ترجمة ـ قاسم مكي -

يبدو أن نقابة عمال شركات السيارات الأمريكية «يوناتيد أوتو ووركرز» حققت انتصارا مهما. فالنقابة التي بدأت إضرابات جزئية ومتقطعة يوم 15 سبتمبر الماضي توصلت الآن إلى اتفاقيات مبدئية أولا مع شركتي فورد وستيلانتيس ثم أخيرا مع جنرال موتورز.

كل الاتفاقيات الثلاث تشمل زيادة في الأجور بنسبة 25% تقريبا خلال الأربع سنوات ونصف السنة القادمة بالإضافة إلى مزايا أخرى مهمة.

يشكل عمال صناعة السيارات نسبة من القوة العاملة أقل كثيرا مقارنة بحقبة ازدهار مدينة ديترويت. لكنهم لايزالون جزءا مهما من الاقتصاد.

إلى ذلك هذا الانتصار الواضح للنقابة يأتي في أعقاب انتصارات للعمل النقابي في صناعات أخرى خلال الأشهر الأخيرة وخصوصا التسوية الكبيرة مع شركة يونايتد بارسل سيرفس (شركة عالمية لخدمات توصيل الطرود وإدارة سلاسل التوريد) والتي تمثل فيها «نقابة تيميسترز» أكثر من 300 ألف عامل. وربما سيتضح أن الانتصارات النقابية في عام 2023 تشكل معلَما في طريق العودة إلى الأيام التي كان يوجد بها قدر أقل من اللامساواة في الولايات المتحدة.

ثمة حقائق تاريخية ينبغي معرفتها. نحن أبناء جيل ازدهار المواليد (بَيبي بُومَرْز) نشأنا في الولايات المتحدة حين كان الاستقطاب الاقتصادي أقل كثيرا من اليوم. لم نكن مجتمعَ طبقةٍ وسطى على النحو الذي أحببنا أن نتخيله. لكن في سنوات الستينات كانت الولايات المتحدة بلدا يتيح للعديد من عمال الياقات الزرقاء دخولا تجعلهم جزءا من الطبقة الوسطى. وكان الثراء الفاحش أقل كثيرا مما صار عليه الوضع لاحقا. مثلا كان الرؤساء التنفيذيون للشركات الكبرى يحصلون على رواتب تساوي «فقط» 15 ضعف متوسط أجور العاملين في شركاتهم مقارنة بأكثر من 200 ضعف في الوقت الحاضر.

في ظنِّي معظم الناس اعتقدوا أن مجتمعَ طبقةٍ وسطى «نسبيا» نشأ في الولايات المتحدة تدريجيا بعد تجاوزات عصر الازدهار الزائف وأنه كان نتاجا طبيعيا لاكتمال نضج اقتصاد السوق. (عصر الازدهار الزائف يُقصَد به الفترة من أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرية الأولى من القرن العشرين والذي اتسم بتسارع التصنيع والنمو الاقتصادي وبالثراء الفاحش واللامساواة المفرطة - المترجم).

لكن ورقة كاشفة نشرت في عام 1991 من تأليف كلوديا جولدين (التي فازت لتوِّها بجائزة نوبل عن جدارة واستحقاق) وروبرت مارجو أوضحت أن المساواة النسبية في أمريكا لم تظهر تدريجيا ولكن فجأة مع التقليص السريع للتفاوت الحاد في الدخول في أربعينيات القرن الماضي أو ما أسماه مؤلفا الورقة التقليص العظيم للفجوات بين الدخول.

دون شك كان للتقليص الأوَّلي في التفاوت بين الدخول علاقة بالقيود الاقتصادية التي فرضت في وقت الحرب. لكن فجوات الدخل ظلت أقل اتساعا لعقود بعد رفع تلك القيود. ولم تنطلق اللامساواة بشكل عام إلا حوالي عام 1980.

ما سبب استمرار توزيع الدخل الذي ينطوي على قدر معقول من المساواة. دون شك توجد أسباب عديدة لذلك. لكن بالتأكيد الحرب والبيئة السياسية المواتية قادا إلى ازدهار كبير في العمل النقابي. فالنقابات قوة تدفع نحو قدر أكبر من المساواة في الأجور. كما تساعد أيضا على تحويل الاستياء العام من ضخامة مخصصات كبار مسؤولي الشركات إلى قيد يحدُّ من تضخمها.

على العكس من ذلك لا شك أن تدهور النقابات التي تمثل الآن أقل من 7% من العاملين في القطاع الخاص لعب دورا في حلول عصر الازدهار الزائف «الثاني» الذي نعيش فيه الآن.

التدهور الكبير للنقابات لم يكن بالضرورة نتيجة للعولمة والتقدم التكنولوجي. فالنقابات لا تزال قوية في بعض البلدان. في دول اسكندنافيا الغالبية العظمي من العاملين منظَّمة في نقابات.

ما حدث في أمريكا هو تحجيم قوة المساومة في الأجور لدى العمال بتضافر عوامل تمثلت في استمرار ركود سوق العمل (قلة فرص العمل) وتباطؤ التعافي من الانكماشات الاقتصادية والبيئة السياسية غير المواتية. أيضا دعونا لا ننسى أن رونالد ريجان في وقت مبكر من فترته الرئاسية سحق نقابة مراقبي الحركة الجوية وكانت إدارته معادية باستمرار لتنظيم النقابات.

لكن الأمور مختلفة هذه المرة. يوضح بحث أجراه كل من ديفيد أوتور وآريندراجيت ديوب وآني مكجرو أن تعافيا اقتصاديا سريعا خفَّض البطالة إلى أدنى مستوى لها خلال 50 عاما، وأدى كما يبدو إلى تمكين عمال الأجور المتدنية. كما أفضى إلى تقليص غير متوقع لفجوات الأجور قضى بدوره على حوالي 25% من الارتفاع في معدل اللامساواة خلال العقود الأربعة السابقة.

وربما شجعت الأوضاع المتينة في سوق العمل النقابات على اتخاذ مواقف تفاوضية أكثر تشددا يبدو أنها تؤتي أُكُلها.

بالمناسبة أنا أصادف باستمرار أناسا يعتقدون أن التعافي الاقتصادي الذي حدث مؤخرا أفاد الأثرياء بقدر أكبر (مقارنة بمن هم دونهم ثراء). لكن الحقيقة عكس ذلك تماما.

كما يبدو أيضا أن الساحة السياسية تتبدّل. فالتأييد العام للنقابات عند أعلى مستوى له الآن منذ عام 1965. وجو بايدن في أول سابقة رئاسية على الإطلاق انضم إلى موقع اعتصام لعمال شركات صناعة السيارات في ولاية ميشيغان في سبتمبر الماضي للتعبير عن تأييده.

لا يبدو أن أيَّا مما يحدث مؤثر بما يكفي لتحقيق «تقليص عظيم» آخَر للتفاوت في الدخول. لكن ربما يكون كافيا لكي يقلص قليلا هذا التفاوت أو يعكس جزئيا الارتفاع الكبير في اللامساواة منذ عام 1980.

بالطبع ما كان لهذا أن يحدث، فالانكماش يمكن أن يقوض القوة التفاوضية للعمال. ودونالد ترامب الذي زار ميشيغان لكنه تحدث في موقع غير نقابي ستكون سياساته بالتأكيد معادية للنقابات وللعمال إذا عاد إلى البيت الأبيض. ولدى مايك جونسون رئيس مجلس النواب الجديد سِجِلّ مثالي تقريبا في معارضة السياسات التي تؤيدها النقابات.

لذلك المستقبل، كما هي الحال دائما، غير مضمون. لكننا ربما نشهد أمريكا وهي تعود أخيرا إلى ذلك النوع من الازدهار المشترك الذي كنا نعتبره في الماضي تحصيل حاصل.

بول كروجمان أستاذ متميز بمركز الدراسات العليا بجامعة سيتي في نيويورك. فاز بجائزة نوبل للاقتصاد عام 2008.

الترجمة لـ عمان عن نيويورك تايمز