يمعنُ النظر في الطريقة التي يُثار بها موضوع الكتابة التاريخية في عُمان، وفي المرجعية التي تقف خلف الاتهام الجاهز بغياب حركة كتابة التاريخ أو تأخر تشكل المؤرخ، ولذا فهو يجد أنّ السؤال الأجدر بالنقاش، ليس عن سبب غيابها بل عن طبيعة الكتابة وأساليبها، وعمّا استحوذ على السردية التاريخية وما هُمش منها، فقد مرّت الكتابة التاريخية بعدة مراحل ومسارات وأطوار، ولكل مرحلة سماتها وخصائصها ورجالها وشخوصها، ولذا من الصعب جدًا اختزال كل المراحل في حُكم واحد.

من جهة أخرى لا ينفي الباحثُ أنّ الكتابات في القديم كانت لا تتجاوز الجانب الإخباري والقصصي، كسرد الحروب والإخبار عن الملوك والأئمة، فقد أكد غير مرّة أنّ التاريخ مهنة سياسية مرتبطة بالدولة، ولذا فغياب التدوين في بعض الحقب الزمنية يرجع لغياب السلطة السياسية الفاعلة.

ويرى أنّ الخزائن العُمانية لا تعدم النصوص التي يُمكن أن تُشكل رافدًا مهمّا لتطوير كتابة تاريخية ترصد حركة المجتمع والعمران البشري في عُمان، فهناك عشرات الآلاف من السجلات والنصوص التي يمكن أن تُحلل، لاستقراء الأفكار والذهنيات، والتحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت عبر مختلف الأزمنة والعصور. إذ يمكن لهذه الوثائق أن تجعل الأصوات المقموعة تتحدث.

وهو ليس من أنصار تقديس المعرفة الاستعمارية في عُمان، ويرى أنّه آن أوان الانتباه للإشكال الذي قد تُسببه النصوص الأجنبية، لأن هذا الإرث المعرفي ليس إرثنا ولا تاريخنا، ولا صوتنا الذي نُعبر من خلاله عن ذاتنا وشؤوننا وشجوننا، إذ إننا في تلك المعرفة موضوع للمصالح الأجنبية ولسنا ذاتا مستقلة.

نفتحُ أفق الحوار مع الباحث ناصر السعدي، أستاذ التاريخ والثقافة بكرسي اليونسكو لدراسات الأفلاج، جامعة نزوى، حول مسائل شتى تتعلق بتدوين سردية التاريخ في عُمان. صدر للباحث عدد من الأبحاث والكتب نذكر منها: «العلماء والسلطة في عُمان: 1749-1913م»، «الأوروبيون في مدونات التراث العُماني 1498-1950م». ومن أهم مقالاته: «المعرفة الاستعمارية البريطانية للحالة العُمانية: المقاربات والتوظيف السياسي 1798-1970م»، «نُسخ الأفلاج في عُمان ونظائرها».

• كثيرا ما يتردد بين الأوساط العامّة والمثقفة في عُمان حديث عن غياب حركة كتابة التاريخ في فترات شديدة الخصوصية من أزمانها المنفتحة والمنغلقة على حد سواء؟

في البداية، اتفق معكِ أنّ هناك بعض الأصوات التي تظهر بين الحين والآخر تدعي غياب الكتابة التاريخية في عُمان. وقد أطلق مثل هذا القول على مسامعي مرّات عديدة، وفي كل مرة أحاول إمعان النظر في الطريقة التي يناقش بها تاريخ الكتابة التاريخية في عُمان، وفي المرجعية التي تقف خلف مثل هذا الادعاء أو الاتهام، والتأمل كذلك في مصداقية هذا التساؤل، ولذا أجد أنّه من الجيد طرحه للمساءلة والنقاش هنا. في الواقع هذا الطرح وبهذه الصيغة من التعميم الذي يفتقر إلى الدقة والأصالة العلمية، ويبدو لي أنّه عبارة عن فكرة مُتخيلة تسكن في أذهان البعض أو عبارة عن اتهام متخيل أكثر مما له تمثل في الواقع الحقيقي. لا بد من وضع إطار زمني لمناقشة هذه القضية، لأنّ كتابة التاريخ في زمان الناس هذا ليس مثلها تمامًا قبل سبعين سنة أو أكثر، بل إن ما كتب في القرن التاسع عشر الميلادي من مؤلفات تاريخية مختلفة عمّا كتب في النصف الأول من القرن العشرين، بل ويختلف عمّا كُتب في الثلث الأخير من القرن العشرين. هذا يعني أنّ مثل هذا الاتهام بحاجة أولا إلى تفكيك وتحرير: ما المقصود بغياب كتابة التاريخ العماني؟ هل الغياب بشكل عام؟ وهل يطال كل القرون والمراحل الزمنية؟ أم أنّ الغياب يكمن في تنوع أشكال وألوان كتابة التاريخ؟ والأمر الآخر في هذا الاتهام: من يقف وراء هذا الرأي؟ هل هو نابع من قراءة تأصيلية لواقع الكتابة التاريخية في عُمان؟ أم مجرد انطباع عابر؟ شخصيا حتى الآن لا أعلم إذا ما كانت مقولة (غياب الكتابة التاريخية في عمان) صدرت من باحث في الشأن التاريخي أو من باحث متابع جيد لتاريخ المعرفة في عمان. فالكتابة التاريخية كنشاط معرفي ليست غائبة تماما، وقد يتمثل الغياب في تنوع جوانب الكتابة التاريخية وأشكالها وألوانها. ولعل السؤال الذي يستحق البحث والقراءة هو طبيعة الكتابة التاريخية وأساليبها، بأي شكل كُتب التاريخ، ومن كتبه، وما الزوايا التي تمّ التركيز عليها، وما هي الجوانب المُهملة والمُهمشة في الكتابة التاريخية في عُمان؟

قبل عام 1970م، يكاد يكون لا وجود لنص تاريخي يؤرخ لعُمان خارج إطار السلطة، حتى تاريخ أهل العلم في عُمان، أو ما يعرف بالتراجم، يكاد يكون غائبا، وإن حضروا في كتب التاريخ لم يحضروا لذاتهم، إنّما لكونهم جزءا من السلطة.

•هل تشكل لدينا اليوم مشروع «المؤرخ»، الذي يمتلكُ ناصية البحث والتحليل، والقدرة على الاحتماء بالسرد المنهجي، الذي يجعله يقف على مسافة آمنة من الماضي، كيلا يقع في مغبة التحيز؟

أعتقد من الناحية الفنية أنّ من كتب ويكتب التاريخ هو مؤرخ، بغض النظر عن طبيعة كتاباته ومضمونها. وقد عرفت عُمان بعض المؤرخين منذ القرن السادس الهجري، فسلمة بن مسلم العوتبي صاحب كتاب «الأنساب» مؤرخ، وابن مداد صاحب «سيرة ابن مداد» مؤرخ، وابن قيصر صاحب «سيرة ابن قيصر» مؤرخ، وسرحان بن سعيد الأزكوي صاحب كتاب «كشف الغمة» مؤرخ، وكل من ترك أثرا أو مارس شكلا من أشكال التوثيق والبحث والتنقيب المعرفي يصح من وجهة نظري أن يطلق عليه مؤرخ. الشاهد من هذا الكلام أنّ الكتابة التاريخية في عُمان مرت بمراحل ومسارات وأطوار، ولكل مرحلة سماتها وخصائصها ورجالها وشخوصها، ولكل مرحلة أيضا أساليبها وأشكالها واتجاهاتها. ومن الصعب جدًا اختزال كل المراحل في قالب واحد، والأصعب من ذلك أيضا إطلاق أحكام عامّة.

•إذا افترضنا جدلا أنّ عُمان عرفت الكثير من المؤرخين، وأنّ التاريخ قد كُتب حقا، فهل نستطيع القول بأنّ تلك الكتابات قد تجاوزت الشكل البدائي لتتخذ شكلا علميا منهجيا؟

تأخر تبلور مفهوم التاريخ عند العرب عامّة وليس عند العُمانيين وحسب، ومحاولة تأصيل مفهوم التاريخ في التراث العُماني ظهرت عند سالم بن حمود السيابي، ولكن بشكل عابر، وهو من المؤرخين المتأخرين، وقد ضمّن كتابه المعنون بـ «عُمان عبر التاريخ» مقدمة حملت العنوان التالي «في علم التاريخ وفوائده وحكمته وأصوله التي يقوم عليها». المفهوم الذي قدمه السيابي في هذا الباب لا يتجاوز الجانب الإخباري والقصصي والسردي، أي سرد الحروب وأخبار الملوك والأئمة، ولم ينقل مفهوم التاريخ إلى فضاء أوسع، مع أنّه يعدّ خاتمة المؤرخين التقليديين، وجاء بعد أن عرفت عُمان خمسة مؤرخين تركوا أثرا في مجال التدوين التاريخي. إضافة إلى ذلك، فإنّه أيضا كتب تلك المقدمة في حقبة زمنية قد تجذر فيها مفهوم التاريخ، وقرأ مقدمة ابن خلدون ونقل منها بعض النصوص، ولكن دون أن يُدرك الوعي السُّنني للتاريخ، وبعبارة أخرى ذهل عن قانون تبدل الأحوال بتعبير ابن خلدون.

•كيف تجلى مفهوم كتابة التاريخ عند الذين عقبوا سالم بن حمود السيابي من المؤرخين العُمانيين؟ هل تجاوزا الإخبار والسرد؟

لم يخرجوا عن ذات الإطار الذي رسم أبعاده السيابي. باعتباره تاريخ المناقب وسير الفضلاء

والصالحين، وتاريخ الفضائل من الملوك، وما تركوه من مفاخر وآثار وفضائل، وليس تاريخا للفئات الهامشية، أو تاريخ الأراذل بتعبير المؤرخ ابن رزيق. لذلك فهو تاريخ مناقبي، ومنهج المؤرخ قصصي وعظي، وليس علما يمكن دراسته وتمحيصه ومعرفة القوانين التي تتحكم في سير الأحداث، ويتجلى هذا المفهوم للتاريخ في مقدمات المدونات العُمانية التاريخية، فالتدوين التاريخي يهدف إلى تعليم القارئ وتثقيف الناس بالحقائق الروحية العارضة بتعبير سالم بن حمود السيابي.

•هل يمكننا أن نعد كتابة التاريخ في عُمان شكلا من أشكال الحماية للذاكرة الاجتماعية والثقافية خوفا من تلاشيها أكثر منه منهجا علميا رصينا تراكميا؟

التاريخ عبارة عن ذاكرة، ووظيفة المؤرخ هي سرد الذاكرة الاجتماعية والثقافية وحمايتها، فكتاب الأنساب مثلا ظهر في القرن السادس الهجري، ومؤلفه من أهل صحار، وكانت هويته العربية مهددة حينها، وهذا التهديد أشار إليه المقدسي في أحسن التقاسيم، لذلك ظهر كتاب الأنساب في سياق التهديد الاجتماعي والثقافي. وذات القلق على الهوية يتضح في سبب تأليف الأزكوي كتابه «كشف الغمة»، فيقول عن السبب الذي دعاه إلى التأليف إنّه لما رأى أكثر أهل زمانه قد غفلوا عن أصل مذهبهم الشريف، وأقبلوا على أئمة المذهب بالتعنيف والتعسيف». وحتى لو لم تكن الذاكرة وحماية الذات هي الدافع، فقد يكون الهدف بناء سردية التشكل السياسي للأسر والسلالات الحاكمة، وهذا واضح في مدونات ابن قيصر، والسالمي، وابن رزيق، ويمكننا العودة إليها لتتضح الصورة، فقد ذكر ابن رزيق ذلك صراحة، حين طُلب منه أن يكتب سيرة الإمام أحمد وحدود مملكته وأولاده. أما السالمي الذي أعقب ابن رزيق فهو الآخر ينطلق من ذات التوجه، فالغاية لديه من التاريخ الوقوف على آثار أئمة الهدى ليقتدي الطالب بأثرهم. ومع ذلك، فإن حماية الذات من الاندثار، ودور المؤرخ في صناعة سردية اجتماعية وثقافية وسياسية للذات التي ينتمي إليها ليس بدعة، إنّهم جزء من بيئة ثقافية نظرت إلى التاريخ بهذه النظرة منذ زمن طويل وحتى عصرنا هذا.

•يُقال أنّ اهتمام النخب المثقفة بالفقه

والدين دفعهم لإهمال كتابة التاريخ؟

لا ينبغي أن نضع الاهتمام بالتاريخ في كفة مقابلة للفقه، فالفقه هو النظام التشريعي للمجتمع، والمنظم للتدافع الاجتماعي والسياسي، وضابط حركة المجتمع تاريخيا، فقد يكون بمقدور الناس أن يعيشوا بدون مؤرخ، ولكنهم قطعا لا يستطيعون العيش بدون فقيه، ولو قرأ أصحاب هذه المقارنة كتاب وائل حلاق «الدولة المستحيلة» لعلموا أنّ دور الفقهاء في المجتمع الإسلامي لا يمكن مقارنته بأي دور آخر. ولكن رغم وجود بعض الأدبيات التاريخية التي وصلت إلينا، لا بد من الاعتراف بأن هناك ضعفا في الاهتمام بالتاريخ كعلم، أو حتى التاريخ كخبر، وهذا يعني أنه ينبغي البحث عن أسباب ضعف الاهتمام بالتدوين التاريخي. وهذه القضية ليست من القضايا الناشئة حديثا في الثقافة العُمانية، فقد أثارها المؤرخون أنفسهم، وتحديدا نور الدين السالمي، ولكن التبرير الذي قدمه لم يكن منطقيا من وجهة نظري، بل إن الكثير من الأسباب التي طرحت في هذه المسألة، لا تبدو دقيقة تماما، فما قاله السالمي بشأن عدم اهتمام أهل عُمان بالتاريخ، باعتبار أنّ السياسة وإقامة العدل كانت شغلهم الشاغل، هي مقولة تحتاج إلى إعادة نظر، رغم أننا لا ننكر أنّ التاريخ في عُمان كان ملازما للسياسة وليس منفصلا عنها. وهنالك بعض الباحثين المعاصرين الذين حاولوا إيجاد تفسير لهذه المسألة، إلا أن مبرراتهم وتحليلاتهم للمسألة تفتقر أيضا إلى الدقة والعمق. بل يمكن وصفها بأنها تفسيرات سطحية أحيانا كثيرة. منهم من يلقي اللوم على الفقهاء؛ لأنّهم اهتموا بكتابة تاريخ الأئمة، فالحقب التاريخية التي غاب فيها التدوين التاريخي للأحداث والوقائع غاب حتى عن الأئمة والسلاطين أيضا.

•هل يمكننا إرجاع ضعف كتابة التاريخ

لأسباب سياسية أو لرغبة الفقهاء في إخفاء تاريخ السلاطين؟

نعم قد يكون السبب سياسيا، ولكنه ليس كما يقال تعمد الفقهاء إخفاء تاريخ السلاطين، بل غياب الدولة منذ القرن الثالث الهجري حتى قيام دولة اليعاربة هو السبب، هذا السبب الرئيس وليس غيره، والدليل عندما يظهر نظام سياسي تظهر المدونات التاريخية، والشاهد على ذلك، أنه منذ قيام دولة اليعاربة لا يوجد قرن دون أن يظهر مؤرخ، لماذا؟ لأن التاريخ مهنة سياسية، ومرتبطة بالدولة، على الأقل في التاريخ العُماني، وضرورة لتشكل بنيