كـل تقابـل بين خطابين يدوران على موضوع واحد (الأنا والآخـر مثلا) هو، حكما، تقابـل أيديولوجي لأن السرديتين اللتين يقدمهما الخطابان ذانك سرديتان أيديولوجيتان بامتياز؛ حيث لا سبيل إلى ارتفاع الظن بهما مع وجود ذلك التناقض بينهما إلى حدود التضاد! هذا ليس حكما نظريا مجردا وافتراضيا، بل هو يبني على واقع الخطابين وما يضمرانه، فعلا، من منزع أيديولوجي. إن كلا منهما يأتي فعلين مغرضين ولا موضوعيين في آن واحد: فعل طـمس وإخـفاء لجوانب عـدة من الموضوع المحكي عنه (الأنا، الآخر في حالتنا)، وفعل إبـراز وتـظهـير لجوانب أخرى منه. وهما إذ يفعلان ما يفعلانه -طمسا وتظهيرا- فإنما تبعا للفائدة الناجمة من أي من الفعلين، فإن كان لفعل الطمس أن يعزز أداء سرديـة ما، كان الالتجاء إليه مشروعا ومرغوبا فيه؛ وإن كان الإبراز والتظهير هو ما يقوم به أود السردية، صار حينها مطلوبا لا نـدحة عنه. هل هناك من شواهد على أيديولوجي الخطابين أكثر من هذه التي سقناها؟
النتيجة أن أيا من السرديـتين عن الأنا والآخـر لا تظهرنا إلا على جزء من حقيقة الحـدين المتقابلين؛ الجزء الذي يؤسس لكيان السردية ويقيم حجيتها، ولا تظهـرنا -بالتالي- على حقيقتهما في كلـيتها. وما أغنانا عن القول إن في هذا المسلك من النظر إلى الموضوع نزعة انتقائية، اصطفائية ممجوجة لأنها، بكل بساطة، تضليلية ومخادعة، هكذا تسكت سردية الأصاليين عن تاريخ للأنا (العربية الإسلامية) معـتم وبغيض مستمر حتى يوم الناس هذا، بمقدار تجاهلها للمساحات الأكثر إضاءة وجاذبية في الآخر وتجربته الحضارية ومواريثه التاريخية، فيما يقابل هذا تبجيلها الغزير للأنا وفتوحاتها الحضارية ما كان منها صحيحا وما بولـغ فيه، وقدحـها الشنيع في الآخر وارتكاباته وجرائمه ماضيا وحاضرا. بالمثل، تسكت سردية الحداثـيين عن كل ما في حوزة الأنا من موارد الغنى والتميـز والإبداع، وعن كل ما في الآخر من مواطن العـوار وما يـعـتور أفعاله من بشاعات تقبح في معيار العقل وقيم الحضارة والأخلاق والحس الإنساني، في مقابل قـدح دائب في الأنا وعوراتها -ما صح منها وما لم يصح- وتـلميع لنموذج الآخر الحضاري... إلخ. نحن مع هذين الخطابين، وتينك السرديـتين، في قلب الأيديولوجيا إذن.
إن مشكلة الخطابين هذين (عن الأنا والآخـر)، بل مشكلة الوعي العربي رمة، تكمن في النظر إلى الظواهر، التي من جنس هذه الظاهرة، بوصفها كلـيات مغلـقة ومن ثمة، في بناء تصورات حولها لا تلبث أن تصبح نمطية! والحال أن في داخل كـل ظاهرة جـدليات حاكمة مختـلفة ومتباينة، وهـي -لـذلك السبب- تنطوي على تعـدد داخلها: تـعدد في التكوينات؛ تعـدد في الوظائف؛ تعدد في نظام الاشتغال، ناهيك بالتعدد في المضمون والدلالات. يستفاد من هذا أن هذه النظرة المبسطة إلى الظاهرة؛ أي المستنـدة إلى فكرة الكليـة الواحدة المغلقـة للموضوع المدروس، تعجز عن اطلاعنا على ذلك العالم الداخلي للظواهر الزاخر بالتناقضات وأحيانا، حتى بالمفارقات. هكذا هي الحال في ما خص موضوع الأنا والآخر وإشكاليتهما، إذ الحـدان ليسا كلـيتين مغلقتين ولا، بالتالي، مطلقتيـن يسمحان بإمكان بناء نظرة مطلقـية Absolutiste إليهما، بل هما حدان يخترق التعدد والتناقض كـلا منهما، حتى أنه يستعصي أي اختزال لأي من الحدين في جزء منه واطـراح غيره من التعريف ما خلا في عـقل أيديولوجي درج على إتيان فـعل الانتقاء والانتخاب، مرتكنا إلى أسلوب الابتسار بوصفه الأسلوب الأطـوع لكل فعـل أيديولوجي!
