نقترب من إتمام شهر كامل منذ بدء عملية طوفان الأقصى والحصار والإبادة الوحشية التي يتعرض لها أهل غزة الأباة، ومع استمرار هذه العملية ولفاعلية وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت بديلا قويا وحياديا للإعلام الكلاسيكي، أصبح العالم كله يرى حقيقة ما يحدث «هناك» في غزة وفلسطين ككل.

وبما أننا تحدثنا عن «هناك»، فإن الواقع اليوم وما تتيحه وسائل التواصل من تشكيل للوعي الجمعي، فإن الآلة الصهيونية لم تغفل هذا القطاع الإعلامي المهم، بل جيشت له علماء وأطباء وأناسا فائقي الذكاء ومؤثرين من شتى القطاعات والمجالات ليسردوا السردية المعروفة منذ بدء الاحتلال الصهيوني على فلسطين والتي تبرئ المحتل وتمنحه حقا في أرض مغتصبة وصكا للمجازر المرتكبة يوميا. وكي لا نترك الأمور على عواهنها، فوصفي لبعض المنتفعين مما تمنحه لهم الدعاية الصهيونية من أموال وتأثير ومكان سياسي لا يندرج تحت أسطورة المؤامرة التي تعيشها الشعوب والحضارات المقهورة أمام قاهريها. إنما هي خطة عمل تقوم بها جهات كثيرة في الشرق والغرب، وتختلف نجاعة الخطة وفق ما تملكه الجهة الداعمة والمساندة لها من وسائل الترغيب والترهيب وبمقدار تغلغلها في المجتمع والاقتصاد والعمل السياسي. بمعنى أبسط، ليست هناك مؤامرة حقيقية يشترك فيها قادة من الشرق والغرب لتحقيق نتائج موحدة ومتفق عليها، بل هناك مخططات لكل القوى في سبيل نفعها سواء تضرر الطرف الآخر أم لا.

«لا أكترث بما يحدث هناك، لكن ليس لهذا الأحمق أن يفعل ما يريده هنا» تعليق قرأته في أحد مواقع التواصل الاجتماعي باللغة الإنجليزية ردا على منشور يظهر فيه مناصرون للقضية الفلسطينية يمزقون الدعاية الكاذبة للمحتل ويستبدلونها بالحقيقة الدموية المؤلمة، واستوقفتني كلمة «هناك» ودلالاتها النفسية والسياسية والاجتماعية. فنحن نكني الشيء حين نكرهه ونعلم أن الحق معه وله، أو يخيفنا، أو حين لا نكترث لأمره ولكننا في الوقت نفسه نخشى من الهجوم. بمعنى أنه لن يستطيع رجل أن يقول صراحة وعلى الملأ «لا أكترث بمن يموت في غزة وفلسطين ما دام الأمر لن يصل إلى بلدي» لأنه سيتعرض للهجوم والنقد وستتضح ملامح المرض النفسي الذي قتل فيه روح العدالة الإنسانية وحرمة الدم. إن كلمة «هناك» التي كنا نسمعها في الغرب «اعتدنا أن يحدث هذا هناك في الشرق الأوسط، وليس في أوروبا» انتقلت إلى كثير من العرب بفعل الدعاية الدائمة لفصل البلدان عن بعضها في المنطقة العربية خصوصا، لما تتمتع به هذه المنطقة من خيرات طبيعية عظيمة ترى القوى الاستعمارية بأنها ليست أهلا لها ولا تستحقها، فتقسيم المنطقة إلى طوائف وأحزاب وبلدان ما يفرقها يطغى ويغطي ما يجمعها، مما يخدم مصالح هذه القوى ويحقق أقصى استفادة لها. ومن المفارقات العجيبة أن الوعي الذي نستبشر به في الجيل الجديد الذي راهن الكثيرون على أنه جيل مغيب عن الواقع ذو اهتمامات ضئيلة؛ أثبت نقيض هذه المقولة ودحضها تماما. فالجيل الذي أطلق عليه المتعالون على الواقع «جيل البرجر» و«جيل الآيباد» استخفافا وتهميشا، يقوم بدوره الفاعل في شتى المجالات حسب استطاعته. فهذا الشاب الذي يدافع عن بلده بالمحتوى المميز الذي يبين الصورة الحقيقية لبلده، وهذا الآخر الذي ينقل الصورة الكاملة لا المجتزأة كما في الإعلام المدفوع، وذاك الذي يرى بأن الوطن العربي الكبير كله وطن له وأهله أهل له، كلها دلائل على أن القوى الاستعمارية ليس لها يد حقيقية ولا فاعلة في تحييد وعي الشعوب وتقسيمها، رغم ما تجيّش له من وسائل لتحقيق أهدافها التي لن تتحقق إلا بالفُرقة والشقاق.

