كيف ندافع عن فلسطين الإنسان والمكان، الشعب والوطن؟ هذا هو السؤال الشعبي العام الذي تصبح مواجهته أصعب مع مرور الساعات والأيام على مشهد الإبادة الجماعية العلنية والمفتوحة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
يستمر قتل الفلسطينيين بينما تضيق خيارات الإرادة الإنسانية المكبلة إما بالقمع أو التضليل، عاجزة عن وقف جرائم العدو الصهيوني المتواصلة بحق المدنيين في قطاع غزة طوال شهر كامل، فضلا عن تصاعد وتيرة الهجمات الشرسة التي تشنها قوات الاحتلال على سكَّان الضفة الغربية.
وطبعا، وفي كل مرة، لا مفرَّ من التأكيد على تلك العبارة المكرورة، والضرورية في الوقت نفسه كونها تؤسس لما بعدها من استنتاجات سياسية وخلاصات فكرية أكثر عمقا: يحدث ما يحدث في ظل صمت دولي غربي وعربي يتجاوز حدود التخاذل إلى التواطؤ الفعلي في دعم استمرار المذبحة بسلاح إسرائيلي أمريكي. مع التفاتة مضحكة مبكية مفادها أن هذا التنديد بات حرفيا أهزوجة دارجة يُعاد تدويرها في خطابات الساسة المتهمين، عينهم، وذلك من باب رفع العتب عن أنفسهم، مختطفين هذه العبارة «الشعبوية» من الجماهير، مشاة الرصيف الذين لا يملكون- أو يظنون أنهم لا يملكون- قولا ولا عملا سوى أضعف الإيمان أمام مشهد الباطل الذي يمرون عليه يوميا، ذهابا وإيابا.
لقد بات واضحا للفلسطينيين ما لا أظن بأنهم في حاجة لأن يذكرهم به أحدٌ منذ اللحظة الأولى؛ فقد تأكد لهم مجدداً بأنهم وحيدون جداً منذ اليوم كما كانوا وحيدين جداً منذ الأمس أمام آلة القتل الإسرائيلية، مواصلين لثمانية عقود تحت الاحتلال رحلة الصمود الموحشة على ما تبقى لهم من تراب آبائهم وأجدادهم. ولكن ما نحن بحاجة لمن يذكرنا به هو أننا نحن كشعوب آخر الحلفاء الحقيقيين للشعب الفلسطيني في الخارج. نحن إذن مشاةُ الرصيف الذين إن لم تكن لنا اليد في التغيير المباشر، المحتكر من قِبل قلةٌ قليلة من الساسة، كانت قوتنا الحقيقية في التأثير. ولذلك فإننا وإن لم نكن مغيرين لا ينبغي أن نهمل دورنا كمؤثرين. وعليه، فإن هذه المادة تحاول أن تذهب للاشتباك البنَّاء مع خيارات الواقع لتوسيع هوامش الممكن، بدلاً من أن تسقط هذه اللغة نفسها في البِرك الراكدة للشجب والمزايدة أو اللطم والرثاء.
كيف ندافع عن فلسطين ثقافيا؟ ربما يكون هذا هو السؤال الأهم الذي أصادفه في أي مناسبة يدور الحديث فيها عن فلسطين، وتحديدا خلال الأيام الأخيرة. ولذا أجد من الواجب علي أن أقترح بعض الإجابات والاجتهادات الشخصية، غير النهائية بالتأكيد، لرسم صورة عامة للنضال في سبيل القضية الفلسطينية من خلال مقاربة ثقافية في ثلاثة أبعاد؛ وهي المعرفة والمقاطعة والمناصرة:
المعرفة أولاً؛ إذ لا يمكن تأسيس ثقافة مقاومة إلا على أسس صلبة من البناء المعرفي التراكمي. وتأتي قراءة تاريخ القضية الفلسطينية في طليعة أنواع القراءة التي يمكن من خلالها الاقتراب أكثر من مراحل السؤال الفلسطيني الطويل، كما أن أهمية التاريخ تأتي من ضرورته في الربط بين مفاصل الأحداث والشخصيات والأماكن؛ أي أن التاريخ باختصار هو المادة التي تنسجم فيها كل العناصر المكونة للقضية بوصفها قضية تاريخية. وكما أقول دائما إنه لا يمكن لمحامٍ - مهما كان موهوبا - أن يدافع عن قضية لا يعرف تاريخها.
المُقاطعة ثانياً؛ والتي ليست مجرد ردة فعل فحسب، بل هي أسلوب حضاري متقدم ينبع من ممانعة ثقافية جادة وموقف أخلاقي متأصل ضد المؤسسات الداعمة للعدو، ومن خلال ذلك كله فإن ثقافة المقاطعة تأتي كأسلوب يعيد الاعتبار إلى سلطة المستهلك الفرد وحقه في الاختيار والتفضيل والتمييز دون أن يكون ضحية لإغراءات التسويق، وهكذا تعبر المقاطعة بمعناها الأوسع عن مقاومة فردية ضد طغيان الرأسمالية التي لا تعترف إلا بمبدأ الربح.
