للشعراء العرب مني كل محبة، حتى لو خالفت سنن من اشتهر منهم بسبب الهجاء السياسي، الذي للأسف لامس ميول الشباب والمعارضة السياسية. والغريب أن هذه المعارضة حين وصلت إلى الحكم، قد تعرضت لهجاء سياسي وشعري من كتاب وشعراء آخرين.

والآن الآن، ونحن نتابع ما يكتبه الكتاب والشعراء، في ظل الحرب الظالمة على غزة، نجد أما يطفو على السطح هو الهجاء الشعري السياسي. ولست هنا لأصدر حكما لا على الشعراء، ولا على مريديهم، إنما وجدت نفسي أعود قرونا إلى الوراء، للبحث عن جدوى هذا اللون من الشعر، وماذا أفاد حياتنا العربية على مدار عمر الشعر العربي، فيما يقرب من 16 قرنا؟ فإذا لم يفعل ذلك طوال هذه القرون، فهل سيقدم طوق نجاة لغزة اليوم؟

تتبعت الشعر فتى، فعرفت مثلكم مواضيعه ومذاهبه، من غزل ومدح وفخر ووصف ورثاء وهجاء، لكنني استغربت حين ترجم العرب كتاب أرسطو «فن الشعر»، فإذا كان أرسطو قد تحدث عن فني التراجيديا والكوميديا، فقد ترجمه أبو بشر متى بن يونس القنائي بالمدح والهجاء، حتى أن قدامة بن جعفر تأثر بذلك في كتابه الشهير «نقد الشعر»، الذي يطلع عليه طلبة الأدب العربي في الجامعات؛ حيث ردّ قدامة أغراض الشعر إلى فني المدح والهجاء.

دخل كتاب أرسطو إلى العربية ضمن حركة الترجمة في العصر العباسي الأول، وقد وضع الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد ملخصات لهذا الكتاب.

عاش قدامة بن جعفر الربع الأخير القرن الثالث والقرن الرابع الهجري، لذلك، فإن زمنه يشفع له بما كتب، بل ما كتبه يعدّ مرجعا لدارسي الشعر العربي حتى الآن، لكن بالطبع يأتي من خلال تاريخ الأدب والنقد.

لكن ما وقفت عنده أول الشباب، وأنا في السنة الثانية في كلية الآداب، هو كيف تم اختزال الشعر بأغراضه المتنوعة، إلى المدح والهجاء، حيث أن كل وصف جميل يعد مدحا حتى لو كان غزلا، وغير ذلك، فإنه هجاء؟

وبعد أن اكتمل بياض ما تبقّى من الشَعر، عدت إلى ابن جعفر، ومن جاء بعده، فوجدت أن الألف عام التي مرّت على حياتنا العربية، لم تزل ما فهمه الأقدمون، فظل الكتاب أوفياء لغرضي الشعر والكتابة بشكل عام، بمن فيهم من يكتبون الآن؛ فإما يمدح وإما يهجو، أو تهجو. وانعكس ذلك على الكتابات السياسية، التي ما زالت تنقسم بين مادح وذام، وليس ذلك إلا المدح والهجاء المبالغ فيهما غير المفيدين في غالب أمورنا.

ترى هل أبعدت كثيرا؟ ربما، ولكن كي أقترب، كيف؟

بصراحة، مع كامل الاحترام للشعراء الذي اشتهروا بالهجاء السياسي، ماذا أفادونا؟ وهل خلصونا مما عانيناه عربيا؟

لو اتجه بعض مداد أقلام الكتاب والشعراء نحو المستقبل العربي، لكان حال التعليم والثقافة بخير، ولكان حال الزراعة بخير، والتكامل العربي بخير، والاعتماد على الذات بخير، ولقضي على الخلافات بين الأشقاء؛ فتلك هي المناخات التي تحتاج إلى تغيير للبناء من جديد، فليست قصيدة هجاء سياسي سريعة قادرة على تحقيق النصر، بل بالأحرى كتابة عاقلة هادئة تخطط للمستقبل، حتى يأتي فيه جيل قياديّ جديد وقد تحرر من أثقال الماضي والحاضر؛ فما يكون من وهن نعيشه إنما هو نتاج المنظومة كاملة، وليس النظام السياسي إلا أحدها، كما لا يجوز التعميم، فثمة ما يثير الأمل في بلادنا العربية، لم نمت بعد، بل ما زالت العروبة حية. ولأجل ذلك نحتاج من يبث الحياة ويشجه النهضة لا من يرثي ويهجو.

في قصيدة «من روميات أبي فراس الحمداني»، للشاعر الفلسطيني محمود درويش، نتأمل معنى الأمل بالشقيق في الظرف الصعب، لا النيل منه:

زنزانتي

اتسعت سنتيمتراً لصوت الحمامة: طيري

إلى حلب، يا حمامة، طيري بروميتي

واحملي لابن عمي سلامي!

صدىً

للصدى. للصدى سلم معدني، شفافية، وندى

يعج بمن يصعدون إلى فجرهم... وبمن

ينزلون إلى قبرهم من ثقوب المدى...

خذوني إلى لغتي معكم! قلت:

ما ينفع الناس يمكث في كلمات القصيد

هذا ما عوّل عليه درويش: الأمل!

وقد اختتم درويش بذكاء بتناصه الأكثر دهشة:

«ما ينفع الناس يمكث في كلمات القصيد»

وعودا على بدء، على أمل ألا يغضب شعراء الهجاء السياسي في بلادنا، فقد عدت إلى سياق الآية الكريمة، التي عنونت مقالي بها «وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض»، فوجدت أن لها سياقين خاصا وعاما. أما الخاص، فهو الآية الكريمة التي اقتبسنا منها، وهي الآية 17، فنقرأ:

«أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا، فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ، كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء، وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ». والمعنى هنا واضح، في مكوث الماء في الأرض لتستفيد منها، كخزان جوفيّ، تأخذ النباتات حاجتها والإنسان، في حين يختفي الزبد الذي يطفو ببياضه على السطح. أما السياق العام، فهو سياق خلق الكون، ومواقف البشر، ولاستعداد الاستراتيجي طويل الأمد للحياة. وتوضيح رسوخ الحق، بمعنى العمل الجاد النافع.

ترى، ماذا ينفع المضطهدين والمنكوبين والمحتلة بيوتهم من هذا الصراخ الشعري؟ هل يغيث ملهوفيهم؟ هل يضمّد جراحهم؟ هل يؤويهم من برد وشمس وحاجة؟ هل يطعمهم أو يسقيهم؟ كذلك هل فعلا يعدّ الشعوب للمستقبل؟ للأسف، وليعتب عليّ شعراء الهجاء السياسي، فإن شعرهم إنما هو في أعظم أثره إنما يفرّغ طاقة الانفعال لديهم ولدى القراء، فيشعروا بأنهم قاتلوا واستبسلوا، وقدموا واستبسلوا، فأعادوا البلاد والعباد، وحرروا الأوطان والبشر. وإن ذلك، للأسف، يعيدنا إلى الوراء، ولا يمنحنا طاقة التقدم إلى الأمام. ولعلي هنا أكاد أضم صوتي لصوت أفلاطون حين أبعد طائفة من الشعراء الغنائيين عن مدينته الفاضلة.

شعر شعبوي ينتشر وله نجومه، المستفيدون من شهرتهم، يلامس السطح السمعي لا البصر والفؤاد والعقل. شعر مريح يريحهم من أداء الواجب، فيثيرون خدرا، بل يتحول العمل الجاد إلى مسرحية هزلية.

إن كان المديح السياسي مضرا، فالهجاء ضرره أكثر؛ نحن بحاجة إلى العمل من أجل المستقبل لا التباكي والذم الذي لا يفيد شعوبا بشيء سوى اليأس.

ولنختتم بما عبّر عنه الشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان في الثلاثينيات من القرن العشرين، إبان الاحتلال الإنجليزي والهجرات الصهيونية إلى فلسطين، عن مثل هؤلاء الشعراء والكتاب والساسة:

كم قلتَ أمراض البلاد وأنتَ من أمراضها

والشؤم علتها فهل فتشت عن أعراضها

يا مَنْ حملْتَ الفأْسَ تهدِمها على أنْقاضِها

أُقعدْ فما أنتَ الذي يَسْعى إلى إنهاضها

وطنٌ يُباعُ ويُشترى وتصيحُ فليحيَ الوطنْ

لو كنتَ تبغي خيْرَهُ لبذلتَ من دمِك الثمنْ

ولقمتَ تضْمِدُ جرحهُ لو كنتَ من أهلِ الفطنْ

أضحى التشاؤُمُ في حديثك بالغريزَةِ والسَّليقهْ

مِثل الغرابِ نَعى الدّياَر وأسْمَعَ الدّنيا نعيقَهْ

فعل هو ما تريده شعوبا، لا رثاء ولا هجاء، لا مدحا ولا ذما، فلن يفيد الكلام.