ترجمة : أحمد شافعي -
السادسة والثلث من مساء الجمعة السابع والعشرين من أكتوبر الماضي. أبنائي يلعبون في البيت الذي لجأنا إليه في مخيم اللاجئين بجباليا. تهمس لي زوجتي قائلة: «أنا جعت، تعال نأكل شيئا خفيفا». نتسلل إلى الغرفة المجاورة ونجلس على الدرج، حيث لا يحتمل كثيرًا أن يرانا أبناؤنا. أوحشتنا تلك اللحظات الخاصة، إذ ننفق الوقت معًا مازحين.
بالخارج، يومض ضوء أحمر في سماء الليل، وميضَ البرق، غير أنه لا يعقبه مطر وإنما ركام يزلزل أسطح البيوت المحيطة بنا. تتوقف مرام عن الأكل. وحينما أقف لأنظر إلى الخارج، أتقهقر أمام ضغط الهواء.
أمشي إلى أبي إذ يرفع في قلق مذياعا في الهواء. «تقول الجزيرة إنهم فقدوا الاتصال مع مراسليهم في غزة». ويضيف «لا توجد إشارة».
أخرج هاتفي من جيبي. للمرة الأولى منذ التصعيد، قبل ثلاثة أسابيع، لا وجود للإنترنت، ولا خدمة في شريحتي هاتفي كلتيهما. تطلب مني أختي الكبيرة آية -ذات الأبناء الخمسة- أن أنبهها حين أرى القنابل تسقط؛ حتى تستطيع أن تسدَّ أذنيها قبل أن يصل إليهما الدويّ. تقول «تؤلمني أذناي».
أتذكر أن في جهاز آيفون الخاص بي خدمة طارئة لطلب النجدة يمكن استعمالها في حال انقطاع الإشارة. لكنه يقول لي حينما أرفعه «أنت في منطقة لا يتوافر فيها الدعم التجريبي للاتصال عبر القمر الصناعي». أجد خيارًا آخر يطلق عليه اكتشاف الحوادث - «في حال تعرضك لحادث سيارة، بوسع آيفون أن يتصل آليا بخدمة الطوارئ». يخطر لي أن آبل ينبغي أن تخترع خاصية اسمها اكتشاف القنابل، لولا أن الناس القادرين على مساعدتنا لا يعيشون في غزة.
يسقط مزيد من القنابل. يحاول أبناء إخوتي تحذير عمتهم آية قبل اهتزاز البيت. تبدو الليلة طويلة.
في الصباح التالي، أسأل أمي الجالسة على حشيَّتها التي نامت عليها، أين أبي. تنبئني أنه ذهب بالدراجة إلى بيت لاهيا في شمالي غزة ليحضر لنا بعض زيت الزيتون والسكر. قمت بالرحلة نفسها من قبل. بعد زيارتي في الثاني عشر من أكتوبر الماضي، لإحضار بعض الخبز، كتبت لهذه المجلة عن خوفي من وقوع سقف بيتنا خلال غارة جوية.
لا تحب أمي أن نزور البيت. في أحد أحلامها، رأت بيتنا حطاما، ورأت نفسها تجمع الركام. ولم يملك أبي ألا يرجع، فقد كان عليه أن يطعم طيوره وأرانبه.
أقول: «كنت أنوي أن أطلب منه إحضار شاحن ماكينة الحلاقة الكهربائية الخاصة بي». كانت البطارية قد نفدت وأنا أحلق لابني شعره. أحاول أن أبعث رسالة نصية إلى أبي، لكنني أتذكر أنه ما من إشارة أو إنترنت. أتناول شاي الصباح. تقرأ أمي القرآن الكريم. تصفف أختاي شعر أبنائهما. تملأ مرام زجاجات الماء في المطبخ. أحاول أن أبقي الجميع هادئين، لكي لا نوقظ من لا يزالون نياما.
في قرابة الثامنة والنصف صباحا، يدخل أخي الصغير حمزة الذي يقيم مع أهل زوجته في المنطقة. يبدو الهم في عينيه من وراء نظارته. يسأل «أين أبونا؟»
أقول له: «رجع للتو بالدراجة إلى بيتنا».
