1. مدخل:
لقد أصبحت الرواية فعلا ثقافيا يحتضن مجموعة من الممكنات المتناثرة والمنعزلة عن بعضها، حيث كرست بإمكاناتها الفنية والأسلوبية حيزا مفتوحا لممارسة الحياة وفق مجموعة من التصورات الاجتماعية والسياسية والفنية المختلفة، وقد غدت بهذا ديوانا جديدا للإنسانية يسمح بتشكيل الواقع والتاريخ وفق منظورات متعددة، وصياغة سردية تخييلية تطفئ قلق الحقيقة التاريخية بتوهج الإبداع وإعادة الصياغة، وبالتالي، هدم وهم الثابت بطموح المتعدد.
إن قوة الرواية كامنة في بناء السياقات المفقودة بالتركيز على التفاصيل، وتقويض الحتمية التاريخية للراهن، أي أن الفن الروائي -بعبارة ألبيريس-»هو فن السبر أو كشف الأسرار... وهي أيضا مرض الإنسان؛ هذا الإنسان الذي لا «يكفيه» ضميره، بل ينبغي أن نقدم له إغراء انتهاك ضمائر أخرى...».وتغدو الرواية-من خلال هذا-زخما وجوديا تتصادى فيه مجموعة من الأصوات والرؤى، وحيزا تتضافر فيه معطيات الكائن والممكن لتنسج كلية وجودية وفنية متكاملة الأركان، أو-بعبارة أخرى-نسقا فنيا يتأطر بمختلف الأبعاد التي تحكم التجربة الإنسانية.
ولعل التفكير في الرواية من خلال مجموع ما يؤسس لها من بُنى ودلالات وسياقات، هو تفكير في التجربة الإنسانية من خلال الأبعاد المختلفة التي تؤطرها وتضفي عليها معناها العام، وهذا مرده إلى أن الهاجس الأساسي للروائي من خلال العوالم التي يصوغها، لا يندرج ضمن سوق فهم ناجز عن الذات والواقع والآخر...وإنما صياغة هواجس الفهم والتفكير في العالم من داخل العمل الروائي بما يوفره من أدوات وآليات وبنيات، وبالتالي، فإن الروائي لا يسوق لنا فهما ناجزا ومكتملا عن السياقات التي تؤطره، وإنما يسوق لنا تفكيرا وتأملا في ما يؤرق وعيه ويشد انتباهه. ويبقى الرهان الأساسي الذي يحاول كل روائي تحقيقه مرتبطا بكتابة رواية «ازدواجية» تكون تمثيلا لأنساق اجتماعية وثقافية وتاريخية داخلية ومخصوصة، ومنفتحة –بالمقابل-على التجربة الإنسانية بكل ما يعتمل فيها من قضايا وهواجس وتطلعات. ولا يمر انشغال الرواية بهذه القضايا مجتمعة دون تحوير في البنيات والنظم الشكلية التي تبني هويتها، لأن خصوصية المنظورات والسياقات تفترض -بالضرورة- خصوصية التقنيات من حيث اشتغالها وتآلفها ووظيفتها، كما أن هذه التقنيات وتوظيفها بشكل مخصوص دون أشكال أخرى يمثل تجريبا لمسارات يتغيا من خلالها الروائي فهم الذات والواقع والتاريخ. «وهكذا تبدو الرواية عامة...تحت ضغط عوامل مختلفة ومعقدة، وكأنها مؤهلة للتعبير عن لحظة وعي مزدوج إيديولوجي وإستطيقي، غير أن ما يميزها، بصفة عامة، هو استجابتها للقوانين الداخلية أكثر من تأثرها بالقوانين الخارجية المصاحبة.» وهذا الطرح هو ما عبر عنه «تيودور أدورنو» في ضوء نظريته العامة عن الشكل الأدبي المعروفة ب»جماليات النفي»، حيث يعتبر «أن الشكل كلما انزاح عن محاكاة الواقع الاجتماعي، وتباعد عن انعكاسيته، تدثر بطاقة ثورية خلاقة أكثر نفاذا لعمقه، واستبصارا بسيرورته، ولذلك فالرواية من منظور أدورنو ليست مطالبة حتما بالانغراس في تمثيل تناقضات الواقع الخارجي، وتركيبها في كلية منسجمة للوعي بجدليته وتاريخيته، بل يتأتى للفن عبر هذه المسافة التي تتناءى به عن مطابقة السياق الاجتماعي استغوار جوهره».
2. في عتبة التجنيس:
يقتضي الدخول إلى غمار النص المرورَ على محطة أساسية ومهمة، تبني، بشكل أو بآخر، الطريقة التي سيتعاطى بها القارئ مع النص، وتوجه تمثلاته حول طبيعة الفعالية القرائية التي ينبغي أن يكرسها اتجاهه. وفي نص أحمد عبد اللطيف «حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية» نلمس مسألة أساسية في الفعالية القرائية، ليس، فقط، من حيث جعلها القارئ يسافر خارج النص، ليجمع حطب المعنى، بل أيضا، في أنها تجعلنا نلمس ذاك التصور الذي يعتبر أن الدلالة تأويلية، أي أن انسجام النص نابع من افتراض للقارئ على أنه كذلك، وأهم موجه في الدخول للنص بهذا الافتراض، في هذه الرواية، هي عتبة التجنيس؛ فالعمل لن يكون روائيا إلا بافتراض القارئ على أنه كذلك، وينعكس هذا الافتراض على الفعالية القرائية من خلال البحث عن القصة، القصة التي ستكون متعددة بتعدد القراء، أما تعدديتها، فخاضعة لتمثلاتهم المرتبطة بالنص وخارج النص. ومن هنا يبرز سؤال أساسي ومهم؛ هل عتبة التجنيس كافية لبناء تلقي هذا النص باعتباره نصا روائيا، رغم أن بنيته الداخلية تتأسس على مجموعة من النصوص الموازية المختلفة، التي لا تشكل، حسب ألبيريس، قصة محكمة البناء؟
3.التجريب الروائي وسؤال التذويت السياسي:
ينطوي البناء الفني للرواية على مجموعة من القواعد والمعايير الجمالية التي تشتغل باعتبارها قوة تحويلية/تحويرية، تحاول خلق كلية فنية مؤسسة على إعادة النظر في التاريخ، وتبئير سؤال الهامش الذي يفتح أمام الروائي إمكانيات كثيرة لإعادة تشكيل الوجود وتنظيمه، وهذا ما يجعلنا نعتبر أن حضور التاريخ في الرواية؛ بقدر ما يوهم بالواقعية ويحقق مبدأ المشاكلة الفنية، فإنه يختزن هاجس الخلق وإعادة التشكيل الذي يحاول من خلاله الروائي تجاوز الحتميات التاريخية، ولعل هذا ما جعل سوزان «روبين سليمان» تعتبر أن «أي شكل أدبي هو نوع من البناء»،تستهدف من خلاله الذات المحددات الموضوعية للوجود الإنساني بالقدر الذي تستهدف فيه المحددات المؤسسة لوجودها.
تنخرط رواية «حصن التراب» في مغامرة التجريب، التي تنداح دوائرها لتحتضن مجموعة من النصوص، التي تحاول التأريخ لمعاناة عائلة دي مولينا في الأندلس، وبالضبط في حصن التراب، وما تعرض له بعض أفرادها من ترحيل قسري بسبب أصولهم الإسلامية، وهو ما جعل الرواية تبنى على شكل مذكرات، يستلم فيها، في كل محطة تاريخية، فرد من عائلة دي مولينا مشعل السرد، ليرصد لنا أثر الهزيمة العسكرية والسياسية على الهامش الاجتماعي، وما يمكن أن يجره اندماج الديني بالسياسي على هذا الهامش، الذي تتضاعف هامشيته بسبب أصوله التي ستجر عليه تجربة محاكم التفتيش والترحيل القسري. وهنا، تأتي الكتابة كرفض لهوية مفروضة من طرف الآخر، أي الآخر المنتصر، ويحيل هذا الرفض، على «منطق التذويت السياسي» كما طرحه «جاك رانسيير»، الذي يعتبر التذويت السياسي أو التلفظ السياسي هو رفض –بشكل دائم وفي نفس الوقت- لهوية مفروضة من طرف الآخر، ومُحَدَدَّة من خلال منطق سلطوي/بوليسي. ويقودنا «سؤال التذويت السياسي إلى تحليل مفهوم الشجاعة عند «حنا أرندت» التي تُعالج في المعنى السياسي باعتبارها فضيلة أساسية للمواطن وعنصرا للتمييز بين المواطنين وغير المواطنين»، وفي سياقنا، يمكن اعتبار مفهوم الشجاعة مقوما من مقومات ولادة الذات، وهو ما نجده جليا في نص محاكمة «كارمن دي مولينا» سنة 1641، ومحاكمة «سانتشو كاردونا دي أدميرال» سنة 1478، حيث نجد في نص محاكمة هذا الأخير:
« - أنت متهم أيضا بإنشاء مسجد للمسلمين، وهذه الجريمة تفوق جرائمك الأخرى.
-إن كنت تعتبر احترام العقائد ومساعدة المقهورين جريمة، فأنا مجرم».
إن اعتماد مذكرات عائلة «دي مولينا» كمرجع أساسي للتأريخ للفترة المترواحة بين القرن الخامس عشر والسابع عشر، يحيل على هاجس أساسي متمثل في كتابة تاريخ بديل، أو تاريخ مضاد، هذا التاريخ، يطبع الأحداث الكبرى بتطلعات الذات الأندلسية الموريسكية، وهو ما يفسر تأثيت الرواية بمجموعة من النصوص التي تتراوح بين: «مذكرات، رسائل، عقود بيع، أشعار، محاكمات...»،كما أن رواية حصن التراب لا تملأ البياضات باعتماد التخييل فقط، بل تحاول اعتصار وعي الأندلسي، ورؤيته للعالم من خلال الوسائط الفنية التي كانت تمكنه من بث وجوده، وأهمها الموسيقى، من خلال سوق مجموعة من الروابط الإلكترونية لبعض مقاطع الموسيقى الشعبية الأندلسية، وهنا تنخرط الرواية في منعطف أساسي يطبع الحساسية الجديدة كما يعرفها إدوارد الخراط، حيث يعتبرها:» اختراقا لا تقليدا، واستشكالا لا مطابقة، وإثارة للسؤال لا تقديما للأجوبة، ومهاجمة للمجهول لا رضى عن الذات بالعرفان»، ومن ناحية أخرى، فإن تداخل مجموعة من النصوص في تشكيل رواية «حصن التراب»، يدرجها ضمن ما يسميه الخراط «الكتابة عبر النوعية» أو النص المفتوح، أي الاتكاء على الخاصية الأساسية التي تطبع النوع الروائي؛ باعتباره نوعا أدبيا مفتوحا وغير مكتمل.
ينبني الرد بالكتابة في رواية «حصن التراب» على قناعة أساسية توجه جميع أفراد عائلة «دي مولينا»، الذين ورثوا كتابة مذكراتهم كما ورثوا أصولهم، ألا وهي الحق في الأرض، وأن الانتماء إليها يشكل في حد ذاته عقيدة تنضاف إلى العقيدة الدينية، حيث اضطر البعض إلى التضحية بالثانية من أجل تحصين الهوية المنبثقة عن الانتماء إلى الأرض. ومن هنا، تتوازى أزمة الهوية المنبثقة عن رفض السلطة لحق التواجد في الأرض، مع أزمة الشكل الروائي في رواية «حصن التراب»، هذه الأزمة التي تخلق قلقا حقيقيا على مستوى التجنيس، حيث نرى الرواية تطل من ضيق التاريخ، والتاريخ يعدو في رحابة الرواية.
إن أوراق عائلة «دي مولينا»، ترفع شعارا كبيرا يمكن اعتباره، ببعض التجوز، بنية دالة، وهو: « إذا عزَّ الانتماء إلى الأرض جغرافيا، ينبغي الانتماء إليها من خلال الكتابة»، وأن الأرض، بفهم هيجيلي، لا بد أن تختبر صدقية المنتمين إليها، وأن توجد في الناس بدل أن يوجدوا فيها، وهو الأمر الذي يمكن حمله على الحتمية بقدر حمله على المكر التاريخيين. ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نمر على أوراق عائلة «دي مولينا» بدون أن تمر عبرنا مجموعة من النصوص التي تسائل الهوية والانتماء، ولعل أوراق «مانويل دي مولينا» سنة 1609، مانويل الذي يخاطبنا من مذكراته، بعد إعدامه، باعتباره حجرا رفقة أبيه وأمه، يلامس بقوة قصيدة درويش، «خطبة الهندي الأحمر»، حيث يقول درويش في أحد المقاطع:
نطل على أرضنا، من حصى أرضنا، من ثقوب الغيوم، نطل على أرضنا، من كلام النجوم،
نطل على أرضنا، من هواء البحيرات، من زغب الذرة الهش، من زهرة القبر، من ورق الحور،
من كل شيء، نحاصركم أيها البيض، موتى يموتون، موتى يعيشون، موتى يعودون، موتى يبوحون بالسر...
