شهد عام 2023 تحولات نوعية على مستوى العقد الاجتماعي والعقد السياسي للدولة والمجتمع في عُمان؛ فعلى مستوى العقد الاجتماعي صدرت خلال الأشهر الماضية عدة قوانين محورية في تنظيم العلاقة بين المجتمع والدولة، وأهمها خمسة؛ قانون الحماية الاجتماعية، وقانون العمل، وقانون التعليم المدرسي، وقانون التعليم العالي، ومن قبلها في عام 2022 قانون حماية البيانات الشخصية. تشكل هذه القوانين أساسًا للعقد الاجتماعي ذلك أنها تنظم أوجه النشاط الأساسية لحياة ونسق المجتمع، في التعليم والعمل والإنتاج، وفي تدخل الدولة لحماية المجتمع والفئات الأشد احتياجًا، بما يضمن استقرار المجتمع وديمومته. أما على مستوى العقد السياسي؛ فقد شهدت البلاد أول انتخابات لها بعد استصدار النظام الأساسي للدولة، وشروعها في تبني رؤيتها التنموية الجديدة (عُمان 2040)، وكذلك أول تعيين لمجلس منتخب (مجلس الدولة) في سياق ذات الحيثيات. ثمة قراءات تفصيلية تحتاجها صورة العقد السياسي الجديد، وذلك لعدة اعتبارات؛ أولها أنه يكشف عن الحالة الاجتماعية العامة، ومستوى اندماج الأفراد في الحياة السياسية، ومستويات ثقتهم في فاعلية المؤسسات التمثيلية المنتخبة، عوضًا عن سردية المجتمع تجاه منظومة المشاركة العامة، وعتباتها وعتاباتها. على الجانب الآخر يعكس هذا العقد مستوى نية الدولة في إحداث التغيير في دور هذه المجالس، وتطعيمها بالرؤى المتعددة لصنع القرار الوطني «وموازنته» من منظور «التكنوقراط». إضافة إلى ذلك يكشف لنا مستوى نضج المجتمع معرفيًا وخبراتيًا من خلال تسمية الخبراء والمختصين والأكاديميين والفاعلين القطاعيين أعضاء بمجلس الدولة. إذن نحن أمام انكشاف لحالة تشكل الوضع الراهن لحالة الدولة والمجتمع، وهو مهم على مستوى البحث والرصد والتحليل.

ثلاث نقاط بارزة كشفتها لنا انتخابات أعضاء مجلس الشورى للفترة العاشرة، يقابلها ثلاث استحقاقات جديدة أمام جهاز الدولة التنفيذي ومجلس عُمان، الأولى: أن حالة المشاركة العامة عادت إلى وهجها المرجو نسبيًا - بغض النظر عن محركاتها - وهذا يدل عليه نسبة المشاركة العامة التي تجاوزت 65%؛ هذه النسبة جيدة نسبيًا - في ظل قراءة نسب المشاركة في الفترتين السابقتين لمجلس الشورى والمجالس البلدية - وهي الأعلى خلال 10 سنوات. ويقابل هذه المشاركة حماستها في انتخابِ مجلس جديد شكلت نسبة الأعضاء الجدد فيه ما يفوق 64% من المنتخبين. هذه الحالة يقابلها استحقاق مهم أمام الدولة والمجتمع بالحفاظ على هذا النسق المتصاعد من المشاركة والتفاعل، وأولها أن نتجاوز حالة «الموسمية» في مناقشة الحالة العامة لمجلس عُمان. الدور المطلوب هنا أن يتفاعل المجلسين مع المجتمع بصورة أكبر، ويمكن التفكير في إعادة البث المباشر لبعض جلسات المجلس، وخصوصًا تلك التي تناقش الموضوعات الأكثر تلامسًا مع الحياة العامة للمجتمع، وتفعيل دور المتحدث الرسمي للمجلس، ووضع إيجازات مباشرة (يومية) أو (دورية) لأعمال المجلس باستخدام أحدث نظم صياغة المحتوى التفاعلي، عوضًا عن تكثيف العلاقة مع المؤسسات الأكاديمية والبحثية؛ والتي تحوي تراثًا كبير من التحليلات والدراسات والأبحاث التي يمكن أن توجه مسار مبادرات ومناقشات المجلسين (الدولة والشورى)، وتختصر أمامهما وقتًا من الوقت المستغرق في إجراء وتأطير الدراسات والبحوث. على الجانب الآخر ومع صدور القوانين الموجهة للعقد الاجتماعي والتي ذكرناها أعلاه، تحمل هذه الفترة على المجلسين استحقاقًا مباشرًا في التأكد من شروع تلك القوانين، وقياس فاعليتها، وكفاءة تنفيذها وعتباتها، والتحقق من الشروع فيما يستلزم من إجراءات استصدار اللوائح والتنظيمات الخاصة بها. وجعل المجتمع في صورة كل ذلك خلال المرحلة المقبلة.

الالتقاطة الثانية وهي أن محرك التصويت الأساس في هذه الانتخابات هي فئة الشباب وتحديدًا من هم دون الـ 40 سنة، ورغم كل الحالة الجدلية التي دارت في السنوات الماضية حول القلق عن انسحاب الشباب من المشاركة الانتخابية والمشاركة العامة، إلا أن المؤشرات العملية الانتخابية جاءت على غير ذلك، وهذا يفرض على المجلسين مناقشة أكبر لقضايا هذه الفئة بنهج جديد ومبتكر، ولا شك أن أولى تلك القضايا هي قضايا الباحثين عن العمل. إن أحد المقاربات التي يمكن من خلالها إعادة النظر في هذه القضية هو الانتقال من التفكير القطاعي فيها إلى التفكير الجغرافي، ومن دور الدولة المركزي إلى دور المحليات، فمع التمكين الذي حظيت به المحافظات (اقتصاديًا واستثماريًا) أصبحت اليوم مأمولا منها أن تخلق الاستثمارات والمشروعات المولدة لفرص العمل، والتي تنشط أدوار القطاع الخاص وتحفزه لاستقطاب أشكال مختلفة من الخريجين والباحثين عن الشغل، ومن هنا فإن أحد أهم معايير تمكين التنمية المحلية هو استقطاب المشروعات ذات الأثر الاجتماعي الأعلى ومن ضمن ذلك الأثر قدرتها على مد المجتمع المحلي، وجذبها لكافة السواعد للعمل فيها سواء من داخل المحافظة أو خارجها. عوضًا عن قضايا توسيع فرص التعليم العالي، وزيادة البعثات الخارجية، وتعزيز الحماية والتمويل الموجه للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتمكين البعد الإقليمي من خلق الحركة السياحية التي تستثمر في مشروعات ومبادرات الشباب، ودراسة التحديات التي تواجه الشباب في تكوين الحياة العامة مثل الزواج والتحصل على فرص العمل، والاستقرار الوظيفي، والحد من دوران العمل.

أما الالتقاطة الثالثة، فهي في عدم قدرة المرشحات من النساء على التحصل على مقعد في فترة المجلس العاشرة، وعلى الجانب الآخر حمل التشكيل الجديد لمجلس الدولة تسمية 18 امرأة عضوة في المجلس. في الواقع فإن هذه المسألة لا زالت تناقش «موسميًا»، وحتى على المستوى البحثي، هناك بحوث معدودة ومحدودة جدًا ناقشت هذه المسألة، وأغلبها يأخذ نطاق عينات صغيرة. في المنطلق لابد من دراسة محركات ترشح وترشيح المرأة بشكل أعمق من نطاق الحديث الدائر حاليًا. وفي المقتضى حسب تقديري فإن الدفع بعدد أكبر من المترشحات خطوة أولى مهمة، فحتى من الناحية الإحصائية النظرية لا يتكافأ بأي شكل عدد المرشحين إلى المرشحات، هذا دور موسع على مؤسسات الإعلام والمجتمع المدني، ودور أكبر على الطريقة التي تقدم بها المرأة المترشحة نفسها للمجتمع، عوضًا عن أدوار ثانوية لطبيعة الحملات الانتخابية وإداراتها ومستويات وصولها إلى الفئات الكلية للمجتمع. يبقى القول أننا أمام مرحلة جديدة للبناء في عُمان، يتضح من ملامحها الأولى أن هناك تحولًا في منظومة المجالس المنتخبة، وإرادة سياسية أكبر في تمكين فعلها الوطني، وهو ما يستلزم التفاعل المتبادل بين هذه المجالس والمجتمع في كل المراحل والأوقات.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان