أتسمر في غرفة معتمة إلا من إضاءة كاميرا تصوير يبزغ منها ضوء بسيط. تطلّ كلماتي من ثغري إلى عالم ينتظر صبرها. وأطفال رحمي يتساقطون. الصورة تقطر دمًا في داخلي. بينما يختفي اللون عن وجهي.

نزيف يبحر بي وبغزة في قارب لا يقبل سراب واحة في الصحراء. كيس تلو الآخر تملأه الدماء يغادرني إلى الرماد. كنت وغزة في جسد يغادر مساحته من الأمان.

الطوابق سوّت بالأرض، كانت تفتعل عمارة للسكان، ضجيجًا حكواتيًا لقصصهم، احتضنت الأسرة الفلسطينية بين جدرانها الضيقة. أين لجأت الأصوات الناعمة تحت وطأة من صراخ الطائرات المهتاجة بذخيرتها.

فرغت وابل غضبها سرًا وسمًا في رحمي. ورصاصًا ومواد متفجرة بأطفال طوابقي. لربما يشتاقون لخيمات تضم بقيتنا فوق كومة من الركام. لم تعد حضارة في البناء تناسب المدى في تصويرهم المسائي لوجودنا.

«بابا انزللهم» طفلي ينادي والده لرمي الحجارة على طائرة عنيفة ضلّت طريقها. «باربي، بدي باربي» طفلة حفظت عن ذاكرة أمانها اسم لعبتها.

«ضللي واحد؟» أم قبرت أطفالها الأربعة، تتضرع إلى السماء ولو ببقية حياة في أحد أبنائها. «بين الأرجل أسير ليلَا» ممرض يحصي أعداد النازحين إلى مكان آمن، ما من مأوى لهم، وما من أسرّة بقيت لجريح قادم إلى علاجنا. يصل بوابة المصعد كانت معتمة. فرغ المكان من الوقود.

«من ثمانية أيام ما أكلت، قبل شوي حتى التمرة ما أكلتها» لا تريد مغادرة فراشها على أرض مشفى، تريد أن تموت ولا تضيع في صحراء بعيدة.

جفّ رحمي، والمشاعر لم تجف. أو لربما تصوراتي عنها، أسقطوا عني دهون جسدي، أذابوني على مهل، حتى كانت الجرعة الكبيرة. قتلوني مرة واحدة وبقي مني صوت وحرف وانتماء إلى ذاكرة إنسان - لا يريد الاعتذار عن تغريبته.

ينفجر المصوّرون والصحفيون والإعلاميون وما زالت الكاميرا تبحث عن شحوب في وجهي، كما أوصاها صانعو الموت المدبر. ملّوا إشراقًا كفلته لي الأمواج في بحري.

لا القمر ولا الشمس تلملما في ثوب يسدل ساعات اليوم على قدري، كنت غزة وكان الصبر والجبل فينا معًا.

ينسحب البنيان شيئًا فشيئًا من إدراك يصل إلى تواقيت أرخت حيّنا في الذاكرة. عرق العمال، زرع الفلاح، مكنسة قشت من هذا الشارع بذور السهر يومًا.

العناوين تسقط، وجديد ما يُكتب. أين الحداثة في روح نبأ لا يعلم عن المكان إلا خرائط الأخبار. الانفجارات تتوالى لم تعد ساخنة، اكتنزت البرودة مباغتة حتمية مع القدر.

لعب الإيمان في قدر الجماعة رصاصة الرحمة. لكنه الحب الأمل الشوق الغضب، لا وقت للحزن، فنحن في سجنه، والابتسامة ترسم ثغرها على وجوه الأطفال الضائعين من سنة دراسية.

حتى المخيم افتعل يومًا من المرح، يطلّ مراسل صغير يمسك بقبضة يده لمبة كميكرفون محتمل، يهزأ يسخر يضحك على هدير طائرة. ويصبح نجم الواقع على صفحات سوشيال ميديا، تتلوّى بين الترفيه والملل والشبق إلى عدل في موت محتمل.

أين الرقصة الأخيرة في صفحات الهوية، أتتربع على جرس القيمة الخفية؟ أين تقبع القيم في إبادة العصر الجماعية؟ هل اختلفت حسابات المعارك ووهنت سرًا منها القواعد؟

مع كل تلك الجثامين المتفحّمة والرخوة المضرجة بعذابات الدماء، فقدت العيون ماءها وكسا الدخان الأسود بغباشه صدق العاطفة. سرعة الإحصاء في ذرات المادة امتلكت ذراعي الربح والخسارة.

ماذا! ضاع الإنسان واحترق رحمي في أرضي. لكنه الضياء يغطي وجهي الشاحب، في صباح يوم لم أكن لأحسب الإذن في توقيته. وأنتم كذلك لن تمتلكوا منه الإذن.

قد تتشوّه المخيلة والسرديات والألوان فيكم، لكنها حتمًا تبقى فينا نحن من نمتلك الأمل والألم.

شعبي أقبل أقدامكم.

نيروز قرموط كاتبة وباحثة فلسطينية من غزة