يتقلّب عالم اليوم على جمْرٍ من الشعارات والمبادئ التي سادت طيلة قرن من الزمن، ويُعيد أصحاب الرأي تحديد المفاهيم وضبط الحدود بينها، والمبدع العربي -في ظنّي- يقف مشدوها، فاغرا فاه، مدهوشا من نهاية الإنسانيّة، وتركّز وقاحة الأقوى، يتتبّع تصاريح الساسة المالكين لمفاتيح القنابل المنهية للكون، ويرى مشاهد مباشرة عن تقتيل الرضّع والعُجّز وتدمير الملاجئ والمشافي ودور العبادة، لا يفقه ما يجْري، ولا حيلة له في فعلِ شيء، حتّى الإبداع استحال عَدَما، هل هي نهاية الفنّ على الشاكلة التقليديّة؟ أو هي ولادةٌ جديدة لوعي ضلّ سبيله طيلة عهود؟ لم يعد لموسيقى النضال من أثرٍ، ولا للشعر من ميزان، ولا للقصّة من قصّة تُحكى، أمام مشاهد الدفن الجماعي اليوميّ للبشر، وأمام صور الأكفان تُغطّي الأوطان، وأمام وطنٍ صارت المعونات المقدّمة له أكفانا حتّى لا يتلوّث المُحيط من روائح الموت الحالّة بالمكان. ما هي القصّة التي سنرويها، وأيّ موسوعة يُمكن أن تحوي ما يجيش بالصدور قبل أن تحوي ما يُفعَلُ حقّا؟ حربُ غزّة عطّلت الأدب والفنّ وأوقفت المبدع العربيّ عن الفعل، ألجمت قلمه وريشته وصوته، هذه حربٌ ليست كالحروب، وعلى المبدع العربيّ أن يجد واسطة ليست بالحروف ولا بالألوان ولا بالأنغام المعهودة. لم تكن حركة الأدب في تاريخ الشهادة على جرائم بني شمشون الأشاوس بمنأى عن مقاومة المُستَعْمِر، كان للقلم وللريشة وللموسيقى دور فاعلٌ في تصدير الوعي بالقضيّة الفلسطينيّة، وأتذكّر في ما كتبه درويش من مذكّراته أنّه عندما أُخرج من لبنان مطارَدا مطرودا سأل القائدَ الحكيم ياسر عرفات عن مصير مجلّة الكرمل، فأخبره أن يواصل إصدارها، فتساءل درويش، كيف يُمكن مواصلة إصدارها وقد أغلق مقرّها وطُردنا من لبنان؟ فأخبره أن يعمل على إصدارها من أيّ مكان يريده، من قبرص، من باريس، من بريطانيا، وتتكفّل منظّمة التحرير بذلك، وفعلا واصل درويش إصدار مجلّة الكرمل من قبرص، وكان لها ما كان من أثرٍ في تصدير الوعي بالقضيّة الفلسطينيّة.
كانت الثقافة سلاحا حادّا للمقاومة، وأداةً تُرعبُ مُستعمرا غاصبا، وقد تراجع هذا الدور الثقافي إلى أبعد حدّ. لم تكن غزّة ولا حربها ولا صلابتها، ولا هزؤها من مارد صهيوني قبيح المرأى، حديثة عهد في الصلابة، ولا قوّة المقاومة، فالشعوب تتحدّد بتواريخها، وبمنجزاتها عبر التاريخ. غزّة كانت من أكبر المدن الحاضرة في المدوّنات التاريخيّة والأدبيّة العربيّة، هي مدينةٌ أتاحت لي الحربُ فرصة التنقيب عن تاريخها، وعن مأتى هذه الصلابة التي يتشبّث بها أهل غزّة بأرضهم وبوطنهم وبتاريخهم.
لقد سجّل التاريخ مدينةً ضحيّةً لعدوانٍ مُختلف الأشكال والألوان والمظاهر، هي مدينة منْجمٌ يُولّد المعاني الصعاب للكُتّاب والأدباء وللفنّانين عموما بما شهده تاريخها من تقلّباتٍ، وها هي تكتب بدماء شهدائها بالدم لا بالمداد والألوان، تاريخا للبطش والعنف ومثالا للدمار، للوحشيّة البشريّة، وكم كان اليهود عبر التاريخ شعبا مدمِّرا للبشريّة. لم تدن غزّة لقوم موسى، وكان فيها قومٌ جبّارون تُخشى مقاومتهم، ولم تدن بعد موسى لقائده يوشع بن نون، وعلى قول عارف العارف في كتابه «تاريخ غزّة»: «وأمّا غزّة فإنّها لم تدخل في حكم بني إسرائيل إلّا في أيّام سليمان الذي اعتلى منصّة الحكم بعد أبيه داود، فقد كان له جيش جرّار، ودانت له البلاد من الفرات حتّى التخوم المصريّة»، بقيت أبيّةً، عصيّةً، والأمل أن تبقى في حال اليوم كذلك، ليتفرّج العالم ويرى بأمّ عينه كيف تتحوّل الأسطورة واقعا عينيّا. إضافةً إلى عارف العارف الذي لم يقتصر على كتابه آنف الذكر في جرد «تاريخ غزة» منذ تكوّنها، ومختلف الحروب التي أثبتت أهلها في مواقعهم، بل تعدّاه إلى موسوعة في تسجيل تاريخ غزة ووقائعها في ستة أجزاء بعنوان «نكبة فلسطين والفردوس المفقود 1947- 1952» منهيا أجزاءه بـ«سجلّ الخلود» في تثبيت أسماء الشهداء الذين استشهدوا في معارك فلسطين من 1947 إلى سنة 1952، نجد أيضا كتابا مهمّا بعنوان: «إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة» لعثمان مصطفى الطبّاع، وقِس على ذلك ممّا يُنبئ بتاريخ حافلٍ بعملِ اليهود عبر التاريخ على تركيع غزة. أمّا في الأدب فغزّة حاضرةٌ شاهدةٌ على مجازر يصعب حدّها أو عدّها، وها هو معين بسيسو في دفاتره يُحسن وصفها ووسمها يقول: «غزة التي لوت ذات يوم قرني شمشون، وأرغمت هذا الثور الأمي الصهيوني، الذي كان يربط قصاصات النيران في ذيول بنات آوى ويطلقها فـي زمـن الحصاد، لتحرق قمح أجدادنا الفلسطينيين القدامى. غزّة أرغمت هذا الشمشون على أن يفعل رغم إرادته شيئا مفيدا، أن يجرّ طاحون المعصرة، أن يكتب معادلة موته.
السمّ الصهيوني ضدّ الزيت الفلسطيني». وتُكتب الشهادات العددُ شعرا ونثرا، تُسجّل واقعا أو تصويرا أدبيّا ما يُعانيه الفرْدُ والجمْع في مقام الاستعمار الذي أصبح استيطانا، ثمّ تحوّل اليوم بقدرة قادر صاحب أرض يشهد له العالم بالامتلاك، وأصبح أهل البلد إرهابيين، دخلاء، يُحدثون الفوضى في أرض ليست لهم! عجبا، عندما نقرأ ما أسميناه ظلما وعدوانا بـ«أدب الشتات» نتبيّن الضحيّة التي ينبغي أن يبلغ صوتها العالم. لا أحبّ التسمية النقديّة التي أُطلقت على الأدب الفلسطيني في المهجر، «أدب الشتات»، اختيارٌ مسيءٌ لا معنى له، ليس بأدب شتات، بل هو أدب شهادة على تشتيت قوم، التشتيت أو الإبادة، ولكنّ الصوت الفلسطيني حاضرٌ في أدب يعرض مباشرة أو بشكل إيحائيّ إلى الوجه القذر للاستعمار اليهودي، في «البئر الأولى» لجبرا إبراهيم جبرا، وإن كان متحدّثا عمّا يسبق الدخول الصهيونيّ، غير أنّ روح البلاد وريحها قبل تدميرها وإفساد نسائمها في حاجة إلى توثيق، في «رحلة جبليّة صعبة» لفدوى طوقان، وإن كانت الذاتيّة أغلب، في «قهوة» محمود درويش، وكلّ ما كتبه، وكلّ ما همّ بكتابته، في كتابه «ذاكرة للنسيان» الذي قال فيه: «لقد قطع عنا ممثّلو نفايات الصليبيين الماء، بينما