ثالثاً: المناصرة، وهي الميدان الأرحب الذي تلتقي فيه أشكال وأساليب من الإبداع في التعبير الثقافي والفني عن أي قضية أو مبدأ، اعتمادا على المواهب والأدوات المطوَّرة فرديا. ولعل القضية الفلسطينية اليوم هي من أهم القضايا الإنسانية الكبرى التي تعيد الإبداع من جنوح ما بعد الحداثة إلى واقع الناس وإلى جوهر الألم البشري، وهي بالنسبة للمثقف الحقيقي منطقة للفعل والمشاركة والتفاعل خارج سلطة الأكاديميات ووهم النخبوية.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
يستمر قتل الفلسطينيين بينما تضيق خيارات الإرادة الإنسانية المكبلة إما بالقمع أو التضليل، عاجزة عن وقف جرائم العدو الصهيوني المتواصلة بحق المدنيين في قطاع غزة طوال شهر كامل، فضلا عن تصاعد وتيرة الهجمات الشرسة التي تشنها قوات الاحتلال على سكَّان الضفة الغربية.
وطبعا، وفي كل مرة، لا مفرَّ من التأكيد على تلك العبارة المكرورة، والضرورية في الوقت نفسه كونها تؤسس لما بعدها من استنتاجات سياسية وخلاصات فكرية أكثر عمقا: يحدث ما يحدث في ظل صمت دولي غربي وعربي يتجاوز حدود التخاذل إلى التواطؤ الفعلي في دعم استمرار المذبحة بسلاح إسرائيلي أمريكي. مع التفاتة مضحكة مبكية مفادها أن هذا التنديد بات حرفيا أهزوجة دارجة يُعاد تدويرها في خطابات الساسة المتهمين، عينهم، وذلك من باب رفع العتب عن أنفسهم، مختطفين هذه العبارة «الشعبوية» من الجماهير، مشاة الرصيف الذين لا يملكون- أو يظنون أنهم لا يملكون- قولا ولا عملا سوى أضعف الإيمان أمام مشهد الباطل الذي يمرون عليه يوميا، ذهابا وإيابا.
لقد بات واضحا للفلسطينيين ما لا أظن بأنهم في حاجة لأن يذكرهم به أحدٌ منذ اللحظة الأولى؛ فقد تأكد لهم مجدداً بأنهم وحيدون جداً منذ اليوم كما كانوا وحيدين جداً منذ الأمس أمام آلة القتل الإسرائيلية، مواصلين لثمانية عقود تحت الاحتلال رحلة الصمود الموحشة على ما تبقى لهم من تراب آبائهم وأجدادهم. ولكن ما نحن بحاجة لمن يذكرنا به هو أننا نحن كشعوب آخر الحلفاء الحقيقيين للشعب الفلسطيني في الخارج. نحن إذن مشاةُ الرصيف الذين إن لم تكن لنا اليد في التغيير المباشر، المحتكر من قِبل قلةٌ قليلة من الساسة، كانت قوتنا الحقيقية في التأثير. ولذلك فإننا وإن لم نكن مغيرين لا ينبغي أن نهمل دورنا كمؤثرين. وعليه، فإن هذه المادة تحاول أن تذهب للاشتباك البنَّاء مع خيارات الواقع لتوسيع هوامش الممكن، بدلاً من أن تسقط هذه اللغة نفسها في البِرك الراكدة للشجب والمزايدة أو اللطم والرثاء.
كيف ندافع عن فلسطين ثقافيا؟ ربما يكون هذا هو السؤال الأهم الذي أصادفه في أي مناسبة يدور الحديث فيها عن فلسطين، وتحديدا خلال الأيام الأخيرة. ولذا أجد من الواجب علي أن أقترح بعض الإجابات والاجتهادات الشخصية، غير النهائية بالتأكيد، لرسم صورة عامة للنضال في سبيل القضية الفلسطينية من خلال مقاربة ثقافية في ثلاثة أبعاد؛ وهي المعرفة والمقاطعة والمناصرة:
المعرفة أولاً؛ إذ لا يمكن تأسيس ثقافة مقاومة إلا على أسس صلبة من البناء المعرفي التراكمي. وتأتي قراءة تاريخ القضية الفلسطينية في طليعة أنواع القراءة التي يمكن من خلالها الاقتراب أكثر من مراحل السؤال الفلسطيني الطويل، كما أن أهمية التاريخ تأتي من ضرورته في الربط بين مفاصل الأحداث والشخصيات والأماكن؛ أي أن التاريخ باختصار هو المادة التي تنسجم فيها كل العناصر المكونة للقضية بوصفها قضية تاريخية. وكما أقول دائما إنه لا يمكن لمحامٍ - مهما كان موهوبا - أن يدافع عن قضية لا يعرف تاريخها.
المُقاطعة ثانياً؛ والتي ليست مجرد ردة فعل فحسب، بل هي أسلوب حضاري متقدم ينبع من ممانعة ثقافية جادة وموقف أخلاقي متأصل ضد المؤسسات الداعمة للعدو، ومن خلال ذلك كله فإن ثقافة المقاطعة تأتي كأسلوب يعيد الاعتبار إلى سلطة المستهلك الفرد وحقه في الاختيار والتفضيل والتمييز دون أن يكون ضحية لإغراءات التسويق، وهكذا تعبر المقاطعة بمعناها الأوسع عن مقاومة فردية ضد طغيان الرأسمالية التي لا تعترف إلا بمبدأ الربح.
ثالثاً: المناصرة، وهي الميدان الأرحب الذي تلتقي فيه أشكال وأساليب من الإبداع في التعبير الثقافي والفني عن أي قضية أو مبدأ، اعتمادا على المواهب والأدوات المطوَّرة فرديا. ولعل القضية الفلسطينية اليوم هي من أهم القضايا الإنسانية الكبرى التي تعيد الإبداع من جنوح ما بعد الحداثة إلى واقع الناس وإلى جوهر الألم البشري، وهي بالنسبة للمثقف الحقيقي منطقة للفعل والمشاركة والتفاعل خارج سلطة الأكاديميات ووهم النخبوية.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني