أكملت إسرائيل منذ أن بدأت حربها الهمجية والبربرية على قطاع غزة أربعة أسابيع كاملة أمام مرأى ومسمع العالم ومنظماته الأممية، ولم يسمع الفلسطينيون الصامدون فوق أرضهم أو العالقون منهم تحت الركام إلا بعض عبارات التنديد والشجب التي تصبح بلا دلالة في مقابل جسور الإمدادات العسكرية التي وصلت إلى إسرائيل، والدعم السياسي الذي يؤكد عليه كبار «قادة» العالم في اللحظة الأولى التي يصلون فيها إلى مطار بن غوريون في تل أبيب دعما لحق إسرائيل «في الدفاع عن نفسها»، أما عدا ذلك فلا يصل إلى أسماع أهل غزة إلا صوت الصواريخ وصوت الشهداء وهم يرتقون إلى السماء.

وإذا كان المجتمع الدولي يبكي سقوط 1400 قتيل إسرائيلي قضوا في يوم السابع من أكتوبر الماضي فإن غزة تتحدث عن أكثر من عشرة آلاف شهيد حتى الآن، أكثر من نصفهم أطفال ونساء استشهدوا في منازلهم وليس في ساحة قتال، وتتحدث غزة عن عدد مماثل، تقريبا، ما زالوا تحت الركام لا يستطيع أحد الوصول إليهم، فلا إمكانيات لطواقم الدفاع المدني، إن وجدت، ولا حرمة لدمائها، أيضا.. وفي الحقيقة لا وقت لأحد في غزة اليوم للقيام بإحصاء عدد الشهداء، فالمجازر تتبع بعضها بعضا وبين كل مجزرة ومجزرة مجزرة أخرى، وفي كل يوم يشهد القطاع عشرات الجرائم التي تضاعف عار الكيان الصهيوني وترسخ وحشيته، أما هذه الأعداد فهي التي تصل إلى المستشفيات التي أصبحت هدفا يوميا لصواريخ جيش الاحتلال الصهيوني. ولا أحد يعرف متى يصل الرقم إلى نقطة التعادل، وكم على إسرائيل أن تقتل من الأطفال مقابل كل محتل إسرائيلي قتل في هجوم حماس!

ورغم صور المجازر والمذابح والمحارق التي ارتكبها النظام الصهيوني في غزة خلال شهر كامل إلا أن قادة الغرب ومنظوماته لا يشغلهم إلا الحديث عن أمن إسرائيل وحدها وحقها في الوجود وفي الحياة بنعيم ورفاهية، أما الفلسطينيون فليس لهم حق في الأمن أو في بعضه على الأقل، وليس لهم حق في أن يروا أطفالهم يكبرون أمامهم مثل كل الأطفال في العالم، ويذهبون للمدارس في الصباح ويعودون للعب أمام بيوتهم في المساء دون خوف من أن تُقطّعهم صواريخ نتانياهو إلى أشلاء، فلا يستطيع آباؤهم أن يتعرفوا عليهم إلا إن كانوا قد طبعوا أسماءهم على كل جزء من أجسامهم.

إن العالم الغربي الذي يدعم إسرائيل ويحميها ويرى نفسه في قمة التحضر والتمدن سقط سقوطا أخلاقيا وقيميا بسبب صمته المخزي أمام ما تفعله دولة الاحتلال بالشعب الفلسطيني الذي لا ذنب له إلا أنه يدافع عن حقه في البقاء وفي العيش على أرضه وضمان أمن أطفاله. لم ير الغرب في ما قامت به حماس يوم السابع من أكتوبر إلا أنه عمل إرهابي ضد «إسرائيل»، لم ير أن ذلك كان انفجارا طبيعيا ومتوقعا بعد وضع قطاع غزة في سجن خانق لمدة عقد ونصف من الزمن لم يحاول فيه الغرب فك الحصار عن القطاع أو حتى نصح إسرائيل بشكل جاد وحاسم لترفع الظلم عن أهل القطاع قبل أن ينفجروا.. وعليها في ذلك الوقت أن تتحمل الثمن الباهظ للانفجار.

إن العالم الذي ما زال يسَوّغ لإسرائيل جرائمها أو يعتبر ما يحدث الآن ردة فعل طبيعية لهجوم يوم السابع من أكتوبر عليه أن يعود للتاريخ لمعرفة أصل المشكلة التي دفعت بحماس للقيام بما قامت به. لكن العالم لا يرى في حماس التي تقاوم من أجل إخراج المحتل ومن أجل قيام الدولة الفلسطينية التي دعت لقيامها المنظمات الدولية، إلا أنها منظمة إرهابية، فيما يغمض عيونه عن «دولة الإرهاب» الحقيقية التي ترتكب مجازر يومية في حق سكان غزة وتحاول جاهدة بموافقة دولية القيام بتطهير عرقي في غزة لتتخلص من السكان جميعا معتقدة أن تصفية حماس قد تنهي القضية إلى الأبد ولا تعلم أن الفلسطينيين لا يموتون حتى وإن قتلوا، مثلهم مثل كل أصحاب الحق في العالم وكل المناضلين من أجل قضاياهم العادلة.

إن حماس وغيرها من فصائل المقاومة الفلسطينية أو اللبنانية مثلهم مثل الشعب الأوكراني الذي يدافع عن نفسه، ومثلهم مثل الشعب الفيتنامي الذي دافع عن نفسه في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي ومثلهم مثل كل قوى التحرر الوطني في العالم، ولعل هذه المقاربة تصل أسرع إلى وعي العالم ليعرف أن هذه المقاومة لا تفنى إلا بتحقيق تحررها وقيام الدولة الفلسطينية التي تواضع أهلها وقبلوا أن تكون عند حدود الخامس من يونيو 1967.

لقد دفع الفلسطينيون عبر التاريخ أثمانا باهظة من أجل قضيتهم، ولكن نضالهم لم يخفت أبدا، فهم يولدون من أجل الدفاع عن قضيتهم كما يرددون دائما لكن دولة الاحتلال الإسرائيلي تعقّد مستقبلها مع كل جريمة ترتكبها في حق الشعب الفلسطيني، وفي كل يوم تزداد أزمتها الداخلية وأزمتها مع محيطها.. فما أثقل ما عليها مواجهته خلال السنوات القادمة، وما أثقل ما على الغرب أن ينتظروه وفقا لنفس المقاييس التي نظروا عبر مرآتها لما حدث في غزة.