منذ عام ١٩٤٨ والفلسطينيون مشتتون في معظم دول العالم، رغم وقوع حربين عالميتين مروعتين دفعت البشرية ثمنهما هائلًا من دماء شعوب لم يكن لها في تلك الحرب ناقة ولا جمل، رغم ما أعقب الحرب العالمية الثانية من اتفاق الدول الكبرى على تأسيس منظمة دولية تحول دون وقوع مثل هذه المآسي، والحيلولة دون استقواء الدول الكبرى على الدول النامية، إلا أن المؤامرة الكبرى التي قادتها بريطانيا بدعم ومساندة من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية لقيام دولة يهودية على أرض فلسطين، ودعمها عسكريًا وماليًا- كان بمثابة أول ضربة قاضية لمصداقية الأمم المتحدة، وما أشبه اليوم بالأمس! فها هم الفلسطينيون يموتون تحت أنقاض منازلهم، بعد أن راحت الطائرات والمدافع وكل وسائل الإبادة تحصد أرواح هذا الشعب الأعزل، بعد أن منعوا عنه الغذاء والدواء في مشاهد مروعة لم تحرك ضمير العالم الحر، الذي فقد إنسانيته، ورغم نداءات الأمين العام لأمم المتحدة (أنطونيو جوتيريش) بعد أن زار معبر رفح، وشاهد بعينيه هول المأساة، ودعوته الصريحة لإنقاذ الأطفال والنساء والمشردين، إلا أن كل نداءاته ذهبت هباءً، في الوقت الذي يموت فيه الناس تحت أنقاض منازلهم، أو في المستشفيات التي راح العدو يستهدفها بكل قسوة أو على قارعة الطريق.

ما يحيرني ويضاعف من ألمي ومرارتي هو موقف العرب الذين أبرأوا ذممهم وقد اكتفوا بالبيانات والتصريحات الإعلامية، بينما بعض أقطارنا العربية راحت تقدم خطابين متناقضين، أحدهما موجه إلى العرب، والآخر إلى الغرب الداعم للعدوان، وهي ازدواجية عجيبة، استغلها المعتدون لتبرير عدوانهم وطغيانهم، ورغم هول الفاجعة، وصعوبة المشهد الذي لا مثيل له حتى في الحروب العالمية الكبرى، إلا أن ضعف العرب وتعارض مواقفهم كان سببًا كافيًا لمزيد من العدوان، وفي ظل هذه النكبة الكبرى لم تُقدم دولة عربية أو إسلامية واحدة من الدول التي لديها علاقات مع إسرائيل على قطع العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية رغم الحشود الجماهيرية المطالبة بقطع العلاقات التي ملأت الميادين في المدن العربية والإسلامية والأوروبية، وقد انتفضت غضبًا وألمًا بعد أن رأت عبر وسائل الإعلام صرخات الأمهات وبكاء الأطفال وجثث الشهداء على قارعة الطريق صباح مساء.

العجيب في الأمر أن بعض أقطارنا العربية -ونحن نتابع إعلامها- لا تشعرنا بأن هذا العدوان على أرض عربية، بل وكأنها أحداث تقع في دول أمريكا اللاتينية، فالبرامج الغنائية والمسرحية وكل ما يقدم عبر وسائل الإعلام لا يشعرنا بأي قدر من التعاطف، رغم أن ثقافتنا العربية عبر تاريخها الطويل قد عرفت كيف يشعر الناس بفقد جار أو صديق أو قريب، حينما يشارك الجميع بدعم أهل المفقودين، حتى لو كان هذا الدعم معنويًا، إنها ثقافة عربية أصيلة، أعتقد إنها لا تزال قائمة في مجتمعاتنا العربية. لم يعبأ البعض بشلالات الدماء على الأرض العربية في فلسطين، وقد راح أهلها يستنجدون بالعروبة والإسلام، إلا أن كل هذا قد ذهب هباءً، وهو مشهد مروع أحدث انقساما بين الجماهير العربية والإسلامية، وخصوصًا قد راح البعض يشن هجومًا قاسيا على القتلى، وقد حمّلهم المسؤولية عن قتلهم.

ضاعف من هول المأساة اختفاء بعض حكامنا عن المشهد، وكأن القضية برمتها لا تعنيهم، حتى حينما دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى عقد قمة عربية كان الصمت هو الإجابة المناسبة، وهو أمر يدعونا إلى الريبة والشعور بأن أمرًا يدبر بليل في سبيل الإجهاز على القضية الفلسطينية نهائيًا، وربما يتصور البعض إنه آمن في وطنه، فالخطر يهدد الجميع من كل جانب، ولا سبيل أمامنا إلا أن نعتصم بوحدتنا وهويتنا، وطالما بقي العرب منقسمين مختلفين، فالمستقبل يكتنفه الغموض والخطر، لا نطالب حكامنا بأن يجيّشوا الجيوش ويعلنون الحرب، بل أضعف الإيمان أن يستخدموا قواهم الناعمة في السياسة والدبلوماسية والاقتصاد، وعلاقاتهم الدولية الواسعة لإنقاذ شعب يباد تحت أعين الجميع، وأعتقد أن على الجاليات العربية في أوروبا وأمريكا مهمة عظيمة، فلا يكفي التظاهر في الشوارع والميادين وبيانات الشجب والإدانة، بل عليهم أن يشكلوا لوبيا عربيا منظما، وهم من الكثرة لدرجة أن باستطاعتهم أن يشكلوا ضغطًا على البرلمانات الأوروبية والأمريكية وأن يمارسوا دورهم في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فضلًا عن مهام كثيرة وهي وسائل لم تلتفت إليها الجاليات العربية في أوروبا وأمريكا، رغم أنهم من الكثرة لدرجة أن باستطاعتهم أن يؤثروا على صناعة القرار السياسي في الوقت الذي يشغل فيه اللوبي الصهيوني دورًا كبيرًا وقوة ضغط هائلة في السياسة والإعلام والاقتصاد في سبيل خدمة إسرائيل، لكن المشكلة أن مواطنينا العرب والمسلمين قد حملوا أمراضهم وأدرانهم على ظهورهم أينما رحلوا.

يملك العرب كل مقومات القوة، فأينما ذهبت من المشرق العربي إلى مغربه تجد اللغة العربية هي الوسيلة الوحيدة للتحدث، وأينما حللت بقطر عربي وتجولت بين مكتباته تلاحظ أن كل ما يقرؤه المشرقيون العرب يقرأه المغاربة، وأن شغف كل الشعوب نحو التطلع إلى وحدتها، وأن العلاقات الاجتماعية تمتد من المشرق إلى المغرب في محبة ووئام.

لقد أتيح لي السفر إلى كل الأقطار العربية من المشرق إلى المغرب، لم أشعر ولو لمرة واحدة أنني قد غادرت بلدي، بل أجد في كل قطر نزلت فيه محبةً وترحيبًا، حتى في ظل ما كانت تواجهه بلدي من مناكفات سياسية، لكن كان الشعب دائما هو الحاضنة الاجتماعية والفكرية، وفي كل البلاد التي زرتها غالبًا ما كنت أتجول بين منافذ بيع الكتب والصحف، وكل ما تقع عيناي عليه إما أن أكون قد قرأته أو سمعت عن مؤلِفه، والمكتبات عامرة بما يكتبه الكتاب والمفكرون العرب من كل الأقطار، وغالبًا ما كنت أزور المكتبات القديمة، ومن عناوين الكتب أشعر أن المؤلف لا يكتب لبلده فقط، بل عينه وقلبه تستهدف القارئ العربي في كل مكان.

لم يلتفت صناع القرار إلى أهمية هذا الرصيد الفكري والحضاري والاجتماعي، الذي يعد رصيدًا ضخمًا لصناعة مستقبل أفضل نحمي به أوطاننا وشعوبنا وثقافتنا، والعدوان الصهيوني في قلب هذا المشهد، فماذا نحن منتظرون لإنقاذ أهلنا في فلسطين مما يُخطط لهم من مصير مظلم، طالما القرار بيد حكامنا، فعليهم أن يثقوا بأن من ورائهم رصيدًا ضخمًا من البشر يمكن الاعتماد عليه، بهدف حماية مستقبلنا والحفاظ على هويتنا، والتجارب التاريخية منذ بداية البشرية تؤكد أن كل الغزاة والمستعمرين في طريقهم إلى الزوال طالما تمسكنا بحقوقنا وبأرضنا، ومن المستحيل أن يُقتلع الفلسطينيون من أرضهم مهما طال الاحتلال، والقضية الفلسطينية ستظل حية ما بقي الفلسطينيون على أرضهم التي ولدوا عليها، ولن يتمكن العدو بكل قوته وجبروته من اقتلاع شعب من أرضه، والفلسطينيون من أكثر الشعوب إيمانًا بهذه القضية التي لا تسقط أبدًا بالتقادم.

د. محمد صابر عرب أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر ووزير الثقافة المصرية (سابقا) ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية (سابقا).