إن عملية طوفان الأقصى أعادت توجيه البوصلة وهدمت أوهاما عدة كانت ترددها جوقة المنتفعين بالأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، فقد كان النقاد التاريخيون ونقاد الحركة الصهيونية مثل الدكتور عبدالوهاب المسيري يرون اختلافا جوهريا بين الإبادات التي جرت بحق السكان الأصليين في الأمريكيتين وأستراليا وجنوب إفريقيا وبين ما يحدث في فلسطين، وكانوا يراهنون على أن الاحتلال لن يستطيع إبادة شعب في عصر الصورة وأن الشعوب الغربية المغيبة عن الواقع ستثور لوقف الجرائم أمام قادتها الذين يحكمون العالم، ولكن أثبتت هذه النظرية فشلها. فنحن أمام وحش استيطاني لا ينفك عن طلب المزيد، ولو قلنا جزافا بأن الحل يكمن في حل الدولتين أو في دولة واحدة اسمها إسرائيل؛ فإن المحتل الحالي لا يختلف عن أي محتل آخر، بل هو أكثر جرما ووحشية وسيطلب مزيدا من الأرض كلما طال بقاؤه، رغم أن ما بني على باطل -الاحتلال- فهو باطل، فمن الغريب أن تطرح مسألة إقامة دولة للمحتل. ورغم أننا نرى هذا كله عيانا ولم يكبدنا المحتل عناء تخيل الفظاعة عبر القصص والكتب التي تروى عن هذه الإبادة، بل يرتكبها على مرأى ومسمع من الجميع ولم يفعل أي أحد -سوى المقاومة- شيئا غير التنديد والخطابات المهلهلة التي تتبدى فيها ملامح الهزيمة النفسية والرضا بواقع الضعف.

أعاد طوفان الأقصى توجيه البوصلة وتصحيح المسار، فمن كان يراهن على المجتمع الدولي أو على الحلفاء من بني جلدته وجنسه وعرقه ودينه؛ يرى بأم عينيه كيف تخلوا عنه جميعهم في مشهد يشبه السخرية السوداء. فكيف أقول للمقاوم بأنه مجرم حين يدافع عن وطنه وأرضه؟ وكيف أطلب من المقاوم أن يتبع المقاومة السلمية بينما يباد أهله وذووه؟. إنه أشبه بأن نقول إن الإمام البطل ناصر بن مرشد الذي حرر وطننا الحبيب من قبضة البرتغاليين بأنه إرهابي! وبأنه كان ينبغي أن نقدم للمحتل الورود كي يغادرنا بسلام ومحبة! فعجبا من هذا المنطق المأفون.

تحدثت في مقالي السابق «المقاومة بالكلمة» عن أهمية تصحيح المسار، وأرى بأن المناهج الدراسية التي تحتفي بالأرض والوطن وترسّخ قدسيتها لدى النشء حاجة ملحة وعاجلة. ونحن نرى كل يوم أصواتا غابت عنها هذه المفاهيم، فترى الوطن كالشركة التي يأخذ منها الموظف راتبه، ومتى انقطع الراتب غادرها إلى شركة أخرى. إن هذه المسألة خطيرة يجب علاجها عاجلا غير آجل، ويجب التعامل معها كما نتعامل مع مسائل الأمن القومي. فلا الأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي يحميان أحدا بحق، وكان الرأي العربي سابقا يظن بأن المجتمع الدولي لا يحمي العربي فقط؛ لكن الحرب الروسية الأوكرانية شاهد ناطق عن واقع الحال الذي يعيشه العالم المليء بالوحشية والظلم تطبيقا لمبدأ الغاب «البقاء للأقوى».