حرْقُ اليهود، أو محرقة اليهود، ليست فعلا حادثا، ولا أثرًا ناتجًا عن فعلِ النازيين الألمان فيهم، وانتقاءُ المُصطَلحُ «المحرقة» ليس اختيارًا بريئا ولا دالًا على مَظْهر من المظاهر التي تعرّض لها اليهود على يد الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، بل هو فعلُ اختيارٍ مدروس لتكريس وضعِ الضحيّة الأدبيّة، التي بدأت تظهر ملامحها الكونيّة في عصرنا الحالي، وبدأت تترسَّخ في الذاكرة الكونيّة الجمعيّة. لقد عمل اليهود في مختلف أصقاع العالم، عبر الصورة، وعبر الكلمة على غرْس اعتقاد الضحيّة لدى عامّة اليهود أوّلا، ولدى بقيّة أهل الكون ثانيًا، وقد نجحت الخُطّة السرديّة اليهوديّة في بناء قصّة اليهود الضحيّة عبر التاريخ، حتّى أنّنا نرى توجّهًا من فكرٍ عربيّ يستعمل كلمة «المحرقة» على أساسٍ تاريخيّ، والأخطَرُ من ذلك أنّ سرديّة «محرقة اليهود» اتّخذت بُعدا شعبيّا، فصار هناك ثابت في الاعتقاد الشعبيّ العربيّ والكونيّ أنّ هتلر حرّق اليهود وأدخلهم جمعا أفرانا وأخاديدَ لصَلْيِهم وشيِّهم.

وواقعُ الحال أنّ المحرقة في الأصل هي اعتقادٌ يهوديّ ناتجٌ عن معتقدٍ موجود في التوراة، في العهد القديم، في سفر التكوين، أساسا مكينا لاختبار إبراهيم، وابتلائه في ابنٍ من أبنائه، وهو في المعتقد اليهوديّ إسحاق وليس إسماعيل، إذ يأمره الله بحرقه، فيُعِدّ الحطب لفعل ذلك امتثالا للاختبار الإلهي، غير أنّ الله يتدخّل في آخر لحظة من عملية حرْق إسحاق ويُنزّل كبشا عظيما فداء لإسحاق. ورد في سفر التكوين من العهد القديم الأصحاح 22: «وحدث بعد هذه الأمور أنّ الله امتحن إبراهيم، فقال له: يا إبراهيم. فقال: هأنذا (هكذا!). فقال: خذ ابنك، وحيدك، الذي تُحبّه، إسحاق، واذهب إلى أرض المُريّا، وأصْعِدْه هناك مُحرقة على أحد الجبال الذي أقول لك. فبكّر إبراهيم صباحا وشدّ على حماره، وأخذ اثنين من غلمانه معه، وإسحاق ابنه، وشقّق حطبا لمُحْرَقَةٍ، وقام وذهب إلى الموضع الذي قال له الله».

استدعاء الحرْق، هو استعادة عقيدة كان فيها إسحاق نبيّ بني إسرائيل وأصل سلالتهم مُرشَّحا للحرق فداءً للبشريّة، وإرضاء لربّهم، فمصطلح المحرقة دُعيَ من هذا السياق ذي المرجعيّة الفدائيّة الدينيّة العقديّة ليُدخَل في سياق سياسيّ، حضاريّ، يخدم الأبعاد الصهيونيّة، يُقدّم فيه اليهود أنفسهم ضحيّةَ محارق النازيّة، وقربانا يُذبَّح ويُحرَّق ويُقدَّمُ فداء للعالم الحديث. فإن كان الله فعلا لم يرتض حرُق سلالة اليهود وأبقى عليهم، فإنّ بشرا -حسب الاعتقاد الصهيونيّ- قد أوغلوا في ذلك، وعلى هذا قامت سرديّة المحرقة ذات المرجعيّة العقديّة التي تُلامسُ هوى دينيّا في أنفس اليهود. وفي مقابل ذلك فقد استعاد اليهود عبر التاريخ فعلهم الاعتقادي وشرّعوا حرقَهم للخلق، وأقاموا سرديتين، سرديّة أولى أصبحت -مع الأسف- داخلة في النسيج الثقافي والشعبي الكوني، أنّ اليهود كانوا عبر التاريخ في وضع الضحيّة، وقد بلغت هذه المظلومية أوجَهَا مع محارق النازيين، أو مع تخييل المحرقة. سرديّة الحرْقِ مغروسةٌ في العقيدة اليهوديّة، ولذلك استعادوها بمناسبة استهداف النازيين لهم، وصاغوا منها قصّة حديثة روّجوها وأحسنوا بناءها وتسويقها.

صورة تُسوّق في المجتمع الدوليّ عبر التاريخ، يُروّجها اليهود الشعب المستهدَف، المُطَارَد، المنبوذ. وسرديّة ثانية، تجيز لهم استعادة الطقس الحرُقي، وحرْق الشعوب الأخرى، وهو مُعتقد ضمني لدى اليهود، يتنزّلون انطلاقا منه منزلة «شعب الله المختار» وبقيّة الخلق هم ممّن سُخّر لهم، هم حطب الكون، هم الأضحية، الكبش. وعلى ذلك فقد وثّق التاريخ فعلا يهوديّا استعاد فيه يهوديّ فعل صلْي النبيّ إبراهيم، إذ حفر أخدودا وألقى فيه من خرج عن ديانة اليهود. تذكر كتب التاريخ أنّ ذا نواس رجلٌ مُلِّك أمرَ نجران، وهُم على النصرانيّة قبل مبعث الرسول محمّد صلّى الله عليه وسلّم بزمن وجيز، فحفر لهم أخدودا وأضرم النار فيه، وعُرِضَ أهل نجران عليه، فمن دخل اليهوديّة عبَر بسلام، ومن بقي على النصرانيّة أُلْقي في النار، وقد أشار عبيد بن شرية إلى حادثة الأخدود، قال: «حمير بعثت إلى ذي نُوَاس فعرضوا عليه المملكة فما تكرَّه عليهم، فملكَّوُه أمْرَهم. وذو نُواس هذا صاحب الأخدود الذي ذكره الله في كتابه، وذلك أنه دان باليهودية، وبلغه عن أهل نَجْران أنهم دخلوا في النصرانية برجل أتاهم من جهة ملوك غسّان فعلمهم إيَّاها، فسار إليهم بنفسه حتى عرضهم على أخاديد احتفرها في الأرض وملأها جَمْرًا، فمن تابعه على دينه خَلَّى عنه، ومن أقام على النصرانية قذفه فيها»، وقال ابن الكلبي: «لمّا كان من أمر ذي نُواس ما كان في أرض نَجْرَان حين ألقاها في الأخاديد وحرَّقَهم بالنار، خرج عند ذلك رجلٌ من اليمن يقال له دَوْس بن عازب ذي ثعلبان الحميري، مراغما لذي نُوَاس بالخَيْل حتى دخل الرَّمل ففاتهم»، فالاحتراق والحرق مفاهيم داخلةُ في عُمق العقيدة اليهوديّة، وعليه، تمّ استدعاء هذا المُصطَلح الذي صنع سيرة سرديّة مُبكيَةً دفعت الكون، بما فيهم العرب إلى الانخراط في «التعاطف الإنساني» ضدّ محارق اليهود التي كانت، ومن منّا لم يتفاعل مع أعمال روائيّة أو سينمائيّة كانت عميقة الأثر الإنسانيّ، بعيدة الحبْك لاستدراج القارئ أو المُشاهد لإحداث «تعاطُف» مع «شعب الله المُختار»، أذكر على سبيل المثال الفيلم الشهير «عازف البيانو» (The Pianist) الفائز بجائزة السعفة الذهبيّة في مهرجان «كان» والفائز أيضا بأوسكار أفضل مُخرج وأفضل ممثّل، وهو تحويلٌ دراميّ لروايةِ البولندي اليهودي فلاديسلاف شبيلمان، الذي كتب شهادة عمّا عاناه فترة ملاحقة النازيين لليهود في بولندا أيّام الحرب العالميّة الثانية، وكذلك الفيلم الشهير المأخوذ من الكتاب