شهدت السينما الفلسطينية تغييرات عديدة رافقت تحولات العملية السياسية نفسها. فصورت الكفاح المسلّح، وسينما الشتات الفلسطيني، وبؤس اللجوء الفلسطيني بعد سنة 1982 ثم تأثرت السينما الفلسطينية باتفاقية أوسلو فتحولت من كونها سينما تعكس الهوية الفلسطينية لسينما تعكس الوطنية (١)، وكانت السينما الفلسطينية في المرحلة «النضالية» قد صنعت في مراكز تجمع المنظمات الفلسطينية المنضوية تحت منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان والأردن ثم توقفت مع أحداث أيلول الأسود 1970 (٢) وتميزت سينما هذه المرحلة في كونها تحريضية انفعالية لا تملك رؤية استراتيجية، تغالي في الخطاب على حساب فنية العمل (٣).

بين السبعينات والألفين اختفى الفدائي وحل محله البائس. تحولت الأوضاع في فلسطين مثلها مثل معظم مناطق العالم لتقتحمها النيوليبرالية في التسعينات وتحول منظمة التحرير لتكون مؤسسة ذات طبيعة ريعية ووظيفة أمنية (٤)، ظللت السردية الفلسطينية وكيفية تقديمها لا في السينما فحسب بل في الآداب والفنون الأخرى.

لقد فرضت أوسلو سياقات عديدة فصلت الفلسطينيين وفككت سرديتهم، لتقدم سرديات لا تعود بالضرورة للنكبة، التي تنتج واقع الحياة المعاش، لقد بدأ كل نطاق يقدم سردية وكأنه موطن خاص. ولعل إيليا أبو سليمان في فيلمه «يد إلهية» الذي أنتج عام 2002 أي مع الانتفاضة الثانية، مثال نموذجي على ذلك. الفيلم يقدم قصصًا منفصلة ومتوازية يتم بناء كل قصة منها على حدة لا بالسرد فحسب، بل بزاوية التصوير التي يختارها المخرج، فكل قصة لها زاويتها الخاصة لالتقاطها. يجب أن نذكر أن إيليا أبو سليمان من الناصرة، أي من الداخل المحتل، وهو يصور هذا الفيلم في الناصرة والقدس ورام الله، وتنقل المشاهد العبثية والساخرة لأبو سليمان وضع المدن بعد منع التجوال والتنقل خارجها بسبب الانتفاضة الثانية. الحياة تظهر في الفيلم في دائرة ضيقة، تضيق كل يوم مع حياة مستلبة تمامًا، بينما العالم يعيش صخب واحتفال مونديال كأس العالم 2002 في كوريا الجنوبية. تؤثر سياسات الاستعمار على كل شيء حسب الفيلم، حتى على بناء العلاقات العاطفية، وتتفاوت مشاهد الفيلم في فنيتها، ثمة مشاهد أضعفت الفيلم مثل مشهد سائحة تسأل عن مزار في القدس، وتلجأ لضابط إسرائيلي فيلجأ هذا الأخير الذي لا يعرف الطريق لذلك المزار لفلسطيني مسجون في سيارته ومعصوب العينين فيدلها على المكان. ويبقى السؤال هل يظهر أي مكان آخر في فلسطين في هذا الفيلم؟ هل هنالك أي امتداد لفلسطين الكبرى ونكبتها؟ لم يكن الحال كذلك.

مع بدايات العقد الثاني من الألفية الثالثة تستدرك هذه السينما هويتها الفلسطينية الجامعة، فتلتفت للهوية الثقافية المعززة بالمحليات في مقابل الوطنية السياسية العازلة للمحليات (٥) وهكذا فإن السينما الفلسطينية تحركت في أفق التحولات السياسية، ففي إحدى مراحلها قامت سلطة الاحتلال بالمساهمة في انتاج أفلام فلسطينية خصوصًا لفلسطينيي الداخل المحتل ممن يحملون الهوية الإسرائيلية، وقد كانت هذه مرحلة ينبغي أن تتوقف معها البحوث والدراسات، في ثيماتها ومعالجاتها التي غالبًا ما تقدم الفلسطيني في دور الضحية السلبي.

وتعد أفلام مخيمات اللجوء الفلسطيني من أهم الأفلام في العقد الأخير للسينما الفلسطينية أبرزها فيلمان رائعان للغاية هما: عالم ليس لنا عن مخيم عين الحلوة في لبنان والذي أنتج عام ٢٠١٥ للمخرج الفلسطيني/ الدرنماركي مهدي فليفل ورشح لجائزة الفيلم الوثائقي لمسابقة الأوسكار في ذلك العام وكنتُ قد كتبتُ عن هذا الفيلم في مناسبات عديدة نشرت إحدى القراءات عبر ملحق «عمان» الثقافي. وهنالك تجربة سينمائية أخرى لكن هذه المرة حول المخيم الفلسطيني في سوريا «مخيم اليرموك» وهو فيلم «فلسطين الصغرى» والذي صدر في يناير 2022 تأليف وإخراج وأداء عبد الله الخطيب. يصور الفيلم الحصار الذي فرضه الأسد على مخيم اليرموك منذ عام 2013 وحتى عام 2015 تذهب كل أحداث الفيلم نحو تجسيد مقولة «السكينة قرب موقد النار قد انتهت للأبد.» يلتقي الفيلم بعجائز هجرن من فلسطين مع نكبة 48 بالتوازي مع مشاهد الأطفال الذين لم يعرفوا فلسطين لكنهم يريدون أن تعيدهم الطائرات إليها. نشاهد كفاح أهل المخيم لمقاومة تهجيرهم وإعادة جرح النكبة مجددًا. يرينا الفيلم كيف أن المخيمات هي فلسطين الفكرة المعنوية كما يصفها إدوارد سعيد، أو كما عبر سليم البيك في دراسته عن السينما الفلسطينية خاتمًا إياها بـ «أقترح فيما يتعلق بالهوية أن نستعيد سؤال رشيد الخالدي في كتابه الهوية الفلسطينية والذي يقول فيه ما هي حدود فلسطين؟ ولمفردة حدود كتب Limits ولم يكتب Borders. فالحديث ليس عن حدود مادية، وإنما تلك المعنوية: تلك التي تحيل إلى فلسطين/الفكرة، بحسب إدوارد سعيد تلك المتنوعة المحليات والإنسانية التناول.» فما الذي يعنيه أن تعيش لاجئًا في مخيم، تولد فيه دون أن تتحصل على جنسية البلاد التي ولدتَ فيها، ويصبح المخيم في كل مرة طاردًا، وتصبح رحلة اللجوء رحلة لا تتوقف أبدًا كل يوم بالمعنى المباشر والبلاغي. ينقل الفيلم حالات الجوع والجزع لكنه في الوقت نفسه، ينقل نكات الرجال بينما يتجمعون معًا، جدالاتهم، واتحادهم من أجل المخيم/الوطن وإن كان متطيرًا بالنسبة لهم.

يهمني في هذه المقالة وبشكل خاص تقديم قراءة جديدة عن فيلم حديث مهم للغاية أنتج عام 2017 وهو فيلم اصطياد أشباح.

مدخل لابد منه:

لابد وأنكم جميعًا شاهدتم العمال الغزيين العالقين بالضفة الغربية منذ بداية العدوان الأخير على غزة. تُظهر الصور مراتب ملقاة على الأرض في ساحة ملعب صغير، القليل من الممتلكات والأغطية الملونة، والوجوه الواجمة التي تشق طريقها من تلك الصور القليلة القادمة من المجمع الترويحي في رام الله وصولًا للعالم أجمع.

كان ترتيبًا قدريًا، أن تكون هذه القاعة نفسها، هي التي صَوّر فيها المخرج الفلسطيني رائد أنضوني، فيلمه المثير للجدل: «اصطياد أشباح» عام 2017. أعاد أنضوني في هذه القاعة بناء سجن المسكوبية الإسرائيلي، بعد أن أعَلن عبر صحيفة محلية حاجته لممثلين سبق لهم وأن خاضوا تجربة الاعتقال. ثم يقرر أنضوني أن تصبح مقابلات العمل ومراحل بناء السجن الافتراضي هي موضوع الفيلم الأساسي، ليجمع الفيلم بين الروائي والتسجيلي.

