إننا نرى، في بداية المشهد الممتد المذكور في الحلقة الفائتة، لورنس وهو يشعل عود ثقاب، وعوضا عن النفخ فيه لإطفائه فإنه يميته بأصابعه العارية، وهذا يشكل نقيضا للحظة السابقة التي أطفأ فيها لورنس عود الثقاب المشتعل بأصابعه. إن هذا المشهد الجزئي من المشهد الممتد يقترح علينا أن هذه الممارسة تتسبب في ألم ولذة: «إن ما يهم هنا هو... عدم ممانعة أن نار عود الثقاب تؤلم»، هكذا يشرح لورنس الأمر لعسكري زميل في المكتب هو زميل يتفكر في الأمر الغريب؛ وفي الواقع فإن التعبير الذي يتفصد من محيا لورنس يشي بأن «عدم الممانعة» ليست إلا عبارة مخففة فقط، إذ إن تعبيره الوجهي كثيف، بل إن المرء يمكنه القول تقريبا إنه يبوح بالرعشة الجنسية القذفية. إن اللقطات الأخيرة في المشهد القاهري الممتد، بعد انتهاء المقابلة مع الجنرال مريْ، مهمة بصورة خاصة ضمن معطيات التحويل الديالكتيكي لهوية لورنس الأنثوية، أو ما بدا أنه هوية أنثوية على نحو قابل للمحاججة به لغاية الآن. يشعل لورنس عود ثقاب، لكنه لا يميته بأصابعه هذه المرة، بل إنه يطفئه بالنفخ فيه بالطريقة المألوفة. يحدث هنا مزْج إحلالي (dissolve) مهيب إذ يصل بين عود الثقاب المشتعل وشروق الشمس في الصحراء. نرى لورنس بعد ذلك في ظهوره الصحراوي الأول في الفيلم مصحوبا بدليله البدوي المدعو طفس، بينما نستمع إلى موسيقى موريس جار Maurice Jarre الحماسية والمحلقة، الرومانسية والعسكرانية التي تقترح الغزو والرومانس معا. مايكل أي آندرغ Michael A. Anderegg يحاجج بكفاءة أنه بالقطع المونتاجي من عود الثقاب المشتعل إلى الصحراء الحارقة فإن لين، المخرج، إنما أراد أن يقول إن «اختراق لورنس للصحراء العربية... إنما يقوم بإزاحة مكان مازوشيته التي هي اختبار مؤلم وجالب للذة» (46). بهذه اللقطة للصحراء التي هي «تنور ملتهب مشتعل»، كما ورد في إنذار دْريْدنْ للورنس قبيل انطلاقه في مهمته الصحراوية، فإن الفيلم يدلف إلى ملكوت التصوير والأيقونوغرافيا الاستشراقيين. إننا هنا في الشرق بوصفه «مكانا للرومانس، والكائنات الإغزوتيكية، والذكريات والمناظر الطبيعية التي تصيب بالمس، والتجارب المهولة» كما يقول إدوارد سعيد في أشهر ما يقتبس من كتابه المعمد (47). وإنه لفي تقديمه للصحراء هذا يوضح الفيلم محاججة إيلا شحْط أن «الأفلام الإغزوتيكية تتيح مجازات عبْر جنسية واقعة تحت نطاق الإدراك، وتمنح الصورة الذهنية للشرق متنفسا للهْو كرنفالي بالهويات الوطنية... والجنْدرية» (48).

لقد أصبح شيئا من المعلومات العامة أن الأدب والفن الغربيين أسسا تقليدا راسخا لتصوير الشرق بوصفه أنثى (49). وهناك ما لا عد له من اللوحات، وأدب الرحلات خصوصا ذلك الذي كتب في الحقبة الكولونيالية، والروايات، والقصائد، وغيرها من النتاجات الأدبية والفنية يقدم أدلة وافرة تدعم تلك المحاججة. وتذهب شحْط إلى أن صور «الأرض المجدبة» و«الرمال المتقدة»، وهي متصلة بمنظورات ذكورية في السينما الغربية، إنما تعكس، في الحقيقة، «ولعا حارا» (50). وكم هي الصحراء «حارة» حقا بكل معاني الكلمة في «لورنس العرب» بحيث إنه لا ينبغي أن يثير الاستغراب أن ناقدا مثل جون سايمن John Simon يسمي الصحراء «البطل الثاني للفيلم» (البطل الأول، بالطبع، هو أوتول في دور لورنس). يصف سايمن الصحراء شعريا بتصويرات مجنسنة، ومؤنثنة، وأيروسية على نحو صريح: «إنها صحراء عذراء، وهي تشف عن فتنتها بحياء كثيبا فكثيبا، وواديا فواديا» (51). فلنلاحظ في عبارته الاستثارة الجناسية ذات المغزى في استعمال مفردة «خمار» (veil) في «واد» (vale) وهي مفردة إنجليزية قديمة كانت تستخدم للأغراض الشعرية وتقريبا لا نجدها في إنجليزية القرن العشرين النثرية. ولْنلاحظ كذلك الاقتراح التوريوي ذا الغرض في استخدام مفردة «عارية» (nude) واستدعائها في جناس مقلوب كلمة «كثيب» (dune). بكلمات أخرى، فإن الحساسية الذكورية تقدر الصحراء بوصفها عذراء غاوية ترتدي خمارا مثيرا للرغبة. وهكذا فإن الكاميرا السينمائية، بكشفها عن أودية الصحراء، إنما تعري العذراء ذات الخمار. وقد يكون ما ألهم سايمن جزئيا في تدبيج عبارته المزخرفة تلك هو المزج الإحلالي من اللقطة المذكورة آنفا لشروق الشمس في الصحراء إلى لقطة لتلتين من الرمال الذهبية متجاورتين ومتقوستين بشكل محْكم تحاكيان بصورة بصرية وذهنية ساقين وفخذين مع ظهور واضح لثنيتيْ الركبتين وأسفل الردفين في يسار الكادر، حيث تتمدد التلتان في مقدمة الكادر بينما الكاميرا الثابتة «تحدق» فيهما لمدة أربعين ثانية كاملة. إن ورود تشكلات الصحراء وتفاصيلها البصرية ليس من قبيل المصادفة السعيدة في «لورنس العرب». ولهذا فإن جول سي هودسن Joel C. Hodson يعلق قائلا إن «تصوير فْردْي يونغ Freddie Young مدير تصوير الفيلم، الذي جعل الصحراء تبدو «سنية»، قد قارنه النقاد في الصحافة البريطانية مفضلينه على عمل توثيقي معاصر له عن لورنس نفذه مالكم براون Malcolm Brown لصالح قناة بي بي سي؛ فالأخير يقبض على «قتامة الصحراء» بدلا من أن يرمْنسها (52).

وإنه لفي تلك الصحراء الشاسعة، ذلك المجال الحسي الممْتد الذي يفرض تحديات كبيرة على مسألة الهوية والاختلاف، يلاقي لورنس زوجه الثاني من الرجال: الشريف علي والأمير فيصل؛ فالأول، وهو خشن وعنيف، يماثل الجنرال مري في القيادة العسكرية والسياسية البريطانية في القاهرة. أما الثاني -- أي الأمير فيصل -- فبلطفه، ودماثته، وسلاسته يماثل دْريْدنْ.

---------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(46): Michael A. Anderegg, David Lean (Boston: Twayne, 1984), 111.

(47): Said, Orientalism, 1.

(48): Shohat, Gender and Culture of Empire, : Toward a Feminist Ethnography of the Cinema in Visions of the East: Orientalism in Film, 52.

(49): للوقوف على معالجة مضيئة ومستفيضة لهذا الموضوع انظر:

Said, Orientalism.

(50): Shohat, Gender and Culture of Empire 32.

(51): John Simon, Private Screenings (New York: Berkeley, 1971), 53.

(52): Joel C. Hudson, Lawrence of Arabia and American Culture: The Making of a Transatlantic Legend (London: Greenwood, 1995), 119.