كان الاعتماد عليها حذرا بداية. عندما بدأت المعلومات والتقارير والصور تُبث عبر مواقع الإنترنت تشككت وسائل الإعلام (التقليدية كما يُطلق عليها عرفا) باعتمادها مصادر للخبر. لكن الأمر لم يطل حتى أصبح فيضان هذه المعلومات أصعب من أن يتم تجاهله؛ ولأنها (وسائل الإعلام) تفرق نفسها عن عمل الهواة باعتمادها قيم الموثوقية والدقة فإنه لا تكاد تخلو شبكة إعلامية من وجود قسم مسؤول عن التدقيق في المواد التي تأتي عبر مواقع البث مثل قنوات اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي وتطبيقات المحادثات والتراسل للتحقق من صدق المادة المعروضة.
لكن للكذب والتزييف في الإعلام أساليب متشابكة ولا يمكن رد شبهة التضليل باكتشاف فبركة صورة أو مقطع فيديو أو نص خبر -غالبا بعد فوات الأوان- فقد ثبت بالتتبع التاريخي أن المعارك والخلافات تُدار بالكذب مثلما تُدار بالأسلحة.
هي حيلة تاريخية قديمة، الاختلاف الآن يكمن في أننا جميعا منخرطون في ذلك، نتلقى أو نشارك حتى في هذه العملية التي أصبح لها الآن مساران متضادان: الكذب وتكذيبه، نتأثر بها على نطاق واسع: نطاق عالمي والاختلاف يكمن في السرعة التي تنتشر وتؤثر بها تلك الأخبار التي تأتي مستخدمة مواقع التواصل الاجتماعي كوسيط.
بشكل ملحّ ومثير يفرض هذا الموضوع نفسه للنقاش في الحرب الدائرة الآن، قيل الكثير عن تزييف الحقائق من قبل السياسيين والخبراء الإسرائيليين والأمريكيين معهم ووسائل الإعلام الكبرى التابعة لهم وكيف استدعى الخطاب السياسي والإعلامي موضوع الإرهاب: الأمن ووجود خطر محدق بهم هي الكذبة الأمثل التي اعتمد عليها الغرب.
لا نجد من بين الذين يتحدثون في وسائل الإعلام من المؤيدين للقضية الفلسطينية (من العرب والمسلمين ربما الآخرين أكثر حظا في الجرأة) من أن يتجرأ بأن يدافع صراحة عن فعل حماس كحالة دفاع أو أن يعتبرها جزءا من نسيج المجتمع الفلسطيني مهما كانت توجهاته السياسية في شأن الخلافات بين هذه التحزبات في العالم الإسلامي (قد يكون ضد حماس وقد يكون معها). الفكرة أنه لا يتنصل من حماس بل مما تمثله، وهو حق الدفاع عن النفس ومقاومة الاحتلال، هو مضطر لرفض القتال حتى وإن كانت له موجباته، فهذا الحق يعطى فقط للإسرائيليين، يجب أن يجعل حديثه متعلقا بالوضع الإنساني في غزة (والذي لا يختلف على أولويته).
المخيف أن تهمة الإرهاب ستلصق بأي محاولة للدفاع عن النفس، هنا غالبا سيجبر العالم الإسلامي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشروط مجحفة ومنتقصة لحقه، وربما لن يصل أبدا حتى لأقل القليل؛ لأنه متى ما تمادى في الاعتراض فهو إرهابي، وكيف يمكن أن تكسب التفاوض وأنت دون ثقل سياسي واقتصادي ودون قوة عسكرية، وهنا يأتي التزييف والكذب الذي مورس طويلا بافتراض وتأكيد أن من يقف في وجه السلام هم العرب أنفسهم.
عودا لموضوع تزييف الحقائق وتضليل الجماهير، يلاحظ أن هذا الأمر أصبح أكثر صعوبة مع الوقت أو أنها على الأقل أصبحت معركة بين طرفين، بها الخطاب والخطاب المضاد بغض النظر عن تكافؤ الفرص والقوة.
أن يصل الأمر باشتداد الهجمات المرتدة بإنتاج مواد فيلمية تسخر من معاناة الشعب الفلسطيني وتصويرها على أنها مجرد حالات تمثيل، فالفيديوهات التي بثها ناشطون إسرائيليون على مواقع التواصل الاجتماعي على شكل محاكاة ساخرة ومستهزئة ومثيرة للشفقة لفيديوهات تم بثها من ناشطين فلسطينيين تحت الحصار وتحت القصف في محاولة التشكيك بواقعيتها وتصويرها على أنها تمثيل ومبالغات هي مؤشر لافت لمدى الأثر الذي أحدثه نقل الحقيقة من الميدان كما هي مثال لمدى التفنن الذي يمكن أن يذهب إليه البعض في الكذب بقتل الحقيقة وتشويهها عندما يعدم وسيلة لتقديم الحجة لتبرير جرائمه.
ماذا سيحدث عندما تعرى الحقائق ويكشف الزيف؟ ماذا يعنينا في الرأي العام في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها؟ وهل الرأي العام هنالك فاعل ومؤثر حقا في قضايانا؟ هل سيكون له من جدوى فيما يحدث الآن؟
تاريخيا نعرف أن معارضة بعض شرائح المجتمع في الغرب للحروب التي شنتها تلك الدول مؤخرا في العالم الإسلامي لم تفلح في منعها، لم تفلح في تغيير الكثير فيها إلا ربما بقدر قليل بعد أن تعلّق الأمر بموت الكثير من جنودهم وأصبحت كلفة هذه الحروب ماديا ومعنويا (عسكريا بشكل مباشر لأنها استمرت كحروب بالوكالة) عالية وأصبح لا بد من الانسحاب بعد أن حققت الغرض الاستراتيجي منها وخلّفت وراءها خلايا صنعتها للإرهاب (في العراق وما جاورها مثلا) لتُكمل المهمة.
قبل أن تشن كل من الولايات المتحدة وبريطانيا الحرب على العراق بحجة القضاء على الأسلحة النووية خرجت الكثير من المظاهرات المعترضة التي استمرت تدعو لوقف الحرب لكنها لم تنجح وحتى بعد أن استفاقت بعض وسائل الإعلام وبدأت تفضح الأكاذيب التي قامت عليها الحرب، الأكاذيب التي قامت على المبدأ نفسه (أمن الغرب في خطر، هنالك إرهاب في تلك القارة البعيدة يهدده) لم يغير ذلك الكثير في الحقائق بل إنه من المفاجئ أن الرأي العام في أغلبه لم يصحح معلوماته وبقي تحت تأثير الخدعة الأولى يركّب عليها صورة نمطية تتعزز مع كل حادثة لاحقة تأتي في السياق ذاته. فما الذي تغير هذه المرة؟ وهل يمكن أن نتوقع تأثيرا مختلفا لحالة الصحوة والوعي الغربي إن وجدت؟ وهل هم حقا غافلون عن الحقائق؟ وهل نجح خطابنا الإعلامي في قلب المعادلة وجذب الجماهير لتنحاز إليه؟ وهل لهذا الانحياز من قيمة؟
بعد أكثر من 10 أيام من القصف الإسرائيلي اشتدت وطأة التوتر على منصات التواصل الاجتماعي وتعالت عدة أصوات من نشطاء غربيين من بينهم مفكرون وصحفيون وفنانون ونشطاء تدعو لوقف القصف (وهذا حدث كذلك في المرات السابقة واتضح أكثر في هجوم 2021 وخرجت كذلك هذه المرة مظاهرات حاشدة في مختلف دول العالم من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وتعالت أصوات تشير إلى وسائل الإعلام الغربية بأصابع الاتهام وتحتج على التغطية المجحفة، ربما كان آخرها استقالات مجموعة من مراسلي الـ»بي بي سي».
فهل تعني هذه الاحتجاجات شيئا؟ وهل غيرت ما يحدث؟ على المدى القصير ربما كان التأثير محدودا ولكن هذا التغير البطيء قد يتسارع في عالم المنصات العنكبوتية وقد يشكل فرقا إن توفرت له المقومات الأخرى.
أولا، على المدى القريب هناك تغير نسبي في تجاهل الأوضاع الكارثية في غزة وتجاهل التوتر التاريخي ومسبباته، لا يعني ذلك أن هذه القنوات لم تعد منحازة للرواية الإسرائيلية، ولكنها لم تعد تستطيع طمس ما يجري على الجانب الآخر كلية لأنه هناك في كل مكان ولأنه ربما أصبحت هناك محاذير أن ينفجر الوضع داخليا بعد حدوث جريمتي قتل كراهية على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا أنه تبين أن أمد القتال قد يطول وأن التوقعات الأمريكية من موقف دول الجوار لموضوع التهجير على أقل تقدير لم تسر إلى الآن كما أُريد لها لكن بما أن الهدف لم يتغير بعد، فلن نجد ذلك التوازن في التناول الإعلامي عبر شبكات الأخبار الكبرى المعروفة في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
من المعروف أن الجماهير في الولايات المتحدة الأمريكية تؤخذ في الحسبان عند عد أصوات المنتخبين ذلك ما يهتم له الساسة، ولأنه في الغالب تشكل الموضوعات المحلية هناك الفيصل في تحديد التمثيل السياسي فلا يبدو أن القضية الفلسطينية ذات صلة، خصوصا مع اعتبار دعم إسرائيل من الثوابت للحزبين الجمهوري والديمقراطي، لكن أولا علينا أن نشير إلى أن الرأي العام في العالم العربي والإسلامي له ثقله حتى وإن شعرنا معظم الوقت بالعجز. نحن ورقة ضغط لا يستهان بها وأحيانا تستخدمها الحكومات العربية ذاتها للتنصل من الضغط الغربي في بعض الموضوعات.
ورغم تكرارنا أن القضية تعيش فينا، فإنها في الحقيقة بحاجة لمن يوقظها ويوقد جمرها (إسرائيل تفعل ذلك ببراعة حين تنكأ الوجع لكنها لا يمكن أن تنجح في ذلك دون مقاومة بكل أشكالها وعلى رأسها نضال الكلمة والصورة).
وتاليا لا بد من الإشارة إلى أن خطاب المقاومة نجح (متمثلا في ما يُبث على وسائل التواصل الاجتماعي) في نشر بعض الوعي (عالميا) بأحداث التاريخ حتى لا تمحى من ذاكرة الأجيال الجديدة، قد يبدو الأمر مفاجئا لنا ومن منا لم يتعرض بشكل أو آخر أثناء سفره لهذا التساؤل من أناس من مختلف بقاع الأرض، وهم في استغراب تام عن سبب معاداتنا لإسرائيل المسالمة التي تريد فقط أن تجاورنا بسلام! المفاجأة تقع على رؤوسنا نحن حين نظن أن الجميع يدرس تاريخنا وتاريخ قضيتنا الأهم فلسطين (تاريخنا الذي بدأ يختفي حتى من صفحات كتبنا المدرسية) لا يعرف عنا العالم إلا ما تصدره له السينما ووسائل الإعلام الغربية ولا يكلف أحد نفسه بالبحث، فهذه مسؤولية تقع علينا. بالطبع تشكل الحرب الدائرة اللحظة المثلى لأنها تجذب أنظار العالم لكن بالتأكيد نفاذ هذا الصوت بسردية مختلفة عما اعتاد العالم أن يسمعه هو نتاج تراكم سنوات من العمل وحالات نشطة من التفاعل في المعارك السابقة وربما قد بلغت الذروة في هجوم إسرائيل على غزة عام 2021 بالتوازي مع تأكيد الحق التاريخي كان هناك نقل لوجع ومأساة ومعاناة العيش تحت ظل الاحتلال وممارساته.
هذا الخطاب المضاد نجح في لفت أنظار العالم وربما ليس من المبالغة القول إنه وسيلة النضال الممكنة المتبقية حاليا وإسرائيل تقصف مقاتلي المقاومة وهذا التأكيد التاريخي مهم ومخيف للآخر، إذ أصبح شعار فلسطين حرة من النهر إلى البحر يردده غير المسلمين كذلك. بدأت تتكوّن حركات مدنية من الأقليات في العالم الغربي تدعم القضية الفلسطينية وتتعاطف مع حقها. من الصعب التنبؤ بمثل تأثير هذه التطورات لكنها البداية، ثانيا هو يناقض ويقوض الحشد الإسرائيلي للعالم حوله.
نجحت إسرائيل في خلق علاقات اقتصادية وسياسية مترامية وأوجدت لنفسها حلفاء وشركاء وانخرطت في الأحداث الجارية حولنا وهي تحوطنا من الهند إلى القارة الأفريقية. وأصبح يأتيها رجال الأعمال والسياح من كل مكان (البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط!) هذه العلاقات صاحبها خطاب إعلامي ممنهج يلصق صفات البراءة والتقدم والانفتاح الفكري لهذا الكيان.
