من الذي يُحدّد الضحيّة لتكون مدار الأدب؟ هل هنالك منطقٌ كونيّ علميّ أو أخلاقيّ لتحديد الضحيّة حتّى نعترف بأدبها؟ من أدرانا أنّ ما يُعرَضُ علينا أدبا لضحايا ليس هو عينه أدب جلاّدين؟ عندما توسّعتُ قليلا في دراسة أدب الضحيّة، ونقد أدب الضحيّة، أدركتُ أنّ أغلب ما يُدار من أمثلةٍ حول أدب الضحيّة هو القصص الناتج عن أثر الهولوكوست أو عن «المحرقة اليهوديّة»، فتساءلتُ، ألم يكن ما كتبه اليابانيّون عن مجزرة ناجازاكي وهيروشيما بعد إلقاء القنبلة الذريّة عليهما، أبادت الزرع وجفّفت الضرع وأفنت الحياة، بأدب ضحيّة؟ ألم يكن ما كتبه الجزائريّون في الاستعمار الفرنسي لبلادهم بأدب شهادة على قبح العالم الغربيّ الذي تصدّر الكون وأياديه مُلوّثة بدماء المقهورين من الأمم الضعيفة؟ ألم يكن لفلسطين أدب يُعبّر عمّا لاقاه أهلها من تشريد وتجويع وإفناء، يُمثّل شهادة على مستعْمِر مستوطن، يقتلعُ البشر من أرضٍ غُرس فيها الأجداد والأسلاف؟ ألم يكن أدب اليهود الحُمر الذين عُذّبوا ونُكِّل بهم، وقُتّلوا وأُبيدوا، ومُحقوا، ومُحيت آثارهم أدبَ ضحيّة، ألم يكن ما كتبوه شهادة عن بطْشٍ تاريخيّ غير معهود؟ هذه الإبادة التي بقيت في جبين من لا يستحي، وهو مستعدّ مرّة وأخرى أن يُبيد عوالم من أجل مصالح لا نُدرك أبعادها، لقد توفّرت نصوصٌ عديدةٌ تُظهرُ وحشيّة المستعمر الغربيّ، لم ترتق في مدوّنة نُقّاد وفلاسفة أدب الضحيّة أن تكون منطلقا للدراسة، ورشّحوا المثال الأوفى في منظورهم، الذي يُمثّل أدب الضحيّة، وهو محرقة اليهود، على أيدي النازيين، وماذا فعلنا في محرقة الهنود على أيدي الأوروبيين، هذه المحرقة التي عبّر عنها واحد من بني جلدتهم، وهو المطران برتمولي دي لاس كازاس في رسالة رفعها إلى أمير بلاد إسبانيا الدوق فيليب الواردة في كتاب «مذابح الهنود الحمر: رسائل المطران برتمولي دي لاس كازاس» فأظهر قسما من شنيع فعال الغرب في الأمم التي يرونها وحشيّة تستحقّ الإبادة، يقول: «وإنّ المرء لا يستطيع أن يتخيّل أبدا أن في قدرة البشر أن يقوموا بمثل هذا التخريب، لقد عشت في بلاد هذه الشعوب الهندية أكثر من خمسين عاما وشاهدت بأم عيني ما ارتكبوه من فظاعات وجور، ولو أن سموكم علم بالنزر اليسير من هذه الفظائع لتوسّل إلى جلالتها أن تمنع الطغاة من طغيانهم باسم الفتوحات يعني سماحا بتكرار الفظاعات، فما تلقاه الشعوب الهندية المسالمة المتواضعة المرهفة ليس إلاّ طغيانا وجورا يدينهما كلّ قانون، وضعيّا كان أم إلهيّا، إنّها أفعال مرذولة ملعونة، ولهذا عزمت أن أبرئ ساحتي من هذه الجريمة بألا أسكت عنها، وأن أحدّثكم عمّا جناه الطغاة وعمّا أزهقوه من أرواح وآذوه من أجساد».

لقد أدركنا بعد مسار من العُمر أنّ الغرب غربٌ والشرق شرق، وأنّ الإنسان ليس واحدا، وأنّ الفكر التحرّري ليس فكرا تحرّريّا، ألم يُعدّل كارل ماركس من بوصلة دفاعه عن الشعوب المقموعة في زيارته للجزائر، واعتبر أنّ استعمار فرنسا للجزائر أمر ضروريّ لنقلها من مرحلة البدائيّة إلى مرحلة التأهيل الصناعي حتّى تتحقّق إثر ذلك الاشتراكيّة، فاشترك مع صاحبه في النظريّة فريديريك إنجلز في الرسائل المتبادلة بينهما، في تشريع الاستعمار الفرنسي، واعتبار أسر المقاوم العربي التاريخيّ الأمير عبد القادر «من حسن التوفيق الكبير»، والإقرار بأنّ استعمار الفرنسيين وتنكيلهم بالشعب الجزائري حتّميّة تاريخيّة.

إنّ الصُورة التي أراد الغرب -عمدا- أن يُسوّقها عن العرب هي صُورة المتخلّف الهمجيّ حضاريّا، والإرهابيّ دينيّا، في حين أنّ الصُورة التي سوّقها الغربيّ وتلقّاها قسمٌ من العرب، وآمنوا بها هي صُورة المتحضّر، المدنيّ، الإنسانيّ، المُسالم، الفطن، العالم، العارف، ومن وراء هذه الصُورة اشتغل أيضا اليهود على تسويق صُورة المظلوميّة التاريخيّة، والأقليّة التي عانت من التنكيل والتهجير، وخاصّة في الحرب العالميّة الثانيّة، وما تحمّله اليهود من «بطش» النازيّة، ولكن في المُقابل نحن نعلم أن صُورة المظلوميّة اليهوديّة التي رسّخها أدب الشهادة، أو أدب الضحيّة، وكذلك سينما الضحيّة التي رسّخت بها هوليود في الذاكرة العامّة صُورة اليهوديّ المُسالم البريء الذي عانى من محرقة النازيّة، هي صُورة مصنوعة، مفتعلة، ومع الأسف ناجحة وناجعة حتّى في اعتقاد قسم من المثقّفين العرب، فهل يتقبّل العالم اليوم أن نصف الصهاينة بالنازيّة وأن نتحدّث عن أدب الضحيّة، يصدر عن الفلسطينيين أو عن من عاشوا هذا الإفناء بآلة العدوان الإسرائيّلية؟ لحدّ الآن لا يتقبّل العالم المتحضّر أن يكون الفلسطينيّون هم الضحيّة، فرغم وحشيّة الدمار، ورغم انعدام التوازن بين القوى، ورغم التقتيل والهمجيّة فإنّ «عقلاء العالم» ما زالوا يتحدّثون عن «إرهاب الفلسطينيين»، عن شرعيّة الإبادة، عن إسرائيل المسكينة، ولعلّ في موقف الفيلسوف الألماني يورجن هابرماس صورة يجب أن تزعزع يقيننا بالاطمئنان إلى «موضوعيّة» الآخر، وإلى رغبته في إحلال عالم يسود فيه الحقّ وتعمّه الفضيلة، هابرماس الذي وقّع صُحبة زُمرة من العلماء والمفكّرين بيانا لإدانة «المجزرة التي ارتكبتها حماس ضد إسرائيل بنية إبادة الحياة اليهودية بشكل عامّ»، ولإقرار شرعيّة الوجود الإسرائيليّ وحقّ «شعب اللّه المُختار» في الوجود، وله الحقّ في الصدور عن هذه الرؤية، وفي إصدار هذا الموقف، فهو ألمانيّ يجب أن يُعلن براءته من «معاداة الساميّة» وأن يُبدي تضامنه مع القويّ، أقول: له الحقّ في ذلك، إذ ينظر من زاوية نظرٍ سادت في الفكر الغربيّ، وهي ألا حقّ لنا في الوجود، فنحن إمّا بربر همج أو عرب أعْمته ثورة النفط التي أغنتهم وأشبعت بطونهم وأخوت عقولهم. لا ينبغي أن نعيب على هابرماس وأمثاله مواقفهم المضادّة لشرعيّة الحقّ الفلسطينيّ في الوجود وفي مقاومة الاستعمار، ولا ينبغي أن نُظهر مظلوميّة نعيشها، بل نحن في حاجة إلى معرفة النفس، إلى إدراك الذات، إلى التخلّص من التقديس الأعمى لكلّ ما هو فكرٌ أو رأي غربيّ، فلقد عرّت حرب حماس عقولا طالما أسَرَتنا فأدركنا خواءها، وأيقظتنا المأساة الإنسانيّة في فلسطين من سباتنا الدغمائيّ في ضرورة إعادة بناء عقل عربيّ يستمدّ أدبه ونقده وفكره وعقلنته للوجود من رؤيته هو للوجود.

لقد طرحنا في سنوات عجاف عدد، إشكاليّة الأنا والآخر، وقلّبناها على وجوهها، وقال فيها أصدقاء الأنا ما قالوا، وطرحنا هذه المسألة في التدريس الجامعيّ ليعي أبناؤنا من حَمَلة العلم، صُورة العرب عند الغرب، ولكن مع الأسف لم ننجح في صناعة أجيالٍ منّا تؤمن بمرجعيّاتها، وبنبذ الآخر -في الاعتقاد- للعرب، ليبقى الآخر دوما جحيما على رأي سارتر، وليكون تبادلُ الأدوار من الضحيّة إلى الجلاّد ليس موقفا مبدئيّا إنسانيّا ولا ثابتا، وإنّما هو موقف خاضع لوجهة النظر، ولزاوية النظر، هابرماس وماركس وإنجلز وغيرهم كُثر ينظرون من زاوية نظر الجلاّد -في منظورنا- ولذلك لا يريدون أن يكونوا في موقع الضحيّة.