إن الأنا لا تقبل واحدية الرواية عنها، إنها ما تقوله -هي- عن نفسها وما يقوله الآخـر عنها في الآن عينه؛ هي النهضة وهي الانحطاط، هي جرأة التـفكير وهي سيـف التكـفير، هي الاجتهاد وهي التحجـر، هي العقل وهي النص، هي الإبداع وهي الاتـباع، هي الإنتاج وهي اللـجاح، هي الامتناع وهي الانصياع؛ هي الجهر وهي القهر، الانفتاح والانغلاق، الاختلاف والواحدية، الاعتراف والإنكار، الحوار والصمت، الاعتراض والاستبداد...إلخ؛ هي هذا وذاك معا بحيث لا تدرك، على الحقيقة، إلا في تناقضها المؤسس: التناقض الواقعي الذي يأتي عليه النظر الأيديولوجي بالطمس.
والآخـر، أيضا، هو ما يقوله -هـو- عن نفسه وما تقوله الأنا عنه في آن واحد؛ هو النهضة، والتـقدم، والعقل، والعلم، والنظام، والحريـة، والمساواة، والديمقراطية، والعلمنة، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين...إلخ؛ وهو، أيضا، الاستعمار، والامبريالية، والاستغلال الرأسمالي (لقوة العمل وللطبيعة)، ونهب ثروات الشعوب المستعمرة؛ وهو الهيمنة، والعنصرية البغيضة ونزعات التفـوق العرقي والديني، والاضطهاد القومي، وسياسات الازدواج في المعايير، والعدوان على حقوق شعوب الجنوب وأممه، واحتكار السلطة والثروة في العالم، ودعم الصهيونية والفاشيات العسكرية والأنظمة الدكتاتورية...إلخ. إنه، إذن، هذا وذاك في تقابلهما وجدليـتهما المفارقة!
بهذا المعنى نقول إن التفكير في ثنائية الأنا/الآخـر يقود، حكما، إلى وعـي أيديولوجي للعلاقات بين حديها؛ وعي ينتظم فيه كـل خطاب وراء طلبته الأيديولوجية. وهذا ليس حكما حصري الانطباق على الوعي العربي لعلاقات الأنا/الآخـر، بل هو يصدق على كـل وعي لتلك العلاقات بما في ذلك -حتى لا نقول خاصة- في الثقافة الغربية، وعلى وجه التحديد في حقبتها الجارية: حقبة ما بعد الاستشراق التي انصرمت فيها تقاليد الاستشراق العلمية في دراسة مجتمعات الآخـر (الشرقي) وثقافاته والعلم بها من الداخل، فيما بدأت حقبة من «المعرفة» الأيديولوجية السطحية بمجتمعات الآخـر (غير الغربي) وثقافاته، «المعرفة» التي بات ينتجها «خبراء» مراكز الدراسات المرتبطة بالمؤسسة Establishement (وزارات الدفاع، والخارجية، وفروع الاستخبارات) لفائدتها! أما السبب في أن أيلولة التفكير في علاقات الأنا/الآخـر هي إلى الأيديولوجيا حكما، فلأن هذه العلاقات صراعية، بطبيعتها، وتنابذية ولأنها، من وجه ثان، علاقات بين حدين ينطويان على تـعـدد بل تناقض يؤسـس كـلا منهما.
النتيجة أن أيا من السرديـتين عن الأنا والآخـر لا تظهرنا إلا على جزء من حقيقة الحـدين المتقابلين؛ الجزء الذي يؤسس لكيان السردية ويقيم حجيتها، ولا تظهـرنا -بالتالي- على حقيقتهما في كلـيتها. وما أغنانا عن القول إن في هذا المسلك من النظر إلى الموضوع نزعة انتقائية، اصطفائية ممجوجة لأنها، بكل بساطة، تضليلية ومخادعة، هكذا تسكت سردية الأصاليين عن تاريخ للأنا (العربية الإسلامية) معـتم وبغيض مستمر حتى يوم الناس هذا، بمقدار تجاهلها للمساحات الأكثر إضاءة وجاذبية في الآخر وتجربته الحضارية ومواريثه التاريخية، فيما يقابل هذا تبجيلها الغزير للأنا وفتوحاتها الحضارية ما كان منها صحيحا وما بولـغ فيه، وقدحـها الشنيع في الآخر وارتكاباته وجرائمه ماضيا وحاضرا. بالمثل، تسكت سردية الحداثـيين عن كل ما في حوزة الأنا من موارد الغنى والتميـز والإبداع، وعن كل ما في الآخر من مواطن العـوار وما يـعـتور أفعاله من بشاعات تقبح في معيار العقل وقيم الحضارة والأخلاق والحس الإنساني، في مقابل قـدح دائب في الأنا وعوراتها -ما صح منها وما لم يصح- وتـلميع لنموذج الآخر الحضاري... إلخ. نحن مع هذين الخطابين، وتينك السرديـتين، في قلب الأيديولوجيا إذن.