يقول لنا حمزة: «أنا أيضا ذهبت منذ ساعة». وينبئنا بيديه أن البيت قد زال. أرى في صورة التقطها حمزة جزءًا من الطابق الأول الذي كان أبواي يعيشان فيه. لا شيء يوحي بأن البيت كان مؤلفا من أربعة طوابق. أذهب إلى أمي وإخوتي، وبأخفت صوت يمكنني الوصول إليه، أنبئهم بدمار بيتنا. بطريقة ما تبقى أمي هادئة. تقول: «الحمد لله أن أحدا منا لم يصبه أذى». يقترح صهري أحمد أن نذهب بدراجاتنا بحثا عن أبي. بعد ثلاثمائة متر فقط، نراه، مطأطئ الرأس، يمضي بالدراجة. ينبئني أبي لاحقًا أن الحطام كسا كل شبر في الشارع المفضي إلى بيتنا. لم يطعم بطاته الخمس عشرة، ودجاجاته الثلاثين، وأرانبه الخمسة، وحماماته الست. يقول: «لعل بعضها حي وعالق تحت الأنقاض». لكنه وقد رأى البيت المقصوف وسمع أزيز الطائرات المسيَّرة المرعب، قفل راجعًا إلى المخيم. نرجع إلى «البيت»، ونجلس جميعنا إلى الأرض. ولا أدرك إلا بعد وقت: إنني لم أفقد فقط بيتي وغرفه، بل وثيابي الجديدة أيضا، وأحذيتي، وساعاتي. وكتبي هي الأخرى. أتذكر بأي بطء أقمت مكتبتي الشخصية، وكم كان أصدقائي يستغرقون من وقت كي يرسلوا الكتب إلى غزة بالبريد. حينما رجعت من الولايات المتحدة في فبراير 2021، حشوت حقيبة أسرتي بمائة وعشرين كتابا. كان لزاما عليَّ أن أتخلص من بعض أحذيتي وثيابي لأفسح مكانا. ولما رجعت في مايو 2023، حملت حقيبة إضافية فيها قرابة سبعين كتابا. على بعضها توقيعات أصدقائي كيثي بوليت، وستيفن جرينبلات، وريتشارد هوفمان، وآمييل ألكالاي، وجوناثان دي. تصور ضابط الجوازات أن جواز سفري منتهي الصلاحية؛ لأنه قرأه بالعكس، أي من اليسار إلى اليمين. وفي الرحلة من القاهرة التوى كتفي من حمل حقائبي الثقيلة. قبل أقل من شهرين، كنت في فيلادلفيا لحضور مهرجان أدبي، وكنت أخطط لزيارة سان فرانسيسكو. لكن شعورًا انتابني بأن الوضع في غزة غير مستقر، فقررت أن أختصر إجازتي. وقبل أن أسافر إلى الوطن سألت صديقي حسن أن يحضر بالسيارة إلى سيراكيوز ليحضر لي خمسة وثلاثين كتابا كنت قد تركتها معه. كان بينها المجلدات الخمسة الثقال لـ«موسوعة جرينوود للشعراء والشعر في أمريكا». كان من الصعب أن أصدق ما فقدناه، فقررت أن أرجع إلى بيتنا في بيت لاهيا لأرى بعيني رأسي ما جرى له. وفيما كنت أدنو من منطقة حطام بيتي، توقفت مذعورا، وما كان السبب في ذعري هو المشهد وحده، ولكن أصوات الطائرات المسيّرة والطائرات المقاتلة والقنابل المنهمرة على أحياء قريبة. أرجو لو أعثر فقط على نسخ من ديواني، ربما على مقربة من شجرة الزيتون في بيت جارنا، ولكن ليس ثمة إلا حطام. ولا شيء إلا رائحة الانفجارات. أجلس الآن في بيتي المؤقت في مخيم جباليا، في انتظار وقف إطلاق النار. أشعر وكأني في قفص. أموت كل يوم مع شعبي. ليس بوسعي أن أفعل إلا شيئين: الذعر والتنفس. وما من أمل هنا.
أخطط للرجوع إلى الحطام بحثا عن كتبي ولإنقاذ ما يمكنني إنقاذه. لن أضع الكتب هذه المرة على أرفف. أريد فقط أن أطمئن إلى أن الصفحات سليمة. وأخي حمزة سوف يفعل مثل ذلك مع كتبه، كتب النحو والأدب العربي التي قضى عشر سنين وهو يجمعها. كلانا يدعو ألا تمطر في الأيام القادمة فتغرق الصفحات.