الحامل لنفس عنوان الفيلم «قائمة شلندر» «Schindlers list»، والعدد وفيرٌ من «أدب الشهادة» في مجال سرديّة المحرقة اليهوديّة، والتمويل مهولٌ ومُبهرٌ في اختيار المُخرجين أو الممثّلين، حتّى وإن كانت النصوص التي يصدرون عنها هي محض شهادات بسيطة. المعنى من كلّ هذا أنّ العالم الحديث، هو عالمٌ سيميائيّ، لا مصطلحَ فيه دون قصديّة قد تتحقّق مراميها بعد نصف قرنٍ، السؤال الذي كنت أريد أن أبدأ به مقالتي، وها أنا ذا أختم به، هو هل نحن على وعيٍ بصدق القضيّة الفلسطينيّة، هل تجرّدنا يوما من الدموع والتعاطف الأجوف السلبيّ، لصناعة رؤيةٍ وفكرة لاستعادة الشرف المنزوع، هل صنعنا جهازا مفهوميّا مرجعيا خارج نطاق ما يُصنَعُ لنا.

أنا من جيلٍ اقترب من القبر وهو يبكي على تقتيل الفلسطينيين، وعلى تهجيرهم وعلى إبادتهم، دون أن أرى سرديّة خارج الخبط العشوائي في إدارة مفاهيم ضعيفة صُنعت للإلهاء وخاوي الجدل، النكبة، النكسة، الهزيمة، الاستنكار، الشجب، تسميّات اختلف فيها فلاسفة العرب وروّاد الحداثة وزعامة الثورة والمدلول واحد. أشهد اليوم بروز سردية قويّة من جهة الجلاّد، سرديّة الضحيّة التي تبنّاها الخطاب الرسميّ الكونيّ الذي نُنصتُ روايته لما يقع بين غزّة والكيان المُغتصب، هي سرديّةٌ قويّة متينة، عالقة بالأذهان، يُردّدها الأنصار والأضداد، لعلّكم لاحظتم أنّ عددا من ممثّلي مجلس الأمن عندما سردوا حكاية غزّة، انطلقوا من أنّ ما وقع في السابع من أكتوبر من قِبل أهل غزّة هو فعلٌ إجراميّ من اغتصاب وحرق أطفال، واعتداء على الحُرمات، وترهيب للمدنيين وتقتيل للعُزّل وللنساء وللأطفال، هذه هي السرديّة التي يُريد الفاعل الكونيّ ترسيخها، ولم ينتبه هؤلاء -وإن عرَضا- أنّ ما يقوم به الصهاينة جُندا ومدنيين، هو ذبح للرُضّع بالآلاف، وحرقٌ للعُزّل بالآلاف، واختطاف للشيوخ بالآلاف؟ إنّ المُعضلة هي معضلةُ زاوية نظر دوما (هنا على الأقلّ ننتفع من علوم نقد الرواية). إنّ الخطاب الإعلاميّ الكونيّ في ظلّ هذه الحرب يحتاج فعلا إلى قراءة سيميائيّة تداوليّة، هي الأوكدُ اليوم، كأن نقرأ مثلا الجملة التالية: «حربُ إسرائيل وغزّة» وما تحمله من متفجّرات دلاليّة في أحشائها، أو كأن نقرأ عبارة «لا يُمكن إيقاف الحرب إلّا بعد القضاء على حماس»، هذه عباراتٌ مفخّخة، ومن نكد الدهر أن فينا من لا يُتقن قراءة التاريخ، ولا يُحسن أيضا قراءة الحاضر، ولا تبصّر المُقبل. الحربُ حرب قولٍ دوما، الكلام يصنعُ الأذهان، والقصّة تصنَعُ الواقعة.