إن مشكلة الخطابين هذين (عن الأنا والآخـر)، بل مشكلة الوعي العربي رمة، تكمن في النظر إلى الظواهر، التي من جنس هذه الظاهرة، بوصفها كلـيات مغلـقة ومن ثمة، في بناء تصورات حولها لا تلبث أن تصبح نمطية! والحال أن في داخل كـل ظاهرة جـدليات حاكمة مختـلفة ومتباينة، وهـي -لـذلك السبب- تنطوي على تعـدد داخلها: تـعدد في التكوينات؛ تعـدد في الوظائف؛ تعدد في نظام الاشتغال، ناهيك بالتعدد في المضمون والدلالات. يستفاد من هذا أن هذه النظرة المبسطة إلى الظاهرة؛ أي المستنـدة إلى فكرة الكليـة الواحدة المغلقـة للموضوع المدروس، تعجز عن اطلاعنا على ذلك العالم الداخلي للظواهر الزاخر بالتناقضات وأحيانا، حتى بالمفارقات. هكذا هي الحال في ما خص موضوع الأنا والآخر وإشكاليتهما، إذ الحـدان ليسا كلـيتين مغلقتين ولا، بالتالي، مطلقتيـن يسمحان بإمكان بناء نظرة مطلقـية Absolutiste إليهما، بل هما حدان يخترق التعدد والتناقض كـلا منهما، حتى أنه يستعصي أي اختزال لأي من الحدين في جزء منه واطـراح غيره من التعريف ما خلا في عـقل أيديولوجي درج على إتيان فـعل الانتقاء والانتخاب، مرتكنا إلى أسلوب الابتسار بوصفه الأسلوب الأطـوع لكل فعـل أيديولوجي!
إن الأنا لا تقبل واحدية الرواية عنها، إنها ما تقوله -هي- عن نفسها وما يقوله الآخـر عنها في الآن عينه؛ هي النهضة وهي الانحطاط، هي جرأة التـفكير وهي سيـف التكـفير، هي الاجتهاد وهي التحجـر، هي العقل وهي النص، هي الإبداع وهي الاتـباع، هي الإنتاج وهي اللـجاح، هي الامتناع وهي الانصياع؛ هي الجهر وهي القهر، الانفتاح والانغلاق، الاختلاف والواحدية، الاعتراف والإنكار، الحوار والصمت، الاعتراض والاستبداد...إلخ؛ هي هذا وذاك معا بحيث لا تدرك، على الحقيقة، إلا في تناقضها المؤسس: التناقض الواقعي الذي يأتي عليه النظر الأيديولوجي بالطمس.
والآخـر، أيضا، هو ما يقوله -هـو- عن نفسه وما تقوله الأنا عنه في آن واحد؛ هو النهضة، والتـقدم، والعقل، والعلم، والنظام، والحريـة، والمساواة، والديمقراطية، والعلمنة، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين...إلخ؛ وهو، أيضا، الاستعمار، والامبريالية، والاستغلال الرأسمالي (لقوة العمل وللطبيعة)، ونهب ثروات الشعوب المستعمرة؛ وهو الهيمنة، والعنصرية البغيضة ونزعات التفـوق العرقي والديني، والاضطهاد القومي، وسياسات الازدواج في المعايير، والعدوان على حقوق شعوب الجنوب وأممه، واحتكار السلطة والثروة في العالم، ودعم الصهيونية والفاشيات العسكرية والأنظمة الدكتاتورية...إلخ. إنه، إذن، هذا وذاك في تقابلهما وجدليـتهما المفارقة!
بهذا المعنى نقول إن التفكير في ثنائية الأنا/الآخـر يقود، حكما، إلى وعـي أيديولوجي للعلاقات بين حديها؛ وعي ينتظم فيه كـل خطاب وراء طلبته الأيديولوجية. وهذا ليس حكما حصري الانطباق على الوعي العربي لعلاقات الأنا/الآخـر، بل هو يصدق على كـل وعي لتلك العلاقات بما في ذلك -حتى لا نقول خاصة- في الثقافة الغربية، وعلى وجه التحديد في حقبتها الجارية: حقبة ما بعد الاستشراق التي انصرمت فيها تقاليد الاستشراق العلمية في دراسة مجتمعات الآخـر (الشرقي) وثقافاته والعلم بها من الداخل، فيما بدأت حقبة من «المعرفة» الأيديولوجية السطحية بمجتمعات الآخـر (غير الغربي) وثقافاته، «المعرفة» التي بات ينتجها «خبراء» مراكز الدراسات المرتبطة بالمؤسسة Establishement (وزارات الدفاع، والخارجية، وفروع الاستخبارات) لفائدتها! أما السبب في أن أيلولة التفكير في علاقات الأنا/الآخـر هي إلى الأيديولوجيا حكما، فلأن هذه العلاقات صراعية، بطبيعتها، وتنابذية ولأنها، من وجه ثان، علاقات بين حدين ينطويان على تـعـدد بل تناقض يؤسـس كـلا منهما.