في الحادي والثلاثين من أكتوبر، تهزنا ونحن في البيت ثلاثة انفجارات كبيرة. تتحطم الشبابيك. يطير الحطام والغبار حتى غرفة المعيشة. نهرع جميعًا إلى غرفتي النوم، ناظرين إلى السقف. قنبلة سقطت على بعد سبعين مترا. أتت على حي بالكامل.
في وقت لاحق، يظهر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي على شاشة (سي إن إن) ويقول إن الهجوم على جبالبا كان يستهدف قياديًّا في حماس. حينما يسأله المذيع عن المدنيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي يقول المتحدث إن «هذه هي مأساة الحرب».
في اليوم التالي، وأنا أكتب جزءًا من هذه المقالة على هاتفي أسمع انفجارًا آخر شديد القرب. أسارع إلى الموقع على بعد مائتي متر تقريبا، غير بعيد من مدرسة تديرها الأمم المتحدة. أرى امرأة وأطفالا مصابين تنزف وجوههم وصدورهم. نار ضخمة تضطرم. أعثر على صيدلية، أفتش في جسدي عن جروح، وأحاول أن أساعد الناس من حولي. مرة أخرى، ننجو. حلمت زوجتي أخيرا بأنها تجمع لحما مجمَّدا. في الحلم رأت نفسها تقول: «هذه ذراع ابني. هذه ساق ابنتي».
لولا الحرب، لكنت ألعب كرة القدم مع أصدقائي مرتين في الأسبوع. لكنت أذهب إلى السينما مع زوجتي. لكنت أقرأ كتبا في أرفف مكتبتي. لكنت أصطحب أبنائي إلى الملعب، وإلى الشاطئ. لكنت أركب دراجتي مع ابني يزن على الطريق الشاطئي. لكن ما من كتب الآن، أو مكتبة، أو طريق شاطئي.
مصعب أبو توهة شاعر فلسطيني من غزة. وصل كتابه الشعري الأول «أشياء قد تجدونها مخبّأةً في أُذني» إلى التصفيات الأخير لجائزة حلقة نقاد الأدب الوطنية وفاز بجائزة الكتاب الأمريكية.
نشر المقال في «ذي نيويوركر»
السادسة والثلث من مساء الجمعة السابع والعشرين من أكتوبر الماضي. أبنائي يلعبون في البيت الذي لجأنا إليه في مخيم اللاجئين بجباليا. تهمس لي زوجتي قائلة: «أنا جعت، تعال نأكل شيئا خفيفا». نتسلل إلى الغرفة المجاورة ونجلس على الدرج، حيث لا يحتمل كثيرًا أن يرانا أبناؤنا. أوحشتنا تلك اللحظات الخاصة، إذ ننفق الوقت معًا مازحين.
بالخارج، يومض ضوء أحمر في سماء الليل، وميضَ البرق، غير أنه لا يعقبه مطر وإنما ركام يزلزل أسطح البيوت المحيطة بنا. تتوقف مرام عن الأكل. وحينما أقف لأنظر إلى الخارج، أتقهقر أمام ضغط الهواء.
أمشي إلى أبي إذ يرفع في قلق مذياعا في الهواء. «تقول الجزيرة إنهم فقدوا الاتصال مع مراسليهم في غزة». ويضيف «لا توجد إشارة».
أخرج هاتفي من جيبي. للمرة الأولى منذ التصعيد، قبل ثلاثة أسابيع، لا وجود للإنترنت، ولا خدمة في شريحتي هاتفي كلتيهما. تطلب مني أختي الكبيرة آية -ذات الأبناء الخمسة- أن أنبهها حين أرى القنابل تسقط؛ حتى تستطيع أن تسدَّ أذنيها قبل أن يصل إليهما الدويّ. تقول «تؤلمني أذناي».
أتذكر أن في جهاز آيفون الخاص بي خدمة طارئة لطلب النجدة يمكن استعمالها في حال انقطاع الإشارة. لكنه يقول لي حينما أرفعه «أنت في منطقة لا يتوافر فيها الدعم التجريبي للاتصال عبر القمر الصناعي». أجد خيارًا آخر يطلق عليه اكتشاف الحوادث - «في حال تعرضك لحادث سيارة، بوسع آيفون أن يتصل آليا بخدمة الطوارئ». يخطر لي أن آبل ينبغي أن تخترع خاصية اسمها اكتشاف القنابل، لولا أن الناس القادرين على مساعدتنا لا يعيشون في غزة.
