يُحيل مفهوم «العقل النقدي» في المقام الأول على الطريقة التي نسائل بها مواقف سلطةٍ ما وأوامرها، بدلا من تقبّلها دون تحفّظ. كما أنه يعني شكلا من مساءلة الذات، من خلال التشكيك في قناعاتها الخاصة بهدف جعلها أكثر موثوقية. وأخيرا، قد يتعلق الأمر بموقف عام تجاه الوجود، حيث لا شيء يُسلّم له على أنه بداهة، وبحيث يتم النظر إلى الأحداث على أنها أسئلة بدلا من اعتبارها إقرارات أو تأكيدات.

غير أن تعريفات العقل النقدي هذه تتغير بحسب الفترات التاريخية. ولذلك فإنه فقط من خلال فهم تحولات هذا المفهوم يصبح بإمكاننا فهم جوانبه المختلفة على نحوٍ أفضل، وإلقاء الضوء على ما يعنيه لنا اليوم.

ومن أجل إجراء هذا البحث، يجب أن نعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، أي إلى سقراط ودائرته من الأصدقاء. قبل هؤلاء، كان العرّافون والأنبياء والفلاسفة والشعراء في اليونان يُضفون الشرعية على خطاباتهم من خلال ادّعاء الإلهام الإلهي. وسواء تعلق الأمر بمؤلفي القصائد عن محبوبات زيوس أو بأصحاب النظريات الرياضية حول بنية الكون، فقد كانوا جميعا يؤكدون على أن شيئا آخر يتحدث من خلالهم.

لم تسعَ الثورة السقراطية إلى قلب هذا التصوّر، لكن سقراط سوف يتعامل مع صوت الإنسان باعتباره نابعا من الإنسان نفسه؛ لأن البشر وعلى خلاف الآلهة، لا يملكون إمكانية الولوج المباشر إلى الحقيقة، وأفكارهم مشوّشة للغاية لدرجة أنهم يتحدثون في كثير من الأحيان دون أن يكلّفوا أنفسهم عناء السؤال حول معنى الكلمات التي يتفوّهون بها. إن هذه الدهشة أمام غموض اللغة، وهذا التشكيك في اتّساق الأفكار، وهذا الرفض للاعتراف الأعمى بالادّعاءات المُصاغة في جهل تام هي المصادر الأساسية للعقل النقدي. لكن خلاصة الدرس السقراطي لا تكمن في أننا ينبغي أن نعرف عماّ نتحدث قبل الخوض فيه، وإنما في أنه يجب علينا أن نسعى بنشاط نحو الحقيقة إذا ما أردنا أن نتمكن من معرفة شيء ما. سوف يطوّر بالتالي طلاب سقراط المباشرين أو غير المباشرين - أفلاطون، زينوفون، ديوجين، أرسطو، إلخ. - تصورات فلسفية متنوعة، لكنها تستند كلها إلى الدهشة نفسها أمام البداهات وإلى الهمّ ذاته بمنح الكلمات تعريفا دقيقا.

التفكير النقدي لا يُفوَّض

ومع ازدهار الإمبراطورية الرومانية، بعد حروب وتوترات كثيرة حول البحر الأبيض المتوسط، سوف يقوم الرومان بتوجيه الإرث السقراطي نحو معنى سياسي. فمن أجل حماية مصالحها، عمدت العائلات الأرستقراطية الكبرى في روما إلى مساءلة سلطة الإمبراطور بكل الوسائل المتاحة، من خلال المؤسسات والأدب أو حتى من خلال الاغتيال! إن الصورة التي نقلها إلينا المؤرخون الرومان عن أباطرة مثل نيرون أو دوميتيانوس يجب أن تُفهم على أنها شهادة متألقة على عقلهم النقدي. فهي تعكس الهمّ المتمثل في بناء سلطات مضادة، مثلما كان الحال عند كتّاب مثل تاسيتوس (القرنين الأول والثاني الميلادي). لا تروي حولياته وتاريخه تاريخ الإمبراطورية فحسب، بل تكشف أيضا عن يقظة أعضاء مجلس الشيوخ أمام الأباطرة ونضالهم المستمر من أجل الحفاظ على الحرية والأمن في روما.

وإذا كان صحيحا أن العقل النقدي قد ازدهر مع سقراط من خلال تقدير قيمة استقلالية الفرد، فإن المؤلفين الرومان مثل تاسيتوس أو سينيكا يذكّروننا بأن إضفاء الطابع الفردي على التساؤل لا يكتسب المعنى إلا عندما نطرح الأسئلة بأنفسنا، ونبحث لها عن الإجابات بمساعدة أقراننا. وبعبارة أخرى، لا يمكن تفويض التفكير النقدي، وحتى الإمبراطور نفسه لا يُعفى منه.

وبعد أن غزت المسيحية الإمبراطورية، ستُعيد فكرة الوحي، التي تختلف تماما عن فكرة الإلهام الإلهي عند الوثنيين، تشكيل مفهوم العقل النقدي بشكل جذري مرة أخرى. سوف يمارس الفلاسفة المسيحيون تفكيرهم ضمن الأطر التي حدّدها الكتاب المقدس. لكن العصور الوسطى لم تعني على الإطلاق الالتزام الأعمى بالعقائد التي أنشأتها الكنيسة. لقد حصل العكس تقريبا! لقد صار العقل النقدي يستند إلى الأساس الذي حدده الوحي، لكنه سعى إلى التوفيق بين موروث فكري مركّب للغاية، بحيث يسمح بالحوار بين أرسطو والكتاب المقدس من أجل العثور على طريق الحقيقة المفقود.

وقد أدّى هذا إلى بروز طروحات لاهوتية أو رهبانية عبّرت، تحت لبوسٍ ورع يروّج لطاعة الإله، عن رفض طاعة السلطات المدنية والأخلاق المشتركة. فعند كلّ من المعلم الألماني إيكارت (Eckhart)، والفرنسي بيير أبيلار (Pierre Abélard)، والإيطالي فرنسيس الأسيزي (François d’Assise)، بدا الالتزام الروحي كفيلا بدحض الأفكار المتلقاّة والمعايير السلوكية. وحتى عامة الناس كانوا أقل انخداعا مما نتصوره، فهم كذلك كانوا يعرفون كيف يصنعون لأنفسهم لاهوتهم الخاص، كما برهن على ذلك الإنسان البسيط مينوكيو الطحّان، الذي خُلّدت ذكراه عند الأجيال اللاحقة بفضل المحاكمة التي قضت بإعدامه حرقا بتهمة الإلحاد، بسبب قوله بأن الحياة قد ظهرت في الكون كما تخرج الديدان من الجبن، وأن الأناجيل القانونية يمكن أن تكون هي أيضا منحولة مثل الأناجيل الأخرى.

من الشك المنهجي إلى النزعة الإنسانية

شجّع اختراع المطبعة في القرن الخامس عشر، على تحوّل جديد على مستوى العقل النقدي. فقد حفّز إعادة الإنتاج الميكانيكي للنصوص الفلاسفة على النظر إلى الطبعات اليدوية بعين الريبة. وقام مصلحون مثل جون كالفن ومارتن لوثر، ثم الإنسانيون مثل إيراسموس، بفحص دقيق للنصوص أكثر من أي وقت مضى، ووضعوا أسس ما أطلق عليه فيما بعد «نقد الكتاب المقدس». ولقد وضعوا اليد على أخطاء عديدة على مستوى الطبع والترجمة من شأنها أن تغذّي تأويلات بعيدة كل البعد عن الرسالة الأصلية. واجتمع كل من الإيطالي جاليليو جاليلي، والإنجليزي فرانسيس بيكون، والفرنسي رونيه ديكارت على وضع التجربة في مقام أعلى من الكتاب المقدس. وعرّف فرانسيس بيكون، على وجه الخصوص، العلم بأنه تدمير لـ «الأصنام»، أي الأحكام المسبقة التي نتعلق بها أكثر من غيرها.

لقد أصبح العقل النقدي الآن يتموقع في قلب العلم، وعلى الناس أن يبحثوا مليّا من أجل الانعتاق من أخطائهم. واقترح ديكارت، وفقا للمنظور نفسه الرامي إلى إعادة التأسيس، تمرينا فكريا سمّاه بـ «الشك المنهجي». يتعلق الأمر بالتشكيك في حقيقة كل ما نشعر به، وكل ما نفكر فيه، وباختصار كل ما نلتزم به دون أن نكون قد أثبتنا صحته. إن هذا التمرين، الذي يمثل أعلى نقطة يمكن أن يصل إليها العقل النقدي، لا يؤدي إلى اكتشاف اليقين الذي لا يقبل الشك «أنا أفكر إذن أنا موجود» فحسب، بل يقدم للمعرفة العلمية منهجا يتمثل في الموازنة بين الشك الدائم والسعي نحو يقينيّات برهانية.

إن العلم الحديث نقدي بالضرورة، فهو يولّد معارف تتطور باستمرار، حيث تتبع المعرفة حركة تراكمية. ولهذا السبب اعتنق فلاسفة القرن الثامن عشر فكرة التقدم بحماسة. ارتأى الموسوعي جون دالومبير (Jean d’Alembert) أن التقدم لا يعني أنه يكفي السماح للعلم والتكنولوجيا بالتطور لكي يتحسن الوضع البشري. فالإنسانية وفقا له تتقدم فقط من خلال جهد متجدد للعقل النقدي، ويمكننا تحسين الأمور فقط من خلال التجديف عكس تيار نزوعنا نحو الهمجية. وبالتأكيد لن يحصل هذا التحسن دفعة واحدة، وإنما بشكل تدريجي. لذا فإن فكرة التقدم ليست بهذه السذاجة كما نعتقد. تعبّر هذه الفكرة بالنسبة إلى جون جاك روسو أو ديفيد هيوم أو إيمانويل كانط، عن نضال فلسفي وعلمي وسياسي في الوقت نفسه. إنها وعد العقل النقدي ومِهمازه، وهي منبع الحرية والحقيقة على حدّ سواء.

غير أنه ومع توغّل البشرية في العصر الصناعي انتصرت الآلة، وانفصل التقدم التقني بلا شك عن رفاهية الإنسان. إن خيبة أمل مفكر مثل كارل ماركس تكشف عن الفشل الجزئي على الأقل لمشروع الأنوار، فقد لاحظ ماركس بمرارة كيف أن اليقظة الفكرية لا تكفي لوحدها من أجل جعل البشرية تتطور في الاتجاه الصحيح. ولا بد من أخذ علاقات الإنتاج بعين الاعتبار، أي التبادلات المادية التي تحدّد المجتمع. ومن خلال وصفه للطريقة الحاذقة التي يضع بها الرأسماليون أيديهم على جزءٍ من القيمة التي ينتجها العمال، سلّط ماركس الضوء على الحركات الاجتماعية ورهاناتها التي تدور حول وسائل الإنتاج. وقد أعطى هذا للعقل النقدي بُعدا اجتماعيا جديدا؛ لأن ماركس لم يشجع فقط على اليقظة تجاه أفعال الدولة، وإنما طالب المجتمع بتغيير شكل تنظيمه بشكل جذري.

من المؤسف أنه لا الثورات ولا تحذيرات الفلاسفة مثل تيودور أدورنو (Theodor Adorno) وماكس هوركايمر (Max Horkheimer) ضد التطورات التكنولوجية أفلحت في تجنيب البشرية حربين من الحر وب الوحشية في القرن العشرين. وفي خمسينيات القرن الماضي، قامت حنة أرنت (Hannah Arendt)، مسلّحة بدروس الحرب وفظاعات النازية، بالتشديد على ضرورة جعل جميع طبقات المجتمع - وليس النخب فقط - تمارس التفكير. وبالنسبة إليها، فتحويل البشر إلى آلات يُفضي دائما إلى الأسوأ. وعبثا حاول العقل النقدي أن يكبح من تطور نمط الحياة الاستهلاكي، السامّ لكل من البشر (التبغ، الكحول، السكر...) والبيئة (إزالة الغابات، وسائل النقل المستهلكة للطاقة بشكل كثيف، تكاثر النفايات...). يقول غي دوبور (Guy Debord) في كتاب «مجتمع الاستعراض» (1967) وجون بودريار (Jean Baudrillard) في كتاب «مجتمع الاستهلاك» (1970)، إن الممارسة الاجتماعية للعقل النقدي قد تم استيعابها الآن داخل الرأسمالية. وأصبحت مؤلفاتهم منتجات توزعها صناعة الكتاب على قرّاء سعيدين بتثقيف أنفسهم خلال الفاصل بين فيلمين هوليوديين.

نحو عقل نقدي جديد؟

أين نحن اليوم؟ يبدو أن نساء ورجال القرن الحادي والعشرين يَعون أكثر من أي وقت مضى أن السلطة هي واقع متعدد وغير مركزي، كما علّمنا الفيلسوف ميشيل فوكو، ولا سيما في كتابه «تاريخ الجنسانية» (1976). وفي حين أن قضايا مثل وضع المرأة، والعنصرية، والفوارق الاقتصادية، وكذلك ظاهرة الاحتباس الحراري وتراجع التنوع البيولوجي، تتطلب جميعها اهتمامنا أيضا، تؤدي الثورة الرقمية إلى تكاثر الخطابات، ويطرح الذكاء الاصطناعي مخاوف بشأن إمكانية صناعة محتويات ذات مصداقية، على الرغم من افتقارها إلى أي تفكير نقدي.

وأمام مثل هذه التحديات، لم تعد وظيفة العقل النقدي الآن تقتصر على مكافحة الأكاذيب والبداهات الزائفة فحسب، بل وأيضا حماية الأفراد والمؤسسات من أنفسهم. يقتضي ذلك التشكيك في جوانب التجربة الإنسانية التي لم تكن في السابق موضوعا للنقد. يشجع العقل النقدي اليوم أشكالا من الوعي تقدر على تحويل عواطفنا وإدراكاتنا. وعلى هذا النحو تقوم عالمة الاجتماع إيفا إيلوز (Eva Illouz)، على سبيل المثال، بفحص عواطفنا الأكثر حميمية وأظهرت بذلك أن بعض السلط تحفز انفعالات معينة من أجل توجيه اللعبة السياسية «العواطف ضد الديمقراطية، 2022).

ويوضح الألماني هارتموت روزا (Hartmut Rosa) من جانبه، كيف يشكّل إيقاع حياتنا هجوما على قدراتنا النقدية («تسارع»، 2010). وكجواب على ذلك، يسلّط الضوء على الشروط اللازمة لكي تجعلنا علاقتنا بالزمن قادرين من جديد على الانفتاح على ردود الفعل غير المتوقعة للعالم («رنين»، 2018). وأخيرا، في كتابه «أين أنا؟» (2021)، ينتقد عالم الاجتماع برونو لاتور (Résonance) تصوراتنا حول أجسادنا الفردية، ويشجعنا على إدراك أنفسنا بشكل مختلف، كأعضاء في كيان أرضي ممتد.

استكشاف الإمكانيات البديلة

لم تعد الأشكال المعاصرة للعقل النقدي تعني طريقةً في التفكير فحسب، وإنما أيضا موقفا يدفع القلب والجسد نحو إمكانيات بديلة لتلك التي يتم تقديمها لنا باعتبارها بداهات - سواء لكونها «طبيعية»، أو لأنها تمثل «تقدّما» مرتبطا بالتكنولوجيا. إن العقل النقدي الجديد، الذي يتّسم باعتماد مقاربة بمضامين فكرية أقل، لم يعد شكله يقتصر على الإدانة فقط، بل يتعلق الأمر أيضا باستكشاف. إنه يسعى إلى جعل ما لم يُدرك محسوسا، وإلى مشاركة العواطف (الأفراح والغضب)، وباختصار إلى تنسيق التبادلات الحية، على أمل تصحيح مستقبل العالم. وبهذه الطريقة، فهو يشجع دائما استقلالية الفكر وحرية الضمير أو الكفاح ضد الاستغلال، لكنه ينقل أيضا القلوب والأجساد والكوكب بأكمله نحو بذل جهد أوسع من أجل التحرر.

مكسيم روفير كاتب وفيلسوف فرنسي

عن مجلة علوم إنسانية