أتذكرُ أننا أصبنا بشيء من الإحباط عندما قادتنا الأقدار للدراسة في سوريا عام ٢٠٠١، فلم نجد في أسواقها «البراندات» المألوفة التي اعتدنا عليها، ابتداء من معجون الأسنان والشامبو والكريمات والعطور والملابس، وليس انتهاء بالبرجر والبيتزا والقهوة والأدوية. ففي ذلك الوقت كانت أغلب المنتجات صناعة سورية مائة بالمائة. أمّا لو أردنا أن نشتري بضاعة اعتدنا عليها فعلينا أن نذهب لأبواب مواربة! لكن الصدمة خفتت عندما اكتشفنا أنّ المنتجات السورية تتمتع بجودة عالية وبأسعار مثالية.

من المؤكد أنّ الأوضاع في سوريا شابها الكثير من التغير الآن، ولكني أستعيد هذه الذكرى البعيدة لنتأكد أنّ بإمكان أي شعب من الشعوب أن يُغير نمطه الاستهلاكي، لا سيما وأننا نخوض الآن تجربة «المقاطعة» كوسيلة ضغط نُعبر بواسطتها عن موقفنا من الأحداث الدامية في فلسطين، وذلك عبر الضغط على عصب الحياة «الاقتصاد»، فتراجعُ بيعِ بعض السلع وشلُّ حركة بعض «البراندات» يعني أننا نُحدثُ أثرا ما -وإن بدا طفيفا للبعض- فهو سبيلنا للتضامن مع قضية نؤمن بحقها أن تبقى على مرأى من أعين العالم لا أن تطمر تحت الصمت واللامبالاة !

وفي الحقيقة ثمّة ما تغير، يمكننا أن نلحظ ذلك بمجرد أن نرفع رؤوسنا لنرقب من حولنا في محلات التسوق، فهم على غير العادة يدققون النظر في اسم البلد المُصنع، أو يدخلون لمحركات البحث ليتأكدوا إن كان المنتج داعما للقتل المستمر أم لا. وقد شاهدنا أطفالا يقتنعون بسهولة بترك منتجاتهم المفضلة من الحلويات لمجرد أنّ الأمهات همسن في آذانهم بكلمات من قبيل: «هل تقبلون أن تتحول أموالنا لرصاص يقتل الأطفال»!

ولمن يقرأ في تاريخ «المقاطعة» سيجد أنه تعبير مدني انتهجته العديد من الشعوب لتعبر عن موقف ما، عندما سُدت أبواب التعبير الأخرى، وهو سلاح بالغ الأثر لكن جدواه لا تتحقق إلا بالاستمرار والإيمان من قبل شرائح واسعة من المجتمع.

نشر موقع الجزيرة موضوعا بعنوان: «المقاطعة الاقتصادية حرب بلا سلاح» حول حركة «bds» وهو اختصار يعني: «قاطع، احرم، عاقب»، إشارة إلى أهم التنظيمات الشعبية التي دعت إلى حملات دولية لمقاطعة البضائع الإسرائيلية والداعمة لها. يشير الموضوع إلى أنّ فعل المقاطعة ليس فعلا حديثا، فقد مارسته مصر -على سبيل المثال- ضد البضائع البريطانية بعد اعتقال سعد زغلول عام 1921 ، فقد سُحبت الودائع من المصارف الإنجليزية. وكذلك فعل غاندي ضدهم في الهند، فقد دعا إلى إحراق بضائعهم وحثّ الهنود على صنع ملابسهم بأيديهم بواسطة مغازل يدوية للاستعاضة عن الملابس المستوردة. وفي ستينات القرن العشرين وبسبب التمييز بين البيض والسود داخل الحافلات، قاطع السكان السود بولاية ألاباما الأمريكية شركة النقل المحلية استجابة لدعوة مارتن لوثر كينغ.

يرتبط فعل «المقاطعة» الآن ببعد عاطفي يتعلق بالراهن الذي يربطنا بفلسطين، لكن السؤال: كيف يمكن لسلوكنا أن يتجاوز حماسة التضامن الآني، من أجل رؤى مستقبلية لفكرة الاستهلاك؟ فلطالما رددنا شعارات من قبيل «المنتج المحلي اختيارنا الأول»، وربما لم تكن تنجح حملات من هذا النوع في ظل منافسة شرسة مع منتجات عالمية منافسة!

نحن كجزء من نسيج هذا الوطن علينا أن ندعم منتجنا المحلي ومن ثم العربي، لكن يتوجب أيضا على المؤسسات الوطنية المنتجة أن تنشط وتساهم في ملء الفراغات التي أحدثتها المقاطعة بمنتجات ذات جودة منافسة وأسعار معقولة، فقد لوحظ للأسف أنّ البعض يُغالي في الأسعار لاقتناص الفرصة، رغم أنّ سعر المنتج المحلي ينبغي أن يكون كشأن العديد من البلدان -هو الأرخص- لأنّ القائمين عليه لا يتكبدون كلفة الاستيراد!

بالتأكيد يتعذر علينا مقاطعة كل شيء، فثمّة أشياء معقدة الصنع، ولذا علينا ترتيب أولوياتنا الشرائية بدقة، فلقد غُيبنا لزمن ليس بالقصير، وآن الأوان لمراجعة خياراتنا، فأغلبنا يتوجه إلى الأشياء تحت تأثير دعائي وترويج وإغراء، إننا نفقدُ فرديتنا في الشراء، فلا نتسوقُ بمعزل عن إرادة عُليا لأجهزة الاقتصاد وإعلامه. وأظن أنّها فرصة سانحة لنمارس حق معرفة: من أين يأتي ما نأكل ونشرب ونلبس ونتداوى؟ ولماذا يُصبح من العسير أن نفعل ذلك بإمكانيات بلداننا النفطية الغنية؟ لماذا تغدو كذبة التحول إلى قرية كونية فرصة لهيمنة منتجات وتضاؤل فرص أخرى؟

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى