حملني الوضع الراهن وما يعيشه الكون من إعادة النظر فلسفيّا وحضاريّا في مفاهيم برّاقة جذّابة، كانت مَرْغب الشعوب ومطلبها لعقود مثل الديمقراطيّة والحريّة والعدالة والإنسانيّة والعنصريّة والكونيّة، إلى قصيدة شهدتُ صدورها في أواسط ثمانينيّات القرن الماضي، وشهدتُ أثرها في جيل مُحبَط بالهزائم والخيانات، للشاعر السوري الفريد نزار قبّاني، وعنوان القصيدة هو «لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان»، يقول في مطلعها: «مواطنون.. دونما وطن/ مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن/ مسافرون دون أوراقٍ/ وموتى دونما كفن»، وتصنّفت القصيدة على أنّها قصيدة سياسيّة -وهي كذلك- فَحُوصِرت وطُورِدت لأنّها لامست اللّحم الحيّ وكشفت المكشوف وأظهرت الظاهر، وإنّه لخطير أن يكشف الأديب الظاهرَ، وأن يكون الضمير الذي يسعى الجميع إلى إخماده وإلجامه.
استذكرتُ القصيدة التي صدرت بعد ذلك بزمن طويل في مجموعة شعريّة رافقت قصائد من نوعها ومن طينتها، هي مجموعة «قصائد مغضوب عليها»، بسبب ما يعيشه الوعي العربيّ من إحباطٍ متجدّد، وبسببٍ من هوان الدم العربيّ، وبسبب من تأكّد الضمير العربيّ من افتراق العالم إلى عالمين، عالم الغرب القويّ المنتصر لبني جلدته، وعالم آخر يحتلّ العربُ القسمَ الأوفر فيه لا يُمثّل شيئا، ولا يُطرَحُ إنسان إلاّ عندما يكون ورقةً للّعب. في الصراع العربي الإسرائيليّ قَلَّب الغربُ المفاهيمَ وغيّر المواضع وأقنع شعوبه بذلك، وقريبا يسعون إلى إقناعنا بهذه المفاهيم المُحوّلة والتي مفادها أنّ الكيان الإسرائيليّ دولةٌ سالمةٌ مسالمة، تتعرّض -وهي في أمانها- إلى ترهيب زُمرة من «الدواعش» أو الإرهابيين الغاصبين المهدّدين لأمان الدولة المسالمة، انقلبت المفاهيم، وصار الفلسطينيّون إرهابيين وليسوا طالبي حقّ استرجاع وطنهم المسلوب! العالم سيصدّق هذه المقولة الجديدة، ولكنّ السؤال الحارق متى يُصدّقها العرب؟ عودا إلى صديقنا نزار، الذي عُدّ في قصائده السياسيّة منبئا بقادمٍ متنبّئا بمُقبل، وحسبُ الشاعر أن يكون قارئا، شاعرا بما هو قادم شرّا أو خيرا، يقول في قصيدة «لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان»: مُسَافرونَ خارجَ الزَمَان والمَكَانْ/ مُسَافرونَ ضَيَّعوا نقودَهُمْ/ وضَيَّعوا متاعَهُم، وضيَّعوا أبناءَهُمْ، / وضيَّعوا أسماءَهمْ، وضيَّعوا انتماءَهُمْ/ وضيَّعوا الإحساس بالأمانْ/ فلا بَنو هاشمَ يعرفونَنَا، ولا بَنُو قَحْطَانْ/ ولا بَنُو ربيعةٍ، ولا بَنو شَيْبَانْ/ ولا بَنو لينينَ يعرفوننا.. ولا بَنُو ريغانْ/ يا وَطَني: كلُّ العصافير لها منازلٌ/ إلا العصافيرَ التي تحترفُ الحريَّهْ/ فهيَ تموتُ خارجَ الأوطانْ»، هذه هي اللحظة الأدبيّة التي يشعر فيها العربيّ أنّه لوحده في هذا الكون، وأنّه لا يُمثّل رُكنا من هذا العالم المكين، وأنّ العالم يُديره كيانٌ مزروع في خاصرتنا.
يعتريني شعورٌ بالضياع في هذا الكون الذي أحسن الأدباء التعبير عن وحشيّته، وعن قُدرته الهائلة على التدمير، وعلى إحداث الألم. ما يَرُوج اليوم من صور الدمار التي أكلت الحيوان والإنسان وكلّ ما يدبّ على الأرض، وكلّ مالا يدبّ، وكلّ ما يسكن فيها، صُوَرٌ وحكاياتٌ تأتينا من أرض غزّة التي قرّر العالم محوها من على وجه البسيطة، وتجويعها وتعطيشها قبل حرقها وذبحها.
المأساة لا تتأتّى من أنّي منتصرٌ لقوميّتي وديني فحسبُ، بل تتأتّى من أنّ أناسا على وجه هذه البسيطة مهما كان عرقهم ودينهم يُحرقون تحت نيران حيوان متوحّش غاضب ثائر أنّ أصيب بعضُ من أُناسه، والأعجب أنّ العالم الفاعل الإنسانيّ جدا لا يعمل على إيقاف الثور الهائج المائج، بل يدعمه ويسنده ويعينه على فعله بالمال والعتاد والسند المعنويّ، أليس عجيبا ما يحدث في هذا العالم؟ ألم يكن الشاعر آدم فتحي على حقّ وصواب عندما قال في سابقٍ من الزمن «هل نحن أشياءٌ وهل بشرٌ همُ؟/ هل دمنا ماءٌ وهل دمهمُ دمُ؟/ هل نحن أشياء وهل بشرٌ همُ؟/ هل دمنا ماءٌ وهل دمهمُ دمُ؟». لطالما توسّعنا في البحث الجامعيّ في مسألة «الأنا والآخر»، وحاولنا جبّ الهوّة القائمة حضاريّا بين العرب والغرب، بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، ولكن كلّما حلّت أزمةٌ أو عصفت عاصفة أدركنا أنّ البون شاسعٌ وأنّ المنظور الغربي سهل التحديد والتقييد، وأنّنا في منظورهم بشرٌ بِشَرٍّ من درجة ثانية، وأصبحنا الآن في حدّنا إرهابيين إلى أن نثبت عكس ذلك، فهل نعود إلى طرح إشكال الأنا والآخر مرّة ثانية، ووفق أصول معرفيّة جديدة؟ حتما بعد أن تضع الحرب أوزارها ستنتج أدبيّات مختلفة عن سابقها، ستنتج منظومة شعريّة وقصصيّة حاملة لواقع قوامه الإفناء والإبادة، فلم يعد قول سميح القاسم في قصيدته الثائرة الحاملة لأوجاع أطفال الحجارة معنى وهو يُقر الفارق بيننا وبينهم، إذ يقول فيها «حرامكم مُحلّل/ حلالكم مُحرّم/ تقدّموا بشهوة القتل التي تقتلكم/ وصوّبوا بدقّة لا ترحموا/ وسدّدوا للرحم/ إنّ نطفة من دمنا تضطرم/ تقدّموا كيف اشتهيتم/ واقتلوا/ قاتلكم مبرَّأ-/ قتيلُنا متّهم»، لم يعُد للكلام من معنى، اندثر وتبدّد أمام صُورٍ تُنازعه الأثر، وتُظهر رغبة الإنسان في إحداث الأذى، لم يعُد لمحمود درويش من استدعاء وهو لسان المقاومة الفلسطينيّة وقلبها النابض وضميرها الفاعل، وهو الشاعر يرى الدم يملأ المكان، يعمّ الزمان، لم يعد للدم فعلٌ وأثرٌ، الصورة تُقطِّع الأوصال، وتهزّ الأفئدة، لم يعد لدم درويش السائل من أثر في إثارة ضمير الكون، وهو القائل «دَم/ ودمٌ/ ودمٌ/ في بلادك/ في اسمي وفي اسمك، في زهرة/ اللوز، في قشرة الموز، في لبن/ الطفل، في الضوء والظلّ، في/ حبة القمح، في عُلبة