يسقط مزيد من القنابل. يحاول أبناء إخوتي تحذير عمتهم آية قبل اهتزاز البيت. تبدو الليلة طويلة.
في الصباح التالي، أسأل أمي الجالسة على حشيَّتها التي نامت عليها، أين أبي. تنبئني أنه ذهب بالدراجة إلى بيت لاهيا في شمالي غزة ليحضر لنا بعض زيت الزيتون والسكر. قمت بالرحلة نفسها من قبل. بعد زيارتي في الثاني عشر من أكتوبر الماضي، لإحضار بعض الخبز، كتبت لهذه المجلة عن خوفي من وقوع سقف بيتنا خلال غارة جوية.
لا تحب أمي أن نزور البيت. في أحد أحلامها، رأت بيتنا حطاما، ورأت نفسها تجمع الركام. ولم يملك أبي ألا يرجع، فقد كان عليه أن يطعم طيوره وأرانبه.
أقول: «كنت أنوي أن أطلب منه إحضار شاحن ماكينة الحلاقة الكهربائية الخاصة بي». كانت البطارية قد نفدت وأنا أحلق لابني شعره. أحاول أن أبعث رسالة نصية إلى أبي، لكنني أتذكر أنه ما من إشارة أو إنترنت. أتناول شاي الصباح. تقرأ أمي القرآن الكريم. تصفف أختاي شعر أبنائهما. تملأ مرام زجاجات الماء في المطبخ. أحاول أن أبقي الجميع هادئين، لكي لا نوقظ من لا يزالون نياما.
في قرابة الثامنة والنصف صباحا، يدخل أخي الصغير حمزة الذي يقيم مع أهل زوجته في المنطقة. يبدو الهم في عينيه من وراء نظارته. يسأل «أين أبونا؟»
أقول له: «رجع للتو بالدراجة إلى بيتنا».
يقول لنا حمزة: «أنا أيضا ذهبت منذ ساعة». وينبئنا بيديه أن البيت قد زال. أرى في صورة التقطها حمزة جزءًا من الطابق الأول الذي كان أبواي يعيشان فيه. لا شيء يوحي بأن البيت كان مؤلفا من أربعة طوابق. أذهب إلى أمي وإخوتي، وبأخفت صوت يمكنني الوصول إليه، أنبئهم بدمار بيتنا. بطريقة ما تبقى أمي هادئة. تقول: «الحمد لله أن أحدا منا لم يصبه أذى». يقترح صهري أحمد أن نذهب بدراجاتنا بحثا عن أبي. بعد ثلاثمائة متر فقط، نراه، مطأطئ الرأس، يمضي بالدراجة. ينبئني أبي لاحقًا أن الحطام كسا كل شبر في الشارع المفضي إلى بيتنا. لم يطعم بطاته الخمس عشرة، ودجاجاته الثلاثين، وأرانبه الخمسة، وحماماته الست. يقول: «لعل بعضها حي وعالق تحت الأنقاض». لكنه وقد رأى البيت المقصوف وسمع أزيز الطائرات المسيَّرة المرعب، قفل راجعًا إلى المخيم. نرجع إلى «البيت»، ونجلس جميعنا إلى الأرض. ولا أدرك إلا بعد وقت: إنني لم أفقد فقط بيتي وغرفه، بل وثيابي الجديدة أيضا، وأحذيتي، وساعاتي. وكتبي هي الأخرى. أتذكر بأي بطء أقمت مكتبتي الشخصية، وكم كان أصدقائي يستغرقون من وقت كي يرسلوا الكتب إلى غزة بالبريد. حينما رجعت من الولايات المتحدة في فبراير 2021، حشوت حقيبة أسرتي بمائة وعشرين كتابا. كان لزاما عليَّ أن أتخلص من بعض أحذيتي وثيابي لأفسح مكانا. ولما رجعت في مايو 2023، حملت حقيبة إضافية فيها قرابة سبعين كتابا. على بعضها توقيعات أصدقائي كيثي بوليت، وستيفن جرينبلات، وريتشارد هوفمان، وآمييل ألكالاي، وجوناثان دي. تصور ضابط الجوازات أن جواز سفري منتهي الصلاحية؛ لأنه قرأه بالعكس، أي من اليسار إلى اليمين. وفي الرحلة من القاهرة التوى كتفي من حمل حقائبي الثقيلة. قبل أقل من شهرين، كنت في فيلادلفيا لحضور مهرجان أدبي، وكنت أخطط لزيارة سان فرانسيسكو. لكن شعورًا انتابني بأن الوضع في غزة غير مستقر، فقررت أن أختصر إجازتي. وقبل أن أسافر إلى الوطن سألت صديقي حسن أن يحضر بالسيارة إلى سيراكيوز ليحضر لي خمسة وثلاثين كتابا كنت قد تركتها معه. كان بينها المجلدات الخمسة الثقال لـ«موسوعة جرينوود للشعراء والشعر في أمريكا». كان من الصعب أن أصدق ما فقدناه، فقررت أن أرجع إلى بيتنا في بيت لاهيا لأرى بعيني رأسي ما جرى له. وفيما كنت أدنو من منطقة حطام بيتي، توقفت مذعورا، وما كان السبب في ذعري هو المشهد وحده، ولكن أصوات الطائرات المسيّرة والطائرات المقاتلة والقنابل المنهمرة على أحياء قريبة. أرجو لو أعثر فقط على نسخ من ديواني، ربما على مقربة من شجرة الزيتون في بيت جارنا، ولكن ليس ثمة إلا حطام. ولا شيء إلا رائحة الانفجارات. أجلس الآن في بيتي المؤقت في مخيم جباليا، في انتظار وقف إطلاق النار. أشعر وكأني في قفص. أموت كل يوم مع شعبي. ليس بوسعي أن أفعل إلا شيئين: الذعر والتنفس. وما من أمل هنا.
أخطط للرجوع إلى الحطام بحثا عن كتبي ولإنقاذ ما يمكنني إنقاذه. لن أضع الكتب هذه المرة على أرفف. أريد فقط أن أطمئن إلى أن الصفحات سليمة. وأخي حمزة سوف يفعل مثل ذلك مع كتبه، كتب النحو والأدب العربي التي قضى عشر سنين وهو يجمعها. كلانا يدعو ألا تمطر في الأيام القادمة فتغرق الصفحات.
في الحادي والثلاثين من أكتوبر، تهزنا ونحن في البيت ثلاثة انفجارات كبيرة. تتحطم الشبابيك. يطير الحطام والغبار حتى غرفة المعيشة. نهرع جميعًا إلى غرفتي النوم، ناظرين إلى السقف. قنبلة سقطت على بعد سبعين مترا. أتت على حي بالكامل.
في وقت لاحق، يظهر متحدث باسم الجيش الإسرائيلي على شاشة (سي إن إن) ويقول إن الهجوم على جبالبا كان يستهدف قياديًّا في حماس. حينما يسأله المذيع عن المدنيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي يقول المتحدث إن «هذه هي مأساة الحرب».
في اليوم التالي، وأنا أكتب جزءًا من هذه المقالة على هاتفي أسمع انفجارًا آخر شديد القرب. أسارع إلى الموقع على بعد مائتي متر تقريبا، غير بعيد من مدرسة تديرها الأمم المتحدة. أرى امرأة وأطفالا مصابين تنزف وجوههم وصدورهم. نار ضخمة تضطرم. أعثر على صيدلية، أفتش في جسدي عن جروح، وأحاول أن أساعد الناس من حولي. مرة أخرى، ننجو. حلمت زوجتي أخيرا بأنها تجمع لحما مجمَّدا. في الحلم رأت نفسها تقول: «هذه ذراع ابني. هذه ساق ابنتي».
لولا الحرب، لكنت ألعب كرة القدم مع أصدقائي مرتين في الأسبوع. لكنت أذهب إلى السينما مع زوجتي. لكنت أقرأ كتبا في أرفف مكتبتي. لكنت أصطحب أبنائي إلى الملعب، وإلى الشاطئ. لكنت أركب دراجتي مع ابني يزن على الطريق الشاطئي. لكن ما من كتب الآن، أو مكتبة، أو طريق شاطئي.
مصعب أبو توهة شاعر فلسطيني من غزة. وصل كتابه الشعري الأول «أشياء قد تجدونها مخبّأةً في أُذني» إلى التصفيات الأخير لجائزة حلقة نقاد الأدب الوطنية وفاز بجائزة الكتاب الأمريكية.
نشر المقال في «ذي نيويوركر»