طبعا منصات التواصل لا يمكن أن تقوض كل ذلك دون عمل عربي وإسلامي في الميدان ولكنها على أقل تقدير هي تنجح في طرح الأسئلة حول حقيقة ما يحدث، ربما في لحظة مواتية حين نكون بالقوة والذكاء اللازمين نجد مؤازرة فاعلة من الرأي العام.
•إشارة إلى المثل العماني: رابع (صاحب أو امشِ) مع الكذّاب إلى رز (عتبة) الباب
لكن للكذب والتزييف في الإعلام أساليب متشابكة ولا يمكن رد شبهة التضليل باكتشاف فبركة صورة أو مقطع فيديو أو نص خبر -غالبا بعد فوات الأوان- فقد ثبت بالتتبع التاريخي أن المعارك والخلافات تُدار بالكذب مثلما تُدار بالأسلحة.
هي حيلة تاريخية قديمة، الاختلاف الآن يكمن في أننا جميعا منخرطون في ذلك، نتلقى أو نشارك حتى في هذه العملية التي أصبح لها الآن مساران متضادان: الكذب وتكذيبه، نتأثر بها على نطاق واسع: نطاق عالمي والاختلاف يكمن في السرعة التي تنتشر وتؤثر بها تلك الأخبار التي تأتي مستخدمة مواقع التواصل الاجتماعي كوسيط.
بشكل ملحّ ومثير يفرض هذا الموضوع نفسه للنقاش في الحرب الدائرة الآن، قيل الكثير عن تزييف الحقائق من قبل السياسيين والخبراء الإسرائيليين والأمريكيين معهم ووسائل الإعلام الكبرى التابعة لهم وكيف استدعى الخطاب السياسي والإعلامي موضوع الإرهاب: الأمن ووجود خطر محدق بهم هي الكذبة الأمثل التي اعتمد عليها الغرب.
لا نجد من بين الذين يتحدثون في وسائل الإعلام من المؤيدين للقضية الفلسطينية (من العرب والمسلمين ربما الآخرين أكثر حظا في الجرأة) من أن يتجرأ بأن يدافع صراحة عن فعل حماس كحالة دفاع أو أن يعتبرها جزءا من نسيج المجتمع الفلسطيني مهما كانت توجهاته السياسية في شأن الخلافات بين هذه التحزبات في العالم الإسلامي (قد يكون ضد حماس وقد يكون معها). الفكرة أنه لا يتنصل من حماس بل مما تمثله، وهو حق الدفاع عن النفس ومقاومة الاحتلال، هو مضطر لرفض القتال حتى وإن كانت له موجباته، فهذا الحق يعطى فقط للإسرائيليين، يجب أن يجعل حديثه متعلقا بالوضع الإنساني في غزة (والذي لا يختلف على أولويته).
المخيف أن تهمة الإرهاب ستلصق بأي محاولة للدفاع عن النفس، هنا غالبا سيجبر العالم الإسلامي على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشروط مجحفة ومنتقصة لحقه، وربما لن يصل أبدا حتى لأقل القليل؛ لأنه متى ما تمادى في الاعتراض فهو إرهابي، وكيف يمكن أن تكسب التفاوض وأنت دون ثقل سياسي واقتصادي ودون قوة عسكرية، وهنا يأتي التزييف والكذب الذي مورس طويلا بافتراض وتأكيد أن من يقف في وجه السلام هم العرب أنفسهم.
عودا لموضوع تزييف الحقائق وتضليل الجماهير، يلاحظ أن هذا الأمر أصبح أكثر صعوبة مع الوقت أو أنها على الأقل أصبحت معركة بين طرفين، بها الخطاب والخطاب المضاد بغض النظر عن تكافؤ الفرص والقوة.
أن يصل الأمر باشتداد الهجمات المرتدة بإنتاج مواد فيلمية تسخر من معاناة الشعب الفلسطيني وتصويرها على أنها مجرد حالات تمثيل، فالفيديوهات التي بثها ناشطون إسرائيليون على مواقع التواصل الاجتماعي على شكل محاكاة ساخرة ومستهزئة ومثيرة للشفقة لفيديوهات تم بثها من ناشطين فلسطينيين تحت الحصار وتحت القصف في محاولة التشكيك بواقعيتها وتصويرها على أنها تمثيل ومبالغات هي مؤشر لافت لمدى الأثر الذي أحدثه نقل الحقيقة من الميدان كما هي مثال لمدى التفنن الذي يمكن أن يذهب إليه البعض في الكذب بقتل الحقيقة وتشويهها عندما يعدم وسيلة لتقديم الحجة لتبرير جرائمه.