كان صلاح الدين الأيّوبي يرسل الثلج والفواكه إلى أعدائه «لعلّ قلوبهم رق» كما كان يقول، وفي الزعتر كان القتلة يصطادون الفلسطينيّات على نبع الماء، على ماسورة الماء المكسورة، كما يصطاد الصيّادون الغزلان العطاش. الماء القاتل، الماء المخلوط بدم العطشى الذين غامروا بحياتهم من أجل كوب ماء. الماء الصالح لتحسين شروط التفاوض لدى من لم يلمس الماء إنسانيتهم اليابسة»، هذه الإنسانيّة اليابسة تتشرّب دماء الأطفال، ولا يهزّها أدب ولا فنّ، أدب الضحيّة، أدب الشهادة على هذا العصر ذي الإنسانيّة اليابسة يجب أن يُحدث ثورة جديدة، أمّا الكيف فمجهول، وأمّا الضربُ فواجبٌ، وأمّا النوع فمطلوبٌ مرغوب.
كانت الثقافة سلاحا حادّا للمقاومة، وأداةً تُرعبُ مُستعمرا غاصبا، وقد تراجع هذا الدور الثقافي إلى أبعد حدّ. لم تكن غزّة ولا حربها ولا صلابتها، ولا هزؤها من مارد صهيوني قبيح المرأى، حديثة عهد في الصلابة، ولا قوّة المقاومة، فالشعوب تتحدّد بتواريخها، وبمنجزاتها عبر التاريخ. غزّة كانت من أكبر المدن الحاضرة في المدوّنات التاريخيّة والأدبيّة العربيّة، هي مدينةٌ أتاحت لي الحربُ فرصة التنقيب عن تاريخها، وعن مأتى هذه الصلابة التي يتشبّث بها أهل غزّة بأرضهم وبوطنهم وبتاريخهم.
لقد سجّل التاريخ مدينةً ضحيّةً لعدوانٍ مُختلف الأشكال والألوان والمظاهر، هي مدينة منْجمٌ يُولّد المعاني الصعاب للكُتّاب والأدباء وللفنّانين عموما بما شهده تاريخها من تقلّباتٍ، وها هي تكتب بدماء شهدائها بالدم لا بالمداد والألوان، تاريخا للبطش والعنف ومثالا للدمار، للوحشيّة البشريّة، وكم كان اليهود عبر التاريخ شعبا مدمِّرا للبشريّة. لم تدن غزّة لقوم موسى، وكان فيها قومٌ جبّارون تُخشى مقاومتهم، ولم تدن بعد موسى لقائده يوشع بن نون، وعلى قول عارف العارف في كتابه «تاريخ غزّة»: «وأمّا غزّة فإنّها لم تدخل في حكم بني إسرائيل إلّا في أيّام سليمان الذي اعتلى منصّة الحكم بعد أبيه داود، فقد كان له جيش جرّار، ودانت له البلاد من الفرات حتّى التخوم المصريّة»، بقيت أبيّةً، عصيّةً، والأمل أن تبقى في حال اليوم كذلك، ليتفرّج العالم ويرى بأمّ عينه كيف تتحوّل الأسطورة واقعا عينيّا. إضافةً إلى عارف العارف الذي لم يقتصر على كتابه آنف الذكر في جرد «تاريخ غزة» منذ تكوّنها، ومختلف الحروب التي أثبتت أهلها في مواقعهم، بل تعدّاه إلى موسوعة في تسجيل تاريخ غزة ووقائعها في ستة أجزاء بعنوان «نكبة فلسطين والفردوس المفقود 1947- 1952» منهيا أجزاءه بـ«سجلّ الخلود» في تثبيت أسماء الشهداء الذين استشهدوا في معارك فلسطين من 1947 إلى سنة 1952، نجد أيضا كتابا مهمّا بعنوان: «إتحاف الأعزّة في تاريخ غزّة» لعثمان مصطفى الطبّاع، وقِس على ذلك ممّا يُنبئ بتاريخ حافلٍ بعملِ اليهود عبر التاريخ على تركيع غزة. أمّا في الأدب فغزّة حاضرةٌ شاهدةٌ على مجازر يصعب حدّها أو عدّها، وها هو معين بسيسو في دفاتره يُحسن وصفها ووسمها يقول: «غزة التي لوت ذات يوم قرني شمشون، وأرغمت هذا الثور الأمي الصهيوني، الذي كان يربط قصاصات النيران في ذيول بنات آوى ويطلقها فـي زمـن الحصاد، لتحرق قمح أجدادنا الفلسطينيين القدامى. غزّة أرغمت هذا الشمشون على أن يفعل رغم إرادته شيئا مفيدا، أن يجرّ طاحون المعصرة، أن يكتب معادلة موته.
السمّ الصهيوني ضدّ الزيت الفلسطيني». وتُكتب الشهادات العددُ شعرا ونثرا، تُسجّل واقعا أو تصويرا أدبيّا ما يُعانيه الفرْدُ والجمْع في مقام الاستعمار الذي أصبح استيطانا، ثمّ تحوّل اليوم بقدرة قادر صاحب أرض يشهد له العالم بالامتلاك، وأصبح أهل البلد إرهابيين، دخلاء، يُحدثون الفوضى في أرض ليست لهم! عجبا، عندما نقرأ ما أسميناه ظلما وعدوانا بـ«أدب الشتات» نتبيّن الضحيّة التي ينبغي أن يبلغ صوتها العالم. لا أحبّ التسمية النقديّة التي أُطلقت على الأدب الفلسطيني في المهجر، «أدب الشتات»، اختيارٌ مسيءٌ لا معنى له، ليس بأدب شتات، بل هو أدب شهادة على تشتيت قوم، التشتيت أو الإبادة، ولكنّ الصوت الفلسطيني حاضرٌ في أدب يعرض مباشرة أو بشكل إيحائيّ إلى الوجه القذر للاستعمار اليهودي، في «البئر الأولى» لجبرا إبراهيم جبرا، وإن كان متحدّثا عمّا يسبق الدخول الصهيونيّ، غير أنّ روح البلاد وريحها قبل تدميرها وإفساد نسائمها في حاجة إلى توثيق، في «رحلة جبليّة صعبة» لفدوى طوقان، وإن كانت الذاتيّة أغلب، في «قهوة» محمود درويش، وكلّ ما كتبه، وكلّ ما همّ بكتابته، في كتابه «ذاكرة للنسيان» الذي قال فيه: «لقد قطع عنا ممثّلو نفايات الصليبيين الماء، بينما كان صلاح الدين الأيّوبي يرسل الثلج والفواكه إلى أعدائه «لعلّ قلوبهم رق» كما كان يقول، وفي الزعتر كان القتلة يصطادون الفلسطينيّات على نبع الماء، على ماسورة الماء المكسورة، كما يصطاد الصيّادون الغزلان العطاش. الماء القاتل، الماء المخلوط بدم العطشى الذين غامروا بحياتهم من أجل كوب ماء. الماء الصالح لتحسين شروط التفاوض لدى من لم يلمس الماء إنسانيتهم اليابسة»، هذه الإنسانيّة اليابسة تتشرّب دماء الأطفال، ولا يهزّها أدب ولا فنّ، أدب الضحيّة، أدب الشهادة على هذا العصر ذي الإنسانيّة اليابسة يجب أن يُحدث ثورة جديدة، أمّا الكيف فمجهول، وأمّا الضربُ فواجبٌ، وأمّا النوع فمطلوبٌ مرغوب.