الملح»، لم يعد لمحمود درويش صوتٌ والعالم يُناصِرُ ضاحكا القتَلةَ ويمدّهم بالمدى لذبح الأطفال، لم يعد لدرويش من شعر والعالم اصطفّ حاجّا لمزار السفّاحين. أمران في هذا العالم الأدبيّ المواكب لهذا العالم القبيح يدعوان إلى وقفة أمل وتأمّل وعودة وعي، أوّلهما تبصّر الأدب وإدراكه لوجود عالمين وليأسه من باقة الورد الغربيّة التي ظاهرها إنسانيّ وباطنها وحشيّ حيوانيّ، يُعيدنا إلى الحروب الهمجيّة الأولى وإلى عُقدة الغربي الأفضل والأحقّ بالحياة، والأمر الثاني أنّ الصورة اليوم تُنازع الكتابة محلّها، وكما سلف أن ذكرت فإنّ الصورة القادمة من غزّة من جهة والتي تُظهر حكايات ورمزيّات قد تفوق خيال الأدباء، وأنّ الصورة من جهة ثانية القادمة من الغرب الذي يمنع ذكر اسم فلسطين، ويمنع التعبير عن الرأي إن كان فيه علم لفلسطين أو ذكر لاسم فلسطين، ستصنع حكايات تختلف عن كلّ ما سبق، وستصنع سرديّة لتصوّر الكون وعلاقتنا بالآخر مختلفة عمّا عهدناه اختلافا واتّفاقا. لزامٌ على الوعي العربيّ أن يقف مراجعا لمفهوم الإنسانيّة، وحقوق الإنسان على النمط الأمريكي والأوروبي، وأن يقف مراجعا لصلتنا بالغرب المستعمر الذي لم ينس أنّه كذلك، وأن يُراجع صورة الغرب الذي تأخذه الحميّة ويؤلمه قلبه لذبح الأضاحي أو لتجويع قطّة أو لضرب حمار، هو نفس الغرب الذي لا يُحرّك ساكنا لذبح الأطفال وتجويع النساء والرُضَّع ومنع الماء عنهم في غزّة. إنّ المشهد الأدبيّ العربيّ بعد هذه الحرب داخل -بالضرورة- على إنشاء منطق في الكتابة جديد، وتصوّر يخرج عن تصديق وهم الكونيّة، وهو عائد حتما إلى المحليّة، إلى القوميّة، إلى الخصوصيّة. فهل هذا مدخل لاستعادة قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم)؟
استذكرتُ القصيدة التي صدرت بعد ذلك بزمن طويل في مجموعة شعريّة رافقت قصائد من نوعها ومن طينتها، هي مجموعة «قصائد مغضوب عليها»، بسبب ما يعيشه الوعي العربيّ من إحباطٍ متجدّد، وبسببٍ من هوان الدم العربيّ، وبسبب من تأكّد الضمير العربيّ من افتراق العالم إلى عالمين، عالم الغرب القويّ المنتصر لبني جلدته، وعالم آخر يحتلّ العربُ القسمَ الأوفر فيه لا يُمثّل شيئا، ولا يُطرَحُ إنسان إلاّ عندما يكون ورقةً للّعب. في الصراع العربي الإسرائيليّ قَلَّب الغربُ المفاهيمَ وغيّر المواضع وأقنع شعوبه بذلك، وقريبا يسعون إلى إقناعنا بهذه المفاهيم المُحوّلة والتي مفادها أنّ الكيان الإسرائيليّ دولةٌ سالمةٌ مسالمة، تتعرّض -وهي في أمانها- إلى ترهيب زُمرة من «الدواعش» أو الإرهابيين الغاصبين المهدّدين لأمان الدولة المسالمة، انقلبت المفاهيم، وصار الفلسطينيّون إرهابيين وليسوا طالبي حقّ استرجاع وطنهم المسلوب! العالم سيصدّق هذه المقولة الجديدة، ولكنّ السؤال الحارق متى يُصدّقها العرب؟ عودا إلى صديقنا نزار، الذي عُدّ في قصائده السياسيّة منبئا بقادمٍ متنبّئا بمُقبل، وحسبُ الشاعر أن يكون قارئا، شاعرا بما هو قادم شرّا أو خيرا، يقول في قصيدة «لماذا يسقط متعب بن تعبان في امتحان حقوق الإنسان»: مُسَافرونَ خارجَ الزَمَان والمَكَانْ/ مُسَافرونَ ضَيَّعوا نقودَهُمْ/ وضَيَّعوا متاعَهُم، وضيَّعوا أبناءَهُمْ، / وضيَّعوا أسماءَهمْ، وضيَّعوا انتماءَهُمْ/ وضيَّعوا الإحساس بالأمانْ/ فلا بَنو هاشمَ يعرفونَنَا، ولا بَنُو قَحْطَانْ/ ولا بَنُو ربيعةٍ، ولا بَنو شَيْبَانْ/ ولا بَنو لينينَ يعرفوننا.. ولا بَنُو ريغانْ/ يا وَطَني: كلُّ العصافير لها منازلٌ/ إلا العصافيرَ التي تحترفُ الحريَّهْ/ فهيَ تموتُ خارجَ الأوطانْ»، هذه هي اللحظة الأدبيّة التي يشعر فيها العربيّ أنّه لوحده في هذا الكون، وأنّه لا يُمثّل رُكنا من هذا العالم المكين، وأنّ العالم يُديره كيانٌ مزروع في خاصرتنا.
يعتريني شعورٌ بالضياع في هذا الكون الذي أحسن الأدباء التعبير عن وحشيّته، وعن قُدرته الهائلة على التدمير، وعلى إحداث الألم. ما يَرُوج اليوم من صور الدمار التي أكلت الحيوان والإنسان وكلّ ما يدبّ على الأرض، وكلّ مالا يدبّ، وكلّ ما يسكن فيها، صُوَرٌ وحكاياتٌ تأتينا من أرض غزّة التي قرّر العالم محوها من على وجه البسيطة، وتجويعها وتعطيشها قبل حرقها وذبحها.
المأساة لا تتأتّى من أنّي منتصرٌ لقوميّتي وديني فحسبُ، بل تتأتّى من أنّ أناسا على وجه هذه البسيطة مهما كان عرقهم ودينهم يُحرقون تحت نيران حيوان متوحّش غاضب ثائر أنّ أصيب بعضُ من أُناسه، والأعجب أنّ العالم الفاعل الإنسانيّ جدا لا يعمل على إيقاف الثور الهائج المائج، بل يدعمه ويسنده ويعينه على فعله بالمال والعتاد والسند المعنويّ، أليس عجيبا ما يحدث في هذا العالم؟ ألم يكن الشاعر آدم فتحي على حقّ وصواب عندما قال في سابقٍ من الزمن «هل نحن أشياءٌ وهل بشرٌ همُ؟/ هل دمنا ماءٌ وهل دمهمُ دمُ؟/ هل نحن أشياء وهل بشرٌ همُ؟/ هل دمنا ماءٌ وهل دمهمُ دمُ؟». لطالما توسّعنا في البحث الجامعيّ في مسألة «الأنا والآخر»، وحاولنا جبّ الهوّة القائمة حضاريّا بين العرب والغرب، بين الشرق والغرب، بين الشمال والجنوب، ولكن كلّما حلّت أزمةٌ أو عصفت عاصفة أدركنا أنّ البون شاسعٌ وأنّ المنظور الغربي سهل التحديد والتقييد، وأنّنا في منظورهم بشرٌ بِشَرٍّ من درجة ثانية، وأصبحنا الآن في حدّنا إرهابيين إلى أن نثبت عكس ذلك، فهل نعود إلى طرح إشكال الأنا والآخر مرّة ثانية، ووفق أصول معرفيّة جديدة؟ حتما بعد أن تضع الحرب أوزارها ستنتج أدبيّات مختلفة عن سابقها، ستنتج منظومة شعريّة وقصصيّة حاملة لواقع قوامه الإفناء والإبادة، فلم يعد قول سميح القاسم في قصيدته الثائرة الحاملة لأوجاع أطفال الحجارة معنى وهو يُقر الفارق بيننا وبينهم، إذ يقول فيها «حرامكم مُحلّل/ حلالكم مُحرّم/ تقدّموا بشهوة القتل التي تقتلكم/ وصوّبوا بدقّة لا ترحموا/ وسدّدوا للرحم/ إنّ نطفة من دمنا تضطرم/ تقدّموا كيف اشتهيتم/ واقتلوا/ قاتلكم مبرَّأ-/ قتيلُنا متّهم»، لم يعُد للكلام من معنى، اندثر وتبدّد أمام صُورٍ تُنازعه الأثر، وتُظهر رغبة الإنسان في إحداث الأذى، لم يعُد لمحمود درويش من استدعاء وهو لسان المقاومة الفلسطينيّة وقلبها النابض وضميرها الفاعل، وهو الشاعر يرى الدم يملأ المكان، يعمّ الزمان، لم يعد للدم فعلٌ وأثرٌ، الصورة تُقطِّع الأوصال، وتهزّ الأفئدة، لم يعد لدم درويش السائل من أثر في إثارة ضمير الكون، وهو القائل «دَم/ ودمٌ/ ودمٌ/ في بلادك/ في اسمي وفي اسمك، في زهرة/ اللوز، في قشرة الموز، في لبن/ الطفل، في الضوء والظلّ، في/ حبة القمح، في عُلبة الملح»، لم يعد لمحمود درويش صوتٌ والعالم يُناصِرُ ضاحكا القتَلةَ ويمدّهم بالمدى لذبح الأطفال، لم يعد لدرويش من شعر والعالم اصطفّ حاجّا لمزار السفّاحين. أمران في هذا العالم الأدبيّ المواكب لهذا العالم القبيح يدعوان إلى وقفة أمل وتأمّل وعودة وعي، أوّلهما تبصّر الأدب وإدراكه لوجود عالمين وليأسه من باقة الورد الغربيّة التي ظاهرها إنسانيّ وباطنها وحشيّ حيوانيّ، يُعيدنا إلى الحروب الهمجيّة الأولى وإلى عُقدة الغربي الأفضل والأحقّ بالحياة، والأمر الثاني أنّ الصورة اليوم تُنازع الكتابة محلّها، وكما سلف أن ذكرت فإنّ الصورة القادمة من غزّة من جهة والتي تُظهر حكايات ورمزيّات قد تفوق خيال الأدباء، وأنّ الصورة من جهة ثانية القادمة من الغرب الذي يمنع ذكر اسم فلسطين، ويمنع التعبير عن الرأي إن كان فيه علم لفلسطين أو ذكر لاسم فلسطين، ستصنع حكايات تختلف عن كلّ ما سبق، وستصنع سرديّة لتصوّر الكون وعلاقتنا بالآخر مختلفة عمّا عهدناه اختلافا واتّفاقا. لزامٌ على الوعي العربيّ أن يقف مراجعا لمفهوم الإنسانيّة، وحقوق الإنسان على النمط الأمريكي والأوروبي، وأن يقف مراجعا لصلتنا بالغرب المستعمر الذي لم ينس أنّه كذلك، وأن يُراجع صورة الغرب الذي تأخذه الحميّة ويؤلمه قلبه لذبح الأضاحي أو لتجويع قطّة أو لضرب حمار، هو نفس الغرب الذي لا يُحرّك ساكنا لذبح الأطفال وتجويع النساء والرُضَّع ومنع الماء عنهم في غزّة. إنّ المشهد الأدبيّ العربيّ بعد هذه الحرب داخل -بالضرورة- على إنشاء منطق في الكتابة جديد، وتصوّر يخرج عن تصديق وهم الكونيّة، وهو عائد حتما إلى المحليّة، إلى القوميّة، إلى الخصوصيّة. فهل هذا مدخل لاستعادة قوله تعالى: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتّى تتّبع ملّتهم)؟