ماذا سيحدث عندما تعرى الحقائق ويكشف الزيف؟ ماذا يعنينا في الرأي العام في الولايات المتحدة وبريطانيا وغيرها؟ وهل الرأي العام هنالك فاعل ومؤثر حقا في قضايانا؟ هل سيكون له من جدوى فيما يحدث الآن؟
تاريخيا نعرف أن معارضة بعض شرائح المجتمع في الغرب للحروب التي شنتها تلك الدول مؤخرا في العالم الإسلامي لم تفلح في منعها، لم تفلح في تغيير الكثير فيها إلا ربما بقدر قليل بعد أن تعلّق الأمر بموت الكثير من جنودهم وأصبحت كلفة هذه الحروب ماديا ومعنويا (عسكريا بشكل مباشر لأنها استمرت كحروب بالوكالة) عالية وأصبح لا بد من الانسحاب بعد أن حققت الغرض الاستراتيجي منها وخلّفت وراءها خلايا صنعتها للإرهاب (في العراق وما جاورها مثلا) لتُكمل المهمة.
قبل أن تشن كل من الولايات المتحدة وبريطانيا الحرب على العراق بحجة القضاء على الأسلحة النووية خرجت الكثير من المظاهرات المعترضة التي استمرت تدعو لوقف الحرب لكنها لم تنجح وحتى بعد أن استفاقت بعض وسائل الإعلام وبدأت تفضح الأكاذيب التي قامت عليها الحرب، الأكاذيب التي قامت على المبدأ نفسه (أمن الغرب في خطر، هنالك إرهاب في تلك القارة البعيدة يهدده) لم يغير ذلك الكثير في الحقائق بل إنه من المفاجئ أن الرأي العام في أغلبه لم يصحح معلوماته وبقي تحت تأثير الخدعة الأولى يركّب عليها صورة نمطية تتعزز مع كل حادثة لاحقة تأتي في السياق ذاته. فما الذي تغير هذه المرة؟ وهل يمكن أن نتوقع تأثيرا مختلفا لحالة الصحوة والوعي الغربي إن وجدت؟ وهل هم حقا غافلون عن الحقائق؟ وهل نجح خطابنا الإعلامي في قلب المعادلة وجذب الجماهير لتنحاز إليه؟ وهل لهذا الانحياز من قيمة؟
بعد أكثر من 10 أيام من القصف الإسرائيلي اشتدت وطأة التوتر على منصات التواصل الاجتماعي وتعالت عدة أصوات من نشطاء غربيين من بينهم مفكرون وصحفيون وفنانون ونشطاء تدعو لوقف القصف (وهذا حدث كذلك في المرات السابقة واتضح أكثر في هجوم 2021 وخرجت كذلك هذه المرة مظاهرات حاشدة في مختلف دول العالم من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وتعالت أصوات تشير إلى وسائل الإعلام الغربية بأصابع الاتهام وتحتج على التغطية المجحفة، ربما كان آخرها استقالات مجموعة من مراسلي الـ»بي بي سي».
فهل تعني هذه الاحتجاجات شيئا؟ وهل غيرت ما يحدث؟ على المدى القصير ربما كان التأثير محدودا ولكن هذا التغير البطيء قد يتسارع في عالم المنصات العنكبوتية وقد يشكل فرقا إن توفرت له المقومات الأخرى.
أولا، على المدى القريب هناك تغير نسبي في تجاهل الأوضاع الكارثية في غزة وتجاهل التوتر التاريخي ومسبباته، لا يعني ذلك أن هذه القنوات لم تعد منحازة للرواية الإسرائيلية، ولكنها لم تعد تستطيع طمس ما يجري على الجانب الآخر كلية لأنه هناك في كل مكان ولأنه ربما أصبحت هناك محاذير أن ينفجر الوضع داخليا بعد حدوث جريمتي قتل كراهية على الأقل في الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا أنه تبين أن أمد القتال قد يطول وأن التوقعات الأمريكية من موقف دول الجوار لموضوع التهجير على أقل تقدير لم تسر إلى الآن كما أُريد لها لكن بما أن الهدف لم يتغير بعد، فلن نجد ذلك التوازن في التناول الإعلامي عبر شبكات الأخبار الكبرى المعروفة في كل من بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية.
