أثار نشر مقال جوديث بتلر الأخير عاصفة من ردود الفعل (ثمة بالمناسبة ترجمة متوفرة للمقال على منصة جدلية، معنون بـ« بوصلة الحداد»). المثير في الأمر أن هذا المقال -للفيلسوفة الأمريكية الرائدة في دراسات الجندر والفلسفة السياسية، وإحدى رواد الموجة النسوية الثالثة- أغضب جميع الأطراف، المناصرة لفلسطين وإسرائيل على حد سواء. فكيف نجحوا في فعل هذا؟

موقف جوديث بتلر الذي لم يعجب أحدًا:

قبل أن نبدأ في رصد ردود الفعل والتعليق عليها دعونا نُدرج أهم النقاط التي جاءت في المقال:

1. عنف حماس ضد إسرائيل غير مبرر. (يُمكن إضافة إنه ولو كان مفهوما إذا ما وُضع في سياقه التاريخي، يبقى غير مبرر).

2. لابد من فهم السياق التاريخي الذي يأتي فيه عنف حماس ضد إسرائيل، أي العنف المسلط على الفلسطينيين وقطاع غزة بالأخص على مدار سنوات من الاستعمار، الحصار، الغارات الجوية المستمرة، التحكم بتحركات الفلسطينيين عبر نقاط التفتيش والمعابر، السجن التعسفي، تعذيب الأسرى، الاغتيالات. يُضاف إلى هذا الإحباط الناتج عن عدم التزام إسرائيل بالاتفاقيات الدولية.

3. تبرير العنف الفلسطيني على اعتبار أنه استمرار للعنف الإسرائيلي ينزع عن حماس أي مسؤولية أخلاقية.

4. من الضروري -والمستحيل في الوقت نفسه كما يبدو- تنظيم النقاش عبر تحديد ما إذا الحكم الإسرائيلي هو استعمار، فصل عنصري، أم غير ذلك.

ما أغضب الصحافة الألمانية هو الآتي:

1. وصف ما يحدث في فلسطين بالإبادة الجماعية. وهم لا يرونه كذلك؛ لأن وفيات المدنيين من الفلسطينيين تحدث عرَضا برأيهم.

2. اعتبار النص قادم من شعبوية ويمينية متطرفة.

3. إصرار بتلر على رؤية العنف الإسرائيلي في سياق أنه عنف مُستعمِر ضد مسعتمَر، فيما يُنظر إلى إسرائيل باعتبارها دولة لها الحق في الوجود والدفاع عن نفسها مهما تطلب الأمر.

4. كيف لبتلر أن تنتقد لا-أنسنة الإسرائيليين للفلسطينيين بالرغم من أن هذا النقد يصح لكلا الطرفين (يُضرب المثل بوصف عبدالله عزام لليهود بالسرطان!)

وفي الجهة الأخرى، تبني بتلر لسياسات اللاعنف والإشادة بنضالات التحرير التي انتهجت مثل هذه السياسات، يجعل المناصرين للقضية الفلسطينية يتعجبون من لا جدوى الحل الذي تقترحه، النضال السياسي طوال سنوات الآن، ومحاولة التوصل إلى حل سلمي، كلها تمت مواجهته بتملص ورفض إسرائيلي. هذه إذا هي المعطيات ومن يتجاهلونها فهم يقترحون حلاً لمشكلة أخرى، لا علاقة لها بالمشكلة التي بين أيدينا اليوم.

والآن يُمكن أن نحاول أن نتفهم -على طريقة بتلر- موقفها هذا. يُمكن أن نقول إنها أمريكية يهودية توجه قارئها وهو مواطن غربي، ذو موقف غير واضح من القضية على الأقل، إن لم يكن قد ورث موقف دولته وناصر إسرائيل على نحو أوتوماتيكي. ويُمكننا -على طريقتها أيضا- أن نقول بأن تفهمنا لا يعني أن نُبرر لها الموقف الضعيف الذي لا يقدم أي تبصر يأخذنا في أي اتجاه. أقول إن موقفها ضعيف؛ لأن بإمكان المرء أن يلمس تلعثمها وخوفها من أن تقول رأيها على نحو صريح. أفهم أن لا يكون بوسعها أكثر من ذلك ولا أفهمه في الوقت نفسه.

وهم الجدال والحلول العقلانية:

تُغير الحرب على غزة شكل العالم، والكثير من المفاهيم الأساسية. يتحدث البعض عن تغيير الهويات (من حيث أنها تُعطي ثِقلا أكبر للهويات المكتسبة منه للهويات المُتخذة)، وأتحدث اليوم عن تغيير فكرتنا عن العقلانية والمنطق. ثمة تصور شائع أن المواقف العاطفية لا يُعول عليها، وأنه لا يُمكننا التفكير بوضوح حول مسألة ما إلا إذا وضعناها جانبا واحتكمنا للمنطق. وظيفة الحجج السليمة أنها تقودنا إلى معرفة يُمكن -إلى درجة ما- الوثوق بها، ويُمكن الاعتماد عليها بالتالي لتوجيه بوصلتنا الأخلاقية.

الجدال العقلاني يكشف عن نفسه باعتباره استمناء ثقافيا في ظل هذه الظروف. يُمكن للمجادلين من كلا الطرفين الإتيان بأفضل ما لديهم من حجج. لكن ماذا تفعل الحجج، إن كانت المسلمات التي ينطلق منها الطرفان تنتمي لبُعدين مختلفين بحيث لا يعود ممكنا أن يتواصلا على نحو مثمر.

دعوات نبذ العنف تبدو دائما موجهة ضد الطرف الأضعف، الذي يعاني شحا في خيارات المقاومة. غالبا ما تأتي هذه الدعوات في سياق معين: ثمة عنف مسلط على مجموعة ما (ليس بالضرورة أن يكون عنفا جسديا -مع أنه حاضر في كثير من الحالات-، يُمكن أن يكون اقتصاديا، بيروقراطيا، الخ)، وتأتي الدعوات لتهدئة المستضعَف حتى لا يثور على المُستضعِف. هذه الدعوات إذا تنتصر لصاحب السلطة، الذي يملك وفرة من أدوات القمع، خصوصا تلك التي تُلبسه لبوس التحضر. بإمكان صاحب السلطة الزج بك في السجون (وهو لا يحتاج إلى لمسِك حتى يفعل ذلك، بل يستدعيك بكل تحضر، ويحاكمك وفق القانون الذي وضعه، ويحكم ضدك بعدالة الخصم والحكم)، وهو قادر على فرض حظر تجوال، ومنع الإضرابات، على التهديد بأن تأخذ منك حريتك، تُهدد معيشتك، وكرامتك، قادر على أن يُهدد، ويُخيف، ويقلب حياتك دون أن يمسّك بشكلٍ صريح، بشكلٍ يُورطه.

ثمة طريقة وحيدة يُمكن أن نوجه بها بوصلتنا الأخلاقية على نحو يُريح ضمائرنا، وهو عبر تبني موقف المظلوم تبنٍ كامل، دون «المطالبة بضحايا مثاليين». ليس علينا بعد أن نعطي انتباها لأن يُوصفوا، وأن نوصف بنعوت أقلها التحيز، وليس أقساها البربرية. علينا مقاومة طبقات التجريد والتعقيد التي تمنعنا من رؤية ما هو مهم فعلا، وتلهينا بجدالات لا يُمكنها أن تُغير شيئا.