خلال هذه الأيام التي وصل فيها الفلسطينيون في غزة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى هدنة مؤقتة غير مكتملة الأركان أعاد الكثير من المعلقين والمحللين على شاشات الفضائيات العربية والأجنبية طرح موضوع السلام الدائم مع إسرائيل عبر إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية ليستطيع الجميع أن يعيش في أمن وسلام بعيدا عن هذه الحروب المستمرة التي خسر فيها الجميع والتي تكشفت هذه المرة أمام الجماهير في عموم العالم بما لم تتكشف من قبل.. وهذا الطرح كان، وما زال، مبادرة عربية مضى منذ طرحها على إسرائيل أكثر من عقدين من الزمن.. دون أن يرى الجميع، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الرسمي للسلام بين الجانبين أي تقدم حقيقي من جانب إسرائيل، ورغم ذلك فإن الدول العربية التي تبنت المبادرة منذ عام 2002 ما زالت متمسكة بها رغم المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في حق الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين منذ أن طرحت المبادرة لأول مرة.

لكن يغيب في وسط الحديث عن خيار حل الدولتين، باعتباره الخيار الاستراتيجي الأفضل للجميع، فهم الموقف الإسرائيلي من خيار السلام مع العرب ومع فلسطين باعتبارها دولة.. وهل تؤمن إسرائيل بحل الدولتين أو كان خيارا ضمن خياراتها في يوم من الأيام؟ للإجابة عن مثل هذا السؤال لا بد من التعمق في فهم الأسس الأيديولوجية للصهيونية، الحركة التي أدت إلى تشكيل «دولة» إسرائيل.

يهمل الكثير من السياسيين والمعلقين السياق التاريخي في فهم مسارات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، والأسس الأيديولوجية التي قامت عليها فكرة الدولة الإسرائيلية «اليهودية»، ويعتقد البعض أن هذا الصراع مثل أي صراع آخر بين دولتين أو بين قوميتين، ولكنه في الحقيقة، رغم ما يحيط به من أوهام وسرديات ملفقة، صراع معقد قائم على أفكار أيديولوجية وعلى تفسير مختلف للتاريخ والمصير اليهودي.

كانت الصهيونية استجابة للسياق الأوروبي لمعاداة السامية والقومية، الأمر الذي جعل الصهيونية العالمية تسعى بكل إمكانياتها لإيجاد وطن لليهود يحقق لهم التحرر والأمان، إلا أن التطبيق العملي لهذه الاستجابة أو الأيديولوجية، جاءت على حساب فلسطين دولة وشعبا وبقية السردية معروفة للجميع.. لكن المهم هنا أن الأيديولوجية الصهيونية، بطبيعتها، تتعارض مع مفهوم حل الدولتين لأنها تدور بشكل أساسي حول فكرة الدولة اليهودية على أرض إسرائيل التاريخية.. وفكرة دولة إسرائيلية ودولة فلسطينية تضرب في العمق الأسس التي قامت عليها «دولة» إسرائيل.

لذلك فإن التعويل كثيرا على رضوخ إسرائيل عبر الحوار السياسي إلى حل الدولتين قد لا يكون واقعيا في الوقت الحالي على الأقل، فالأيديولوجية الصهيونية، رغم التحديات ورغم المأزق السياسي الذي تمر به والذي تأزم خلال الحرب الحالية على غزة، ما زالت تؤمن إيمانا قاطعا بفكرة الدولة اليهودية من البحر إلى النهر، والتوسع المستمر والجنوني في بناء المستوطنات الإسرائيلية والوحشية التي رأيناها في حرب إسرائيل مع غزة لا يعطي أي مؤشر ولو ضئيل أن إسرائيل يمكن أن تذهب في المدى القريب أو المتوسط إلى خيار الدولتين.. بل إنه أصبح الآن خيارا بعيد المنال، فما أكثر الندوب التي تنذر بحروب قريبة قادمة!

إن تحقيق السلام بين إسرائيل وبين الفلسطينيين وبالتالي العرب يحتاج إلى تحول أساسي في الأيديولوجية الصهيونية التي تقوم عليها الدولة الإسرائيلية إضافة إلى إعادة النظر في الروايات التاريخية التي غذت الصراع خلال العقود الماضية، وهذا يحتاج إلى تحول حقيقي في موازين القوى في المنطقة وقدرة السرديات العربية على دحض السرديات الإسرائيلية وفضح زيفها أمام العالم أجمع وليس أمام العرب الذين لا يؤمنون بها في الأساس.