البناء

يخفي المخرج وعن قصد الحدود الواضحة والفاصلة بين الواقع والأحلام عندما يقرر افتتاح فيلمه بمشهد لرسم كرتوني داخل مقر السجن الافتراضي الجديد. يختلف هذا المشهد ويكون غريبًا في بنية الفيلم، يتألم هذا الرسم وتقيده السلاسل وإرهاب تجربة السجن القاسية. وفورًا بعد هذه المشاهد، نختبر مع المخرج الذي يشارك بنفسه في هذا الفيلم مع بقية المشاركين المراحل الأولى للاعتقال، عبر تعمية الوجه بربط كيس حوله فلا يعرف المعتقل إلى أين يؤخذ وما الذي سيحل به. يبدأون فورًا بالحديث عن هندسة مكان السجن الافتراضي، كيف يجعلونه يشبه ذلك الذي كان في سجن المسكوبية، يقترح أحدهم وضع صورة لهرتزل لأنها كانت في مكتب المحقق بالفعل، يقول آخر إن السجن ينبغي أن يقسم لأقسام يسميها (الخزانة، الانفرادي، الشبح، الاستجواب).

يحاول أنضوني من خلال هذا الفيلم أن يتحرر من تجربة اعتقاله هو شخصيًا عندما كان في الثامنة عشرة من عمره، وتصبح تجربة الفيلم مختبرًا حيًا لبعث الذاكرة الجماعية والشخصية لمعاناة الأسير الفلسطيني. اذ أن جميع الموجودين في كادر الفيلم سجنوا لسنوات، وخاضوا أقسى تجارب التعذيب. يبدل أنضوني في مناورة ذكية بين السجان والسجين، فتارة يقلد أحدهم دور سجانه وتارة أخرى يكون هو السجين. كيف يعيد هؤلاء اختبار هذا من جديد؟ يشبه الأمر ما كتبه بول ريكور في كتابه «التاريخ والنسيان»: أن تتذكر شيئًا معينًا لا يعني فقط استقبال صورة من الماضي وتلقيها، بل كذلك البحث عنها، أي عمل شيء ما...» وتصبح تجربة السجن ما كتبه الباحث الفلسطيني إسماعيل ناشف في كتابه ( في مقاربة النكبة تعبيريًا) «الحدث كله تعبير». يصبح هذا السجن الافتراضي إذًا مكانًا رمزيًا، يُعبَر به ومن خلاله عن تلك الكارثة المروعة. يتخلى أنضوني عن الموسيقى التصويرية في الفيلم عدا في ثلاثة مشاهد تقريبًا، إننا نسمع صوت الطرق على الخشب الذي يستخدم لبناء السجن، والأحاديث الجانبية، الأغاني التي يتسلى بها العمال، والصمت الرهيب الذي يستدرك محادثة قائمة ليعبر عن عجز اللغة عن لمس ما حدث بالفعل.

الترميم:

يجسد كل سجين في هذا الفيلم جسد الفلسطيني الذي يصادر، والذي تقع عليه سياسات استعمارية متطرفة، تعبر عن نفسها بثورات الغضب، أو بالاعترافات، « فإذا كان الترميم هو «علاج يستخدم المواد الأصلية ليعيد تشكيل هيكل ما لنظامه الأصلي» فإن سجن اصطياد أشباح يفعل هذا أيضًا، عندما تستدعي عملية بناء السجن هذا ضراوة تلك التجربة وتبدأ في ثورة تطهيرية مفترضة. لكن لم يكتفِ انضوني بهذا فحسب؛ لأننا رأينا مشاهد عنف في الفيلم، لم نعرف لمَ قدمت بتلك الوحشية، فها هو أنضوني نفسه يتعرض للخنق والضرب من أحد المشاركين الذي يلعب في هذا المشهد دور السجان. إن هذا الإرباك الهائل هو ما جعل استقبال الفيلم منذ 2017 متباينًا، فعلى الرغم من حصوله على جائزة أفضل فيلم وثائقي في مهرجان برلين في العام نفسه، إلا أن البعض رفض الفيلم بدعوى أنه بدلًا من أن يكون فرصة للتعافي، هو فرصة لإعادة تلك الأشباح المقبضة، والدليل على ذلك مشاهد العنف غير المبسترة من الفيلم.