من المعروف أن الجماهير في الولايات المتحدة الأمريكية تؤخذ في الحسبان عند عد أصوات المنتخبين ذلك ما يهتم له الساسة، ولأنه في الغالب تشكل الموضوعات المحلية هناك الفيصل في تحديد التمثيل السياسي فلا يبدو أن القضية الفلسطينية ذات صلة، خصوصا مع اعتبار دعم إسرائيل من الثوابت للحزبين الجمهوري والديمقراطي، لكن أولا علينا أن نشير إلى أن الرأي العام في العالم العربي والإسلامي له ثقله حتى وإن شعرنا معظم الوقت بالعجز. نحن ورقة ضغط لا يستهان بها وأحيانا تستخدمها الحكومات العربية ذاتها للتنصل من الضغط الغربي في بعض الموضوعات.
ورغم تكرارنا أن القضية تعيش فينا، فإنها في الحقيقة بحاجة لمن يوقظها ويوقد جمرها (إسرائيل تفعل ذلك ببراعة حين تنكأ الوجع لكنها لا يمكن أن تنجح في ذلك دون مقاومة بكل أشكالها وعلى رأسها نضال الكلمة والصورة).
وتاليا لا بد من الإشارة إلى أن خطاب المقاومة نجح (متمثلا في ما يُبث على وسائل التواصل الاجتماعي) في نشر بعض الوعي (عالميا) بأحداث التاريخ حتى لا تمحى من ذاكرة الأجيال الجديدة، قد يبدو الأمر مفاجئا لنا ومن منا لم يتعرض بشكل أو آخر أثناء سفره لهذا التساؤل من أناس من مختلف بقاع الأرض، وهم في استغراب تام عن سبب معاداتنا لإسرائيل المسالمة التي تريد فقط أن تجاورنا بسلام! المفاجأة تقع على رؤوسنا نحن حين نظن أن الجميع يدرس تاريخنا وتاريخ قضيتنا الأهم فلسطين (تاريخنا الذي بدأ يختفي حتى من صفحات كتبنا المدرسية) لا يعرف عنا العالم إلا ما تصدره له السينما ووسائل الإعلام الغربية ولا يكلف أحد نفسه بالبحث، فهذه مسؤولية تقع علينا. بالطبع تشكل الحرب الدائرة اللحظة المثلى لأنها تجذب أنظار العالم لكن بالتأكيد نفاذ هذا الصوت بسردية مختلفة عما اعتاد العالم أن يسمعه هو نتاج تراكم سنوات من العمل وحالات نشطة من التفاعل في المعارك السابقة وربما قد بلغت الذروة في هجوم إسرائيل على غزة عام 2021 بالتوازي مع تأكيد الحق التاريخي كان هناك نقل لوجع ومأساة ومعاناة العيش تحت ظل الاحتلال وممارساته.
هذا الخطاب المضاد نجح في لفت أنظار العالم وربما ليس من المبالغة القول إنه وسيلة النضال الممكنة المتبقية حاليا وإسرائيل تقصف مقاتلي المقاومة وهذا التأكيد التاريخي مهم ومخيف للآخر، إذ أصبح شعار فلسطين حرة من النهر إلى البحر يردده غير المسلمين كذلك. بدأت تتكوّن حركات مدنية من الأقليات في العالم الغربي تدعم القضية الفلسطينية وتتعاطف مع حقها. من الصعب التنبؤ بمثل تأثير هذه التطورات لكنها البداية، ثانيا هو يناقض ويقوض الحشد الإسرائيلي للعالم حوله.
نجحت إسرائيل في خلق علاقات اقتصادية وسياسية مترامية وأوجدت لنفسها حلفاء وشركاء وانخرطت في الأحداث الجارية حولنا وهي تحوطنا من الهند إلى القارة الأفريقية. وأصبح يأتيها رجال الأعمال والسياح من كل مكان (البلد الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط!) هذه العلاقات صاحبها خطاب إعلامي ممنهج يلصق صفات البراءة والتقدم والانفتاح الفكري لهذا الكيان.
طبعا منصات التواصل لا يمكن أن تقوض كل ذلك دون عمل عربي وإسلامي في الميدان ولكنها على أقل تقدير هي تنجح في طرح الأسئلة حول حقيقة ما يحدث، ربما في لحظة مواتية حين نكون بالقوة والذكاء اللازمين نجد مؤازرة فاعلة من الرأي العام.
•إشارة إلى المثل العماني: رابع (صاحب أو امشِ) مع الكذّاب إلى رز (عتبة) الباب