أظهرت الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة مواقف الدول الحرة ذات السيادة القادرة على التعبير واتخاذ المواقف السياسية تجاه الكيان الصهيوني، ففي أمريكا اللاتينية التي يهيمن عليها اليسار الجديد قطعت العديد من الدول علاقاتها بإسرائيل وسحبت سفراءها، وهو ما لم نجده في مواقف الدول العربية والإسلامية المُطبعة مع الكيان الغاصب. تدل مواقف دول أمريكا اللاتينية في بوليفيا وكولومبيا وتشيلي على سيادة تلك الأنظمة وخروجها على الهيمنة الأمريكية التي سُمّيت بجمهوريات الموز نتيجة لتحكم الشركات الأمريكية في دول أمريكيا اللاتينية والسيطرة على ثرواتها الطبيعية، ولكن عصا الطاعة شقته الشعوب التي عانت من الأحزاب التابعة للولايات المتحدة ومن سياساتها المفرطة في التحكم بمصائر المجتمعات وحرياتها.

إن تعاطف الدول اللاتينية مع القضية الفلسطينية لا يرجع إلى وجود الجاليات العربية التي هاجرت إلى الأمريكيتين هربا من تسلط العُثمانيين، بل يرجع الفضل إلى استعادة الشعوب حريتها وعافيتها.

أعادني مواقف بعض الدول اللاتينية إلى سلسلة من الأفلام الوثائقية التي بثتها قناة «الجزيرة» سنة 2006م، إذ أنتجت شركة (هوت سبوت) مجموعة حلقات مكونة من 26 فيلمًا صُورت في الأرجنتين وتشيلي وفنزويلا والإكوادور وبنما وهندوراس وكوستاريـكا، كتب عنها الصحفي أمجد ناصر (1955-2019) في صحيفة القدس العربي «وأنا أشاهد واحدًا من أفضل برامج الجزيرة الوثائقية، عرب أمريكا اللاتينية، في حلقة خُصصت لثلاثة شعراء من أصول عربية، قال شاعر كوستاريكي منحدر من عائلة صوما اللبنانية: إن العرب يشكلون اليوم طليعة القوة البشرية التي تتصدى لأعتى جبروت استعمـاري». اليوم لا يقف الإنسان الفلسطيني أمام أقذر استعمار صهيوني، بل لقد كُشف النفاق الدولي وأكذوبة حقوق الإنسان والقانون الدولي وزيف المواثيق والمعاهدات، فالفلسطيني يتعرض اليوم لإبادة جماعية أمام أنظار العالم وعلى مسمعه، فهل سينتظر إلى أن يفنى آخر فلسطيني حتى تُكتب له الحياة والكرامة؟ وهو الآن، أي الفلسطيني، الإنسان الوحيد المحروم من العودة إلى أرضه ووطنه. يقول مهاجر فلسطيني يعيش في هندوراس وحاول زيارة فلسطين ولكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي لم تسمح له بالزيارة: «وجع بأحكي لكم يعني وطني وبلدي ومولود فيه وكل شيء ولا أستطيع أروح عليـه». ومع ذلك يحاول الفلسطيني في الغربة التمسك بثقافته العربية، فقد قالت فيكتوريا سليمان العرجا المهاجرة الفلسطينية إلى هندوراس: «أول شيء حافظنا على العادات العربية في عيد الميلاد، إيش نعمل، في العيد الكبير نعمل الكـورال، صاروا الناس يقولون بدنا نروح على الكنيسة العربية، مش يقولوا الكنيسة الأرثوذكسية... العربية».

في هندوراس أيضا تم تأسيس نادٍ للعرب لجمع بقية المهاجرين وليكون مكانَ تعارفٍ بين العائلات. يقول أحد المشاركين في حلقة (عرب هندوراس) «لكي نرفع اسم العرب أسسنا أنا وزوجتي نادي العرب ولدينا تقريبا 1600 شريك في النادي، ومع بعض الخسائر إلا أننا عازمون على بقاء النادي لرفع اسم العرب والعائلة إلى أبد الآبدين».

تشعرنا الروح العربية الحرة في أمريكا اللاتينية بأنها جزء من القرار السياسي المتخذ حيال الجريمة المرتكبة من الصهاينة في غزة، وأن أبناء الأمة العربية في أمريكا الجنوبية يمثلون قوة في القارة تنتصر للحق العربي وتسهم في كشف صورة الاحتلال البغيض للأراضي العربية.

إن خذلان الأنظمة العربية والإسلامية للشعب الفلسطيني عار لا تطهره مياه المحيطات، ولا تمحوه الشعارات المرفوعة من دعاة الاستسلام، فالدم المسفوك يوميا في غزة والأرواح التي تُزهق كل ساعة لم تُحرك أي شعور لدى من يصافح الصهاينة ويثق بهم أكثر من أبناء وطنه وديانته. ومع الضعف والهوان وقلة الحيلة التي نعيشها، نشهد صحوة الضمائر الحرة في كل المدن والشوارع وهي تحاول رفع الظلم عن أهل غزة.