تتعامل الكاميرا مع مشاهد الاعترافات بخصوصية. ففي أحد مشاهد الذروة في الفيلم، يبكي أحد المساجين متذكرًا قصة أخيه، لكن الكاميرا تقف بعيدة ولا نرى منه سوى ظهره بينما يواجهنا أنضوني وهو يتقدم لاحتضانه. تُظهر الكاميرا صورة الأقدام. وفي مشهد آخر يتحدث سجين عن آخر اسمه غسان من الخليل، الذي يقابل العنف بالسخرية ليحول السجن لمكان مختلف، تلتقط الكاميرا لنا وجه المتحدث من الجانب، يقول له زميله: «المصخرة سلاح» فيدخل المتحدث في نوبة صمت، وقعها الحسي علينا وعلى زميله هائلة، الكاميرا تتحرك ببطء ليخرج هو من الكادر، ويبقى زميله فيه بينما يحدقُ فيه وهو خارج كادرنا نحن. في مشهد آخر يتحدث سجينان عن انطباعهما عن إعادة تمثيل ما حدث معهما، عن الألم في ذلك، لكن من يظهرون في الكادر، ليس من يتحدثون، بل المخرج وشخص آخر معه دون أن نسمع ما يقولونه. أحد السجناء يواجه لوحة مرسومة بقلم حبر لأمه، يعلقها على جدار السجن الافتراضي، لا نحدقُ فيه؛ لأن الصورة تلتقط لنا مظهره من الخلف وهو يحدق في اللوحة.

إعادة التخريب:

يعاد تخريب المكان عبر الحياة فيه. وما الذي تعنيه الحياة في السجن؟ حتى مع تثبيت السجن الافتراضي لشروطه داخل الفيلم، إلا أن ختام الفيلم يتحدى تلك الشروط، فيحتفل المشاركون بعرس أحدهم بعد عشرة أيام. ثم تظهر المرأة أخيرًا، أسيرة تزور المكان وتتفقده لا كزوجة ولا حبيبة بل كواحدة اختبرت سجن المسكوبية أيضًا. وتباشر فورًا تحديد ما إذا كانت مقاسات السجن الانفرادي صحيحة، وتتحدث عن الأمر كما لو أنه حدث عادي تتشاركه كنكتة عابرة مع الرجال الذين صنعوا صورة سجنهم في هذا المكان. ولا ينبغي أن ننسى الفنية العالية التي اتسمت بها المشاهد الروائية من هذا الفيلم للممثل الرائع رمزي مقدسي الذي كان يلعب دور الأسير محمد خطاب «أبو عطا» وتفكك المشاهد المتداخلة بين الروائي والتسجيلي عرى تجربة السجن المريرة والتي لن تتكرر. هذا التخريب على مستوى الشكل والمضمون يعيد بناء موقف الفلسطينين من الوجود ورغبتهم في الحياة والتحامهم بها على الرغم من العلاقات الشائكة التي اقتحمها الاحتلال في مخيال هذه الأمة المنكوبة.

الهوامش:

١- السينما بصفتها هوية: الحالة الفلسطينية في العقدين الأخيرين – سليم البيك – مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 130 عام 2022

٢- السينما الفلسطينية – فاضل الكواكبي – مجلة الثقافة العربية في القرن العشرين المجلد الثاني عام 2018

٣- مراجعة كتاب السينما الفلسطينية في القرن العشرين – نبيلة علي – المجلة السورية للعلوم الإنسانية العدد الثامن – عام 2018

٤- السينما بصفتها هوية: الحالة الفلسطينية في العقدين الأخيرين – سليم البيك – مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 130 عام 2022

٥- المرجع السابق

أمل السعيدي قاصة وكاتبة عمانية