يمكن القول، إن رواية «حصن التراب»، تقوم، في علاقتها بالقارئ، على مسألة الإيهام بالقصة، حيث تعطي هذا الأخير، في البداية، ذاك الانطباع الذي يعتبر من خلاله أنه أمام قصة محكمة البناء، ذات تسلسل خطي للأحداث، ليتفاجأ أنه أمام مجموعة من المذكرات والمحاكمات، فيتبعها بحثا عن القصة، هذه القصة التي تتقلص ولا تظهر إلا في ثلاث محطات مقتضبة على الأكثر، حيث يجد القارئ نفسه منخرطا في تجربة إبداعية تسائل التاريخ بأدواته، باستعمال السرد التزامني، الذي يعكس هاجس الانضواء الوجداني في اللحظة التاريخية، ويكرس هوية الرواية في هذه النصوص، خصوصا في إعادة إحياء الماضي كأنه يقع في الحاضر، وهو الأمر الذي تجسده لعبة الضمائر السردية، المحكوم عليها بصيغة الماضي في الكتابة التاريخية.
إن رواية «حصن التراب»، تتوطن ضمن ما يصطلح عليه، «الرواية المضادة»، ليس فقط لأنها تهدم مقولة البطل التي يحللها «كيبيدي فاركا» في مقاله: «الرواية باعتبارها رواية مضادة»، بل لأنها تحاول كتابة تاريخ بديل أو مضاد، ضد النسيان، وهو ما يفسره تعريف سارتر للرواية المضادة حين يعتبرها نوع من الهدم، ورواية «حصن التراب» تحاول هدم التاريخ وكتابة تاريخ بديل، ولا يمر هذا بدون هدم الشكل الروائي وإعادة بنائه، بما يتناسب مع اللحظة التاريخية واشتراطاتها.
4. على سبيل الخاتمة:
تتعين رواية «حصن التراب» باعتبارها كاشفة لمجموعة من الخصوصيات النوعية المرتبطة بالممارسة الروائية، وتحويرا لمجموعة من البنى الكلاسيكية التي طبعت الكتابة السردية لسنوات، وهي بانخراطها في هاجس التحوير وبناء الخصوصية، توثق انتماءها للرواية الجديدة باعتبارها تيارا تجريبيا لا يراهن على ما كان (من حيث الشكل)، وإنما يراهن على مجموع الممكنات التي يمكن أن يتيحها الجنس الروائي باعتباره مجموعة من الأدوات والآليات، التي يمثل الاشتغال عليها وفق شاكلة معينة بناء لحساسية روائية نوعية من جهة، وبناء لخصوصية أسلوبية مرتبطة بالروائي من جهة ثانية. وإذا كانت الرواية، فيما سبق، تمثل إبدالا أدبيا وفنيا يسجل التناقض والتفكك الاجتماعي من خلال نثريته، فإنها حاليا تحاول تجسيد هذا التشتت بصيغة مُتَحَكَّمٍ فيها وليس بصيغة معطاة(النثرية)، أي بتوظيف يعكس خصوصية الروائي في الاشتغال على المكونات الشكلية للرواية، وهذا الاشتغال يكون مكرسا للنزعة اللايقينية، التي تمثل بالإضافة إلى صيغة الانتهاك الشكلي سمة أساسية من سمات الرواية العربية الجديدة، وحيث يتسرب اليقين بالقدرة على وصف العالم يسقط نعت «الجديدة» عن الرواية...وتتأسس نزعة اللايقين عبر طرائق السرد، وأشكال الرواة، وصيغة السرد المتشككة، واللغة غير القاطعة، والأحكام النسبية التي تشكل أساس نظرة الرواة إلى العالم.
نعيمة أمهري كاتبة من المغرب
لقد أصبحت الرواية فعلا ثقافيا يحتضن مجموعة من الممكنات المتناثرة والمنعزلة عن بعضها، حيث كرست بإمكاناتها الفنية والأسلوبية حيزا مفتوحا لممارسة الحياة وفق مجموعة من التصورات الاجتماعية والسياسية والفنية المختلفة، وقد غدت بهذا ديوانا جديدا للإنسانية يسمح بتشكيل الواقع والتاريخ وفق منظورات متعددة، وصياغة سردية تخييلية تطفئ قلق الحقيقة التاريخية بتوهج الإبداع وإعادة الصياغة، وبالتالي، هدم وهم الثابت بطموح المتعدد.
إن قوة الرواية كامنة في بناء السياقات المفقودة بالتركيز على التفاصيل، وتقويض الحتمية التاريخية للراهن، أي أن الفن الروائي -بعبارة ألبيريس-»هو فن السبر أو كشف الأسرار... وهي أيضا مرض الإنسان؛ هذا الإنسان الذي لا «يكفيه» ضميره، بل ينبغي أن نقدم له إغراء انتهاك ضمائر أخرى...».وتغدو الرواية-من خلال هذا-زخما وجوديا تتصادى فيه مجموعة من الأصوات والرؤى، وحيزا تتضافر فيه معطيات الكائن والممكن لتنسج كلية وجودية وفنية متكاملة الأركان، أو-بعبارة أخرى-نسقا فنيا يتأطر بمختلف الأبعاد التي تحكم التجربة الإنسانية.
ولعل التفكير في الرواية من خلال مجموع ما يؤسس لها من بُنى ودلالات وسياقات، هو تفكير في التجربة الإنسانية من خلال الأبعاد المختلفة التي تؤطرها وتضفي عليها معناها العام، وهذا مرده إلى أن الهاجس الأساسي للروائي من خلال العوالم التي يصوغها، لا يندرج ضمن سوق فهم ناجز عن الذات والواقع والآخر...وإنما صياغة هواجس الفهم والتفكير في العالم من داخل العمل الروائي بما يوفره من أدوات وآليات وبنيات، وبالتالي، فإن الروائي لا يسوق لنا فهما ناجزا ومكتملا عن السياقات التي تؤطره، وإنما يسوق لنا تفكيرا وتأملا في ما يؤرق وعيه ويشد انتباهه. ويبقى الرهان الأساسي الذي يحاول كل روائي تحقيقه مرتبطا بكتابة رواية «ازدواجية» تكون تمثيلا لأنساق اجتماعية وثقافية وتاريخية داخلية ومخصوصة، ومنفتحة –بالمقابل-على التجربة الإنسانية بكل ما يعتمل فيها من قضايا وهواجس وتطلعات. ولا يمر انشغال الرواية بهذه القضايا مجتمعة دون تحوير في البنيات والنظم الشكلية التي تبني هويتها، لأن خصوصية المنظورات والسياقات تفترض -بالضرورة- خصوصية التقنيات من حيث اشتغالها وتآلفها ووظيفتها، كما أن هذه التقنيات وتوظيفها بشكل مخصوص دون أشكال أخرى يمثل تجريبا لمسارات يتغيا من خلالها الروائي فهم الذات والواقع والتاريخ. «وهكذا تبدو الرواية عامة...تحت ضغط عوامل مختلفة ومعقدة، وكأنها مؤهلة للتعبير عن لحظة وعي مزدوج إيديولوجي وإستطيقي، غير أن ما يميزها، بصفة عامة، هو استجابتها للقوانين الداخلية أكثر من تأثرها بالقوانين الخارجية المصاحبة.» وهذا الطرح هو ما عبر عنه «تيودور أدورنو» في ضوء نظريته العامة عن الشكل الأدبي المعروفة ب»جماليات النفي»، حيث يعتبر «أن الشكل كلما انزاح عن محاكاة الواقع الاجتماعي، وتباعد عن انعكاسيته، تدثر بطاقة ثورية خلاقة أكثر نفاذا لعمقه، واستبصارا بسيرورته، ولذلك فالرواية من منظور أدورنو ليست مطالبة حتما بالانغراس في تمثيل تناقضات الواقع الخارجي، وتركيبها في كلية منسجمة للوعي بجدليته وتاريخيته، بل يتأتى للفن عبر هذه المسافة التي تتناءى به عن مطابقة السياق الاجتماعي استغوار جوهره».
2. في عتبة التجنيس:
يقتضي الدخول إلى غمار النص المرورَ على محطة أساسية ومهمة، تبني، بشكل أو بآخر، الطريقة التي سيتعاطى بها القارئ مع النص، وتوجه تمثلاته حول طبيعة الفعالية القرائية التي ينبغي أن يكرسها اتجاهه. وفي نص أحمد عبد اللطيف «حصن التراب: حكاية عائلة موريسكية» نلمس مسألة أساسية في الفعالية القرائية، ليس، فقط، من حيث جعلها القارئ يسافر خارج النص، ليجمع حطب المعنى، بل أيضا، في أنها تجعلنا نلمس ذاك التصور الذي يعتبر أن الدلالة تأويلية، أي أن انسجام النص نابع من افتراض للقارئ على أنه كذلك، وأهم موجه في الدخول للنص بهذا الافتراض، في هذه الرواية، هي عتبة التجنيس؛ فالعمل لن يكون روائيا إلا بافتراض القارئ على أنه كذلك، وينعكس هذا الافتراض على الفعالية القرائية من خلال البحث عن القصة، القصة التي ستكون متعددة بتعدد القراء، أما تعدديتها، فخاضعة لتمثلاتهم المرتبطة بالنص وخارج النص. ومن هنا يبرز سؤال أساسي ومهم؛ هل عتبة التجنيس كافية لبناء تلقي هذا النص باعتباره نصا روائيا، رغم أن بنيته الداخلية تتأسس على مجموعة من النصوص الموازية المختلفة، التي لا تشكل، حسب ألبيريس، قصة محكمة البناء؟
3.التجريب الروائي وسؤال التذويت السياسي:
ينطوي البناء الفني للرواية على مجموعة من القواعد والمعايير الجمالية التي تشتغل باعتبارها قوة تحويلية/تحويرية، تحاول خلق كلية فنية مؤسسة على إعادة النظر في التاريخ، وتبئير سؤال الهامش الذي يفتح أمام الروائي إمكانيات كثيرة لإعادة تشكيل الوجود وتنظيمه، وهذا ما يجعلنا نعتبر أن حضور التاريخ في الرواية؛ بقدر ما يوهم بالواقعية ويحقق مبدأ المشاكلة الفنية، فإنه يختزن هاجس الخلق وإعادة التشكيل الذي يحاول من خلاله الروائي تجاوز الحتميات التاريخية، ولعل هذا ما جعل سوزان «روبين سليمان» تعتبر أن «أي شكل أدبي هو نوع من البناء»،تستهدف من خلاله الذات المحددات الموضوعية للوجود الإنساني بالقدر الذي تستهدف فيه المحددات المؤسسة لوجودها.
تنخرط رواية «حصن التراب» في مغامرة التجريب، التي تنداح دوائرها لتحتضن مجموعة من النصوص، التي تحاول التأريخ لمعاناة عائلة دي مولينا في الأندلس، وبالضبط في حصن التراب، وما تعرض له بعض أفرادها من ترحيل قسري بسبب أصولهم الإسلامية، وهو ما جعل الرواية تبنى على شكل مذكرات، يستلم فيها، في كل محطة تاريخية، فرد من عائلة دي مولينا مشعل السرد، ليرصد لنا أثر الهزيمة العسكرية والسياسية على الهامش الاجتماعي، وما يمكن أن يجره اندماج الديني بالسياسي على هذا الهامش، الذي تتضاعف هامشيته بسبب أصوله التي ستجر عليه تجربة محاكم التفتيش والترحيل القسري. وهنا، تأتي الكتابة كرفض لهوية مفروضة من طرف الآخر، أي الآخر المنتصر، ويحيل هذا الرفض، على «منطق التذويت السياسي» كما طرحه «جاك رانسيير»، الذي يعتبر التذويت السياسي أو التلفظ السياسي هو رفض –بشكل دائم وفي نفس الوقت- لهوية مفروضة من طرف الآخر، ومُحَدَدَّة من خلال منطق سلطوي/بوليسي. ويقودنا «سؤال التذويت السياسي إلى تحليل مفهوم الشجاعة عند «حنا أرندت» التي تُعالج في المعنى السياسي باعتبارها فضيلة أساسية للمواطن وعنصرا للتمييز بين المواطنين وغير المواطنين»، وفي سياقنا، يمكن اعتبار مفهوم الشجاعة مقوما من مقومات ولادة الذات، وهو ما نجده جليا في نص محاكمة «كارمن دي مولينا» سنة 1641، ومحاكمة «سانتشو كاردونا دي أدميرال» سنة 1478، حيث نجد في نص محاكمة هذا الأخير:
« - أنت متهم أيضا بإنشاء مسجد للمسلمين، وهذه الجريمة تفوق جرائمك الأخرى.
-إن كنت تعتبر احترام العقائد ومساعدة المقهورين جريمة، فأنا مجرم».
إن اعتماد مذكرات عائلة «دي مولينا» كمرجع أساسي للتأريخ للفترة المترواحة بين القرن الخامس عشر والسابع عشر، يحيل على هاجس أساسي متمثل في كتابة تاريخ بديل، أو تاريخ مضاد، هذا التاريخ، يطبع الأحداث الكبرى بتطلعات الذات الأندلسية الموريسكية، وهو ما يفسر تأثيت الرواية بمجموعة من النصوص التي تتراوح بين: «مذكرات، رسائل، عقود بيع، أشعار، محاكمات...»،كما أن رواية حصن التراب لا تملأ البياضات باعتماد التخييل فقط، بل تحاول اعتصار وعي الأندلسي، ورؤيته للعالم من خلال الوسائط الفنية التي كانت تمكنه من بث وجوده، وأهمها الموسيقى، من خلال سوق مجموعة من الروابط الإلكترونية لبعض مقاطع الموسيقى الشعبية الأندلسية، وهنا تنخرط الرواية في منعطف أساسي يطبع الحساسية الجديدة كما يعرفها إدوارد الخراط، حيث يعتبرها:» اختراقا لا تقليدا، واستشكالا لا مطابقة، وإثارة للسؤال لا تقديما للأجوبة، ومهاجمة للمجهول لا رضى عن الذات بالعرفان»، ومن ناحية أخرى، فإن تداخل مجموعة من النصوص في تشكيل رواية «حصن التراب»، يدرجها ضمن ما يسميه الخراط «الكتابة عبر النوعية» أو النص المفتوح، أي الاتكاء على الخاصية الأساسية التي تطبع النوع الروائي؛ باعتباره نوعا أدبيا مفتوحا وغير مكتمل.
ينبني الرد بالكتابة في رواية «حصن التراب» على قناعة أساسية توجه جميع أفراد عائلة «دي مولينا»، الذين ورثوا كتابة مذكراتهم كما ورثوا أصولهم، ألا وهي الحق في الأرض، وأن الانتماء إليها يشكل في حد ذاته عقيدة تنضاف إلى العقيدة الدينية، حيث اضطر البعض إلى التضحية بالثانية من أجل تحصين الهوية المنبثقة عن الانتماء إلى الأرض. ومن هنا، تتوازى أزمة الهوية المنبثقة عن رفض السلطة لحق التواجد في الأرض، مع أزمة الشكل الروائي في رواية «حصن التراب»، هذه الأزمة التي تخلق قلقا حقيقيا على مستوى التجنيس، حيث نرى الرواية تطل من ضيق التاريخ، والتاريخ يعدو في رحابة الرواية.
إن أوراق عائلة «دي مولينا»، ترفع شعارا كبيرا يمكن اعتباره، ببعض التجوز، بنية دالة، وهو: « إذا عزَّ الانتماء إلى الأرض جغرافيا، ينبغي الانتماء إليها من خلال الكتابة»، وأن الأرض، بفهم هيجيلي، لا بد أن تختبر صدقية المنتمين إليها، وأن توجد في الناس بدل أن يوجدوا فيها، وهو الأمر الذي يمكن حمله على الحتمية بقدر حمله على المكر التاريخيين. ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن نمر على أوراق عائلة «دي مولينا» بدون أن تمر عبرنا مجموعة من النصوص التي تسائل الهوية والانتماء، ولعل أوراق «مانويل دي مولينا» سنة 1609، مانويل الذي يخاطبنا من مذكراته، بعد إعدامه، باعتباره حجرا رفقة أبيه وأمه، يلامس بقوة قصيدة درويش، «خطبة الهندي الأحمر»، حيث يقول درويش في أحد المقاطع:
نطل على أرضنا، من حصى أرضنا، من ثقوب الغيوم، نطل على أرضنا، من كلام النجوم،
نطل على أرضنا، من هواء البحيرات، من زغب الذرة الهش، من زهرة القبر، من ورق الحور،
من كل شيء، نحاصركم أيها البيض، موتى يموتون، موتى يعيشون، موتى يعودون، موتى يبوحون بالسر...
يمكن القول، إن رواية «حصن التراب»، تقوم، في علاقتها بالقارئ، على مسألة الإيهام بالقصة، حيث تعطي هذا الأخير، في البداية، ذاك الانطباع الذي يعتبر من خلاله أنه أمام قصة محكمة البناء، ذات تسلسل خطي للأحداث، ليتفاجأ أنه أمام مجموعة من المذكرات والمحاكمات، فيتبعها بحثا عن القصة، هذه القصة التي تتقلص ولا تظهر إلا في ثلاث محطات مقتضبة على الأكثر، حيث يجد القارئ نفسه منخرطا في تجربة إبداعية تسائل التاريخ بأدواته، باستعمال السرد التزامني، الذي يعكس هاجس الانضواء الوجداني في اللحظة التاريخية، ويكرس هوية الرواية في هذه النصوص، خصوصا في إعادة إحياء الماضي كأنه يقع في الحاضر، وهو الأمر الذي تجسده لعبة الضمائر السردية، المحكوم عليها بصيغة الماضي في الكتابة التاريخية.
إن رواية «حصن التراب»، تتوطن ضمن ما يصطلح عليه، «الرواية المضادة»، ليس فقط لأنها تهدم مقولة البطل التي يحللها «كيبيدي فاركا» في مقاله: «الرواية باعتبارها رواية مضادة»، بل لأنها تحاول كتابة تاريخ بديل أو مضاد، ضد النسيان، وهو ما يفسره تعريف سارتر للرواية المضادة حين يعتبرها نوع من الهدم، ورواية «حصن التراب» تحاول هدم التاريخ وكتابة تاريخ بديل، ولا يمر هذا بدون هدم الشكل الروائي وإعادة بنائه، بما يتناسب مع اللحظة التاريخية واشتراطاتها.
4. على سبيل الخاتمة:
تتعين رواية «حصن التراب» باعتبارها كاشفة لمجموعة من الخصوصيات النوعية المرتبطة بالممارسة الروائية، وتحويرا لمجموعة من البنى الكلاسيكية التي طبعت الكتابة السردية لسنوات، وهي بانخراطها في هاجس التحوير وبناء الخصوصية، توثق انتماءها للرواية الجديدة باعتبارها تيارا تجريبيا لا يراهن على ما كان (من حيث الشكل)، وإنما يراهن على مجموع الممكنات التي يمكن أن يتيحها الجنس الروائي باعتباره مجموعة من الأدوات والآليات، التي يمثل الاشتغال عليها وفق شاكلة معينة بناء لحساسية روائية نوعية من جهة، وبناء لخصوصية أسلوبية مرتبطة بالروائي من جهة ثانية. وإذا كانت الرواية، فيما سبق، تمثل إبدالا أدبيا وفنيا يسجل التناقض والتفكك الاجتماعي من خلال نثريته، فإنها حاليا تحاول تجسيد هذا التشتت بصيغة مُتَحَكَّمٍ فيها وليس بصيغة معطاة(النثرية)، أي بتوظيف يعكس خصوصية الروائي في الاشتغال على المكونات الشكلية للرواية، وهذا الاشتغال يكون مكرسا للنزعة اللايقينية، التي تمثل بالإضافة إلى صيغة الانتهاك الشكلي سمة أساسية من سمات الرواية العربية الجديدة، وحيث يتسرب اليقين بالقدرة على وصف العالم يسقط نعت «الجديدة» عن الرواية...وتتأسس نزعة اللايقين عبر طرائق السرد، وأشكال الرواة، وصيغة السرد المتشككة، واللغة غير القاطعة، والأحكام النسبية التي تشكل أساس نظرة الرواة إلى العالم.
نعيمة أمهري كاتبة من المغرب