الذي تمثل الفلسفة ذروته العقلانية.

لقد كان مؤتمر الرياض للفلسفة فرصة لتلاقح أفكار الضيوف مع رواد المؤتمر من الشباب والطلاب عبر نقاشات مثمرة تم تأطيرها وفق تنظيم محكم في المؤتمر شمل قاعات للورش الفلسفية والمنطقية وقاعات للمناظرات الفلسفية بين طلاب الجامعات، بطريقة عكس فيها المؤتمر أنه ليس فقط مؤتمرًا عاديًا للدرس الفلسفي، وإنما كذلك فرصة لإشاعة مناخ التفلسف وحب الفلسفة بطرائق تعبير محببة ومحفزة للتفكير. إن مؤتمر الرياض للفلسفة طريق جديد للتفلسف مناخ بكر.