اعتقل النازيون زوجة «هنري ماتيس» وابنته الوحيدة إبان الحرب العالمية الثانية، لكن ذلك لم يمنعه من الاستمرار في رسم الأزهار، تلك كانت طريقته في مواجهة الظلم ومقاومته.
فالفن التشكيلي ليكون فناً مقاوماً لا يشترط رسم موضوعات بعينها بطريقة مباشرة، كأن تختص اللوحة برجالات المقاومة أحياناً، وقد تستوجب رسم الأعلام تارة والخرائط تارةً أخرى؛ لأن الفن ببساطة يمتلك أدوات تستطيع العمل على مستوياتٍ أعمق من الفهم، دون أن تشير بشكلٍ مباشر لما تدعمه، وبالطبع نحن هنا لا نعيب على من يرسم الرموز الواضحة في عمله ويمسك ذهن المتلقي ويقوده نحو فكرته وموقفه فلا يسمح له بالالتفات يمنة أو يسرة، لكن معظم هذه الأعمال ستندرج تحت راية الفن المناسباتي، الذي يقدّم في حدث معين ويحظى على التصفيق والتصفير من قبل المشاهدين، ويعلو المنصات ويكتب عنه فه في الصحف الرسمية، ثم لا يلبس إلا أن تنطفئ جذوته ويبهت بريقه، شأنه شأن كلّ الأعمال الإبداعية (شعر، رواية...) شديدة المباشرة التي تنتمي لثقافةٍ مؤقتة، لها موسمها المحدد، وهذا ما يعارض الفكرة التي تقول بأن للفن أثرٌ عميق يحفر في النفس البشرية ويدوم لوقت طويل، وقد يتعاقب تأثيره جيلاً بعد جيل ما دام العمل الفني يحظى بالعرض الجيد وباهتمام المشاهد.
فالحرب طبعاً تحدث تأثيراً عميقاً في المجتمع وتغيّر في ترتيب أولوياته، فترمي بموضوعها على الطاولة ليتناوله الفنانون الجائعون ويقدموه لنا كلٌّ حسب طريقته وأسلوبه، فهناك من يستجيب بشكلٍ كامل وتكون ردة فعله واضحة وعنيفة لا يترك مجالاً للتأويلات وكأنه يصرخ رافضاً ما يحدث، وهناك من يستجيب ولكنه يعتمد على الإزاحة التي تفرضها ثقافة الخوف في بعض الأحيان، فيرسم عنصراً ويقصد آخر يترك مدلوله الراسخ في الذاكرة الجمعية للمجتمع معتمداً على ثقافة المتلقي للرموز وتحليله لها أو يعود ذلك لتحميله العمل تأويلات عديدة تصل للمتلقي بحسب ثقافته وتأمله، وهناك من لا يعنيه ما يحصل خارج إطار لوحته، مفترضاً أن المساحة البيضاء بين يديه بنية معزولة عن الواقع الخارجي المحيط به وهو من يسكن برجه العاجي ولا يلتفت لصوت المدافع المحيطة به، أما الصنف الأخير هو من يواجه الموت بالحياة والقبح بالجمال لا يريد الاستسلام لقبح الواقع وظلمه.
لنأخذ لوحة الغرنيكا مثالاً على مقاومة الفن للعدوان العسكري على القرية الإسبانية «غيرنيكا» التي استيقظت في عام 1936 على أصوات القنابل وهدير الطائرات النازية أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، وكان الضحية كلّ سكّان القرية وعددهم 200، فرسم بيكاسو لوحته لتبقى خالدةً بذاتها مخلدةً ما حدث، قد ضمّن بيكاسو لوحته العديد من الرموز منها: «الثور الهائج بقرونه المعقوفة نحو الأعلى يمثل الطيارين الألمان، الحصان الجريح المتألم من الحربة التي تخترق فكه هو رمز للأرض الإسبانية، المرأة الخارجة من بين الرّكام وفي يدها مصباح ترمز للضمير البشري» (علي الشماط، تاريخ الفن)
تكمن أهمية هذه اللوحة في اختيار الرموز واستمرارية مدلولاتها، حيث قام بيكاسو بتجريد المكان والزمان فنحن لا نرى فيها قرية الغيرنيكا بعينها ولا نعيش ضمن عام 1936، لتكون الغيرنيكا لوحة ضد الحروب والدمار بغض النظر عن زمانها ومكانها.
وبمثل هذه الطريقة التي تتصدى للموت وتقاوم الدّمار نجد لوحات يوسف عبدلكي المحملة بالرموز، لوحات تصوّر لحظة الانقلاب ما بين الحياة والموت مليئة بالتفاصيل الباحثة عن دلالاتها (كالخنجر الغارز في باقة زهور، أو الدم الذي يلطّخ الطبق، أو السمكة الملفوفة بحبل...) مع جمع التناقض ما بين الموت والحياة أحياناً كلوحة تصوّر فراشة فوق نصل السكين، كل هذه الأعمال تمنح المدلول ذاته، وهو تطاول البشاعة على الجمال أو اقتراب الموت من الحياة والإحاقة به، لكن الأمر لم يحسم وبقي الأمل محبوساً ما بين العناصر، ينتظر السكين ليقع أرضاً وينتظر من الفراشة أن تحلّق.
بينما نلاحظ أن لوحته «أم الشهيد» أكثر وضوحاً من حيث العنوان من الناحية الأولى، ومباشرة الشخصيات، فتبدو الأم بأشد لحظاتها حزناً وانكساراً تمسك بيدها صورة ابنها الشهيد ،وابنتها الصغرى تقف بجانبها بيدين متشابكتين، ولا تقل حزناً عنها؛ التركيز الأكبر يكون عليهم وفق قانون التقاربية، فالأشكال الأقرب تدرك بشكل أفضل؛ في الخلفية مجموعة من صور لشهداء أو ربما مفقودين هناك 20شخص ضمن هذه الصور باستثناء صورة الشهيد التي مازالت في حضن يد أمه؛ العين كبيرة ومفتوحة ناظرة باتجاهنا بلوم وعتاب، فنسمع داخل رؤوسنا صوت الفتاة وأمها يخاطبوننا في عتابٍ وسؤال: ماذا ستفعلون؟
ونجد من تصدى للموت وقاوم الاحتلال من خلال تمسّكه بهويته وهوية بلاده وتراثها، كما فعل دييغو ريفيرا من خلال مشاركته بالثورة على الوجود الإسباني من خلال التركيز على العناصر التراثية والثقافية والأركولوجية الموجودة في المكسيك قبل الغزو الإسباني ليعيد تصوير عمارة وأبطال وآلهة وأساطير ومعتقدات عائدة إلى تلك الحقبة التاريخية –لكنه لجأ أيضاً للمباشرة أحياناً فرسم المظاهرات والكثير من الأعلام-، وفي الجانب الآخر الأهم بالنسبة لنا، نجد أن نبيل العناني الفنان الفلسطيني يتصدى لاحتلال فلسطين باستحضار فلسطين التي عرفها بأغلب أعماله، ببهائها ورونقها، بزيتونها وبيوتها ونسيجها المميز وتراثها الراسخ في الروح، وكأنه يقوم بمحي إسرائيل من ذاكرة من يشاهد لوحاته، ويستبدلها بأرض فلسطين وحضارتها، هل هناك مقاومةً للاحتلال أكثر من محيه!
لوحات نبيل العناني قراءة بصرية لحكايا شعب، تحوي الكثير من مفردات هويته وانتمائه، مما يشي بموقفه الرافض للخروج من فلسطين واحتلالها، لكن رفضه هذا لا يُفسد مناخ لوحاته المفعمة بالحياة على العكس تماماً ألوانها مشرقة قوية لا مكان للألوان الكامدة ضمن خضرة بساتين زيتونه، حقول الزيتون المرسومة أمام البيوت خلفيةٌ شعريّة لشخص وحيد في مقدمة اللوحة و في لوحات أخرى، يستدعي الشخص الوحيد أشباهه ويصنعون حشداً يشبه تماماً بستاناً من الزيتون.
نلاحظ كذلك اهتمامه بتفاصيل التطريز على ملابس شخصياته، فقد كان لتصاميم الزخرفة المستخدمة في أشغال الإبرة الفلسطينية دورها في استنهاض حسه الإبداعي ومنحه المجال الحيوي لرصف بنيان مكوناته الشكلية في متواليات زخرفية من النقوش والأشكال الملونة الصريحة، باعتبار أن «القطبة الفلسطينية» التراثية هي الرمز الأكثر تواجداً في لوحاته والأشهر حول العالم باعتبارها جزءاً من التراث الفلسطيني و ذاكرة شعب ماثلة للعيان إلى الآن عبر الأجيال المتعاقبة وتحولها لجزء من (الموضة) في عالم الأزياء كما بدأت الكوفية الفلسطينية بأن تأخذ مكانتها أيضاً في ذاك العالم.
أما من اتخذ الأسلوب المباشر وتبناه في تنفيذ أعماله الفنيّة المتعلّقة بالمرحلة الحسّاسة التي نمرّ بها فهم كثر لأسباب كثيرة منها سهولة التعبير المباشر، عظمة ما يلحق بنا من ظلم مما يستدعي رد فعلٍ مباشر وسريع وأخيراً الرغبة بأن تفهم الفكرة التي كانت بذهن الفنان أثناء رسمه بحرفيتها. من هؤلاء الفنانين الفنان الفلسطيني عبد الهشلمون الذي رسم لوحةً أثناء الحرب على غزة في 2021 وهي عبارة عن لوحة تصوّر أشخاصاً يقفون في بركة من الدم بالأحمر القاني، يحملون أطفالاً بأيديهم وينظرون للأعلى بوجوه مليئةٍ بالدم والدموع، نكاد نسمع تضرعهم ونحن نشاهد العمل وتقشعر الأبدان أثناء ذلك.
الفنان ناصر حجي كسو من الطائفة اليزيدية رسم لوحات توثّق ما حصل مع النساء اليزيديات من قبل داعش، فنرى المرأة في السجن خلف القضبان والباب مغلق بقفل، تمدّ يدها لتمسك مصباح الإضاءة والتي تمثل الأمل بالنجاة في هذا العمل، وامرأة أخرى تقاد والسلاسل بيديها وغير ذلك من المشاهد.
الفنانة الأردنية سعاد أبو طوق ترسم لفلسطين ولغزة تردّ على المجازر التي تحصل هناك بلوحاتها، فنجد لوحة تحمل خريطة فلسطين محاطة بكوفية فلسطينية في منتصفها يطلّ طفلٌ بذراع مكسورة حزيناً صارخاً، ما يحيط بالخريطة مجموعة من الألوان الممتزجة تحمل داخلها مساحات متداخلة من الطبيعة والبيوت المنهارة. وعلى الطرف الآخر المقابل للوضوح والمباشرة نجد من نحا نحو ماتيس وكان موقفه من البشاعة والموت والدمار استحضار الجمال والحياة في أعماله، مهما كان الوضع من حوله مأساوياً، والموت يسدّ برائحته الأنوف، ستبقى زهور أعماله تفوح بأطيب العطور والأشكال والأشخاص والنساء يملؤون العمل جمالاً، فاللون سلاحه، والريشة سيفه وسيخلق عالماً موازياً بالكامل في لوحته ليخبر المتلقي أن الحياة لابد وستستمر، ولمثل هذه الأعمال مريدوه ممن لا يفضلون أن يجدوا المأساة التي يعيشونها مرسومةً ضمن لوحات وأعمال فنيّة.
فيما مرّ صور عديدة للمقاومة من خلال أعين الفن التشكيلي، نراها بأساليب متنوعة، تبعاً لفكر الفنان وثقافته وفلسفته الخاصة وطريقة فهمه للفن، ويتعلق الأمر أيضاً بالجمهور المستهدف ورغبته بطريقة تلقي الجمهور لعمله، هل يحتاج تفكيراً وتحليلاً، هل ستصل رسالته مباشرةً هل سيصدمه العمل.... وما إلى ذلك.
لكن هناك من يصطاد في الماء العكر ويرمي الاتهامات عن يمنه وعن شماله، فالفنان الذي لا يصوّر المقاومة ويتصدى للعدو بشكلٍ صريح ومباشر، فنان غير وطني وغير معني بهموم بلاده ومن الممكن أن يخوّن، وذلك لضعف المعرفة بطرق التلقي وأساليب صنع العمل وتضمينه الإشارات والرموز، والأهم في الموضوع أنه لكل فنان طريقته في المقاومة باستخدام فنه كما أنه لكل إنسان طريقته في المقاومة في الحياة فهناك من يلجأ للسلاح وآخر للمفاوضات ويتبنى فكر اللاعنف ... والجميع يتجه للهدف نفسه كلٌ بطريقه.
لكن لابد أن نوضح هنا أنه ليس كلّ من رسم المقاومة والرموز الوطنية وصوّر الشهداء والدماء ورفع الأعلام في لوحاته، هو معها قلباً وقالباً فلا يخلو الأمر ممن يتاجرون بالقضية ويمتطون صهوة الأحداث لينالوا ما ينالونه من حظوة تتجلى بالاحتفاء والتكريم، وهنا يحضرني بيتٌ شعري لمعروف الرّصافي:
لا يخدعنّك هتاف القوم بالوطن/ فالقوم في السرّ غير القوم في العلن.
بسمة شيخو كاتبة سورية
فالفن التشكيلي ليكون فناً مقاوماً لا يشترط رسم موضوعات بعينها بطريقة مباشرة، كأن تختص اللوحة برجالات المقاومة أحياناً، وقد تستوجب رسم الأعلام تارة والخرائط تارةً أخرى؛ لأن الفن ببساطة يمتلك أدوات تستطيع العمل على مستوياتٍ أعمق من الفهم، دون أن تشير بشكلٍ مباشر لما تدعمه، وبالطبع نحن هنا لا نعيب على من يرسم الرموز الواضحة في عمله ويمسك ذهن المتلقي ويقوده نحو فكرته وموقفه فلا يسمح له بالالتفات يمنة أو يسرة، لكن معظم هذه الأعمال ستندرج تحت راية الفن المناسباتي، الذي يقدّم في حدث معين ويحظى على التصفيق والتصفير من قبل المشاهدين، ويعلو المنصات ويكتب عنه فه في الصحف الرسمية، ثم لا يلبس إلا أن تنطفئ جذوته ويبهت بريقه، شأنه شأن كلّ الأعمال الإبداعية (شعر، رواية...) شديدة المباشرة التي تنتمي لثقافةٍ مؤقتة، لها موسمها المحدد، وهذا ما يعارض الفكرة التي تقول بأن للفن أثرٌ عميق يحفر في النفس البشرية ويدوم لوقت طويل، وقد يتعاقب تأثيره جيلاً بعد جيل ما دام العمل الفني يحظى بالعرض الجيد وباهتمام المشاهد.
فالحرب طبعاً تحدث تأثيراً عميقاً في المجتمع وتغيّر في ترتيب أولوياته، فترمي بموضوعها على الطاولة ليتناوله الفنانون الجائعون ويقدموه لنا كلٌّ حسب طريقته وأسلوبه، فهناك من يستجيب بشكلٍ كامل وتكون ردة فعله واضحة وعنيفة لا يترك مجالاً للتأويلات وكأنه يصرخ رافضاً ما يحدث، وهناك من يستجيب ولكنه يعتمد على الإزاحة التي تفرضها ثقافة الخوف في بعض الأحيان، فيرسم عنصراً ويقصد آخر يترك مدلوله الراسخ في الذاكرة الجمعية للمجتمع معتمداً على ثقافة المتلقي للرموز وتحليله لها أو يعود ذلك لتحميله العمل تأويلات عديدة تصل للمتلقي بحسب ثقافته وتأمله، وهناك من لا يعنيه ما يحصل خارج إطار لوحته، مفترضاً أن المساحة البيضاء بين يديه بنية معزولة عن الواقع الخارجي المحيط به وهو من يسكن برجه العاجي ولا يلتفت لصوت المدافع المحيطة به، أما الصنف الأخير هو من يواجه الموت بالحياة والقبح بالجمال لا يريد الاستسلام لقبح الواقع وظلمه.
لنأخذ لوحة الغرنيكا مثالاً على مقاومة الفن للعدوان العسكري على القرية الإسبانية «غيرنيكا» التي استيقظت في عام 1936 على أصوات القنابل وهدير الطائرات النازية أثناء الحرب الأهلية الإسبانية، وكان الضحية كلّ سكّان القرية وعددهم 200، فرسم بيكاسو لوحته لتبقى خالدةً بذاتها مخلدةً ما حدث، قد ضمّن بيكاسو لوحته العديد من الرموز منها: «الثور الهائج بقرونه المعقوفة نحو الأعلى يمثل الطيارين الألمان، الحصان الجريح المتألم من الحربة التي تخترق فكه هو رمز للأرض الإسبانية، المرأة الخارجة من بين الرّكام وفي يدها مصباح ترمز للضمير البشري» (علي الشماط، تاريخ الفن)
تكمن أهمية هذه اللوحة في اختيار الرموز واستمرارية مدلولاتها، حيث قام بيكاسو بتجريد المكان والزمان فنحن لا نرى فيها قرية الغيرنيكا بعينها ولا نعيش ضمن عام 1936، لتكون الغيرنيكا لوحة ضد الحروب والدمار بغض النظر عن زمانها ومكانها.
وبمثل هذه الطريقة التي تتصدى للموت وتقاوم الدّمار نجد لوحات يوسف عبدلكي المحملة بالرموز، لوحات تصوّر لحظة الانقلاب ما بين الحياة والموت مليئة بالتفاصيل الباحثة عن دلالاتها (كالخنجر الغارز في باقة زهور، أو الدم الذي يلطّخ الطبق، أو السمكة الملفوفة بحبل...) مع جمع التناقض ما بين الموت والحياة أحياناً كلوحة تصوّر فراشة فوق نصل السكين، كل هذه الأعمال تمنح المدلول ذاته، وهو تطاول البشاعة على الجمال أو اقتراب الموت من الحياة والإحاقة به، لكن الأمر لم يحسم وبقي الأمل محبوساً ما بين العناصر، ينتظر السكين ليقع أرضاً وينتظر من الفراشة أن تحلّق.
بينما نلاحظ أن لوحته «أم الشهيد» أكثر وضوحاً من حيث العنوان من الناحية الأولى، ومباشرة الشخصيات، فتبدو الأم بأشد لحظاتها حزناً وانكساراً تمسك بيدها صورة ابنها الشهيد ،وابنتها الصغرى تقف بجانبها بيدين متشابكتين، ولا تقل حزناً عنها؛ التركيز الأكبر يكون عليهم وفق قانون التقاربية، فالأشكال الأقرب تدرك بشكل أفضل؛ في الخلفية مجموعة من صور لشهداء أو ربما مفقودين هناك 20شخص ضمن هذه الصور باستثناء صورة الشهيد التي مازالت في حضن يد أمه؛ العين كبيرة ومفتوحة ناظرة باتجاهنا بلوم وعتاب، فنسمع داخل رؤوسنا صوت الفتاة وأمها يخاطبوننا في عتابٍ وسؤال: ماذا ستفعلون؟
ونجد من تصدى للموت وقاوم الاحتلال من خلال تمسّكه بهويته وهوية بلاده وتراثها، كما فعل دييغو ريفيرا من خلال مشاركته بالثورة على الوجود الإسباني من خلال التركيز على العناصر التراثية والثقافية والأركولوجية الموجودة في المكسيك قبل الغزو الإسباني ليعيد تصوير عمارة وأبطال وآلهة وأساطير ومعتقدات عائدة إلى تلك الحقبة التاريخية –لكنه لجأ أيضاً للمباشرة أحياناً فرسم المظاهرات والكثير من الأعلام-، وفي الجانب الآخر الأهم بالنسبة لنا، نجد أن نبيل العناني الفنان الفلسطيني يتصدى لاحتلال فلسطين باستحضار فلسطين التي عرفها بأغلب أعماله، ببهائها ورونقها، بزيتونها وبيوتها ونسيجها المميز وتراثها الراسخ في الروح، وكأنه يقوم بمحي إسرائيل من ذاكرة من يشاهد لوحاته، ويستبدلها بأرض فلسطين وحضارتها، هل هناك مقاومةً للاحتلال أكثر من محيه!
لوحات نبيل العناني قراءة بصرية لحكايا شعب، تحوي الكثير من مفردات هويته وانتمائه، مما يشي بموقفه الرافض للخروج من فلسطين واحتلالها، لكن رفضه هذا لا يُفسد مناخ لوحاته المفعمة بالحياة على العكس تماماً ألوانها مشرقة قوية لا مكان للألوان الكامدة ضمن خضرة بساتين زيتونه، حقول الزيتون المرسومة أمام البيوت خلفيةٌ شعريّة لشخص وحيد في مقدمة اللوحة و في لوحات أخرى، يستدعي الشخص الوحيد أشباهه ويصنعون حشداً يشبه تماماً بستاناً من الزيتون.
نلاحظ كذلك اهتمامه بتفاصيل التطريز على ملابس شخصياته، فقد كان لتصاميم الزخرفة المستخدمة في أشغال الإبرة الفلسطينية دورها في استنهاض حسه الإبداعي ومنحه المجال الحيوي لرصف بنيان مكوناته الشكلية في متواليات زخرفية من النقوش والأشكال الملونة الصريحة، باعتبار أن «القطبة الفلسطينية» التراثية هي الرمز الأكثر تواجداً في لوحاته والأشهر حول العالم باعتبارها جزءاً من التراث الفلسطيني و ذاكرة شعب ماثلة للعيان إلى الآن عبر الأجيال المتعاقبة وتحولها لجزء من (الموضة) في عالم الأزياء كما بدأت الكوفية الفلسطينية بأن تأخذ مكانتها أيضاً في ذاك العالم.
أما من اتخذ الأسلوب المباشر وتبناه في تنفيذ أعماله الفنيّة المتعلّقة بالمرحلة الحسّاسة التي نمرّ بها فهم كثر لأسباب كثيرة منها سهولة التعبير المباشر، عظمة ما يلحق بنا من ظلم مما يستدعي رد فعلٍ مباشر وسريع وأخيراً الرغبة بأن تفهم الفكرة التي كانت بذهن الفنان أثناء رسمه بحرفيتها. من هؤلاء الفنانين الفنان الفلسطيني عبد الهشلمون الذي رسم لوحةً أثناء الحرب على غزة في 2021 وهي عبارة عن لوحة تصوّر أشخاصاً يقفون في بركة من الدم بالأحمر القاني، يحملون أطفالاً بأيديهم وينظرون للأعلى بوجوه مليئةٍ بالدم والدموع، نكاد نسمع تضرعهم ونحن نشاهد العمل وتقشعر الأبدان أثناء ذلك.
الفنان ناصر حجي كسو من الطائفة اليزيدية رسم لوحات توثّق ما حصل مع النساء اليزيديات من قبل داعش، فنرى المرأة في السجن خلف القضبان والباب مغلق بقفل، تمدّ يدها لتمسك مصباح الإضاءة والتي تمثل الأمل بالنجاة في هذا العمل، وامرأة أخرى تقاد والسلاسل بيديها وغير ذلك من المشاهد.
الفنانة الأردنية سعاد أبو طوق ترسم لفلسطين ولغزة تردّ على المجازر التي تحصل هناك بلوحاتها، فنجد لوحة تحمل خريطة فلسطين محاطة بكوفية فلسطينية في منتصفها يطلّ طفلٌ بذراع مكسورة حزيناً صارخاً، ما يحيط بالخريطة مجموعة من الألوان الممتزجة تحمل داخلها مساحات متداخلة من الطبيعة والبيوت المنهارة. وعلى الطرف الآخر المقابل للوضوح والمباشرة نجد من نحا نحو ماتيس وكان موقفه من البشاعة والموت والدمار استحضار الجمال والحياة في أعماله، مهما كان الوضع من حوله مأساوياً، والموت يسدّ برائحته الأنوف، ستبقى زهور أعماله تفوح بأطيب العطور والأشكال والأشخاص والنساء يملؤون العمل جمالاً، فاللون سلاحه، والريشة سيفه وسيخلق عالماً موازياً بالكامل في لوحته ليخبر المتلقي أن الحياة لابد وستستمر، ولمثل هذه الأعمال مريدوه ممن لا يفضلون أن يجدوا المأساة التي يعيشونها مرسومةً ضمن لوحات وأعمال فنيّة.
فيما مرّ صور عديدة للمقاومة من خلال أعين الفن التشكيلي، نراها بأساليب متنوعة، تبعاً لفكر الفنان وثقافته وفلسفته الخاصة وطريقة فهمه للفن، ويتعلق الأمر أيضاً بالجمهور المستهدف ورغبته بطريقة تلقي الجمهور لعمله، هل يحتاج تفكيراً وتحليلاً، هل ستصل رسالته مباشرةً هل سيصدمه العمل.... وما إلى ذلك.
لكن هناك من يصطاد في الماء العكر ويرمي الاتهامات عن يمنه وعن شماله، فالفنان الذي لا يصوّر المقاومة ويتصدى للعدو بشكلٍ صريح ومباشر، فنان غير وطني وغير معني بهموم بلاده ومن الممكن أن يخوّن، وذلك لضعف المعرفة بطرق التلقي وأساليب صنع العمل وتضمينه الإشارات والرموز، والأهم في الموضوع أنه لكل فنان طريقته في المقاومة باستخدام فنه كما أنه لكل إنسان طريقته في المقاومة في الحياة فهناك من يلجأ للسلاح وآخر للمفاوضات ويتبنى فكر اللاعنف ... والجميع يتجه للهدف نفسه كلٌ بطريقه.
لكن لابد أن نوضح هنا أنه ليس كلّ من رسم المقاومة والرموز الوطنية وصوّر الشهداء والدماء ورفع الأعلام في لوحاته، هو معها قلباً وقالباً فلا يخلو الأمر ممن يتاجرون بالقضية ويمتطون صهوة الأحداث لينالوا ما ينالونه من حظوة تتجلى بالاحتفاء والتكريم، وهنا يحضرني بيتٌ شعري لمعروف الرّصافي:
لا يخدعنّك هتاف القوم بالوطن/ فالقوم في السرّ غير القوم في العلن.
بسمة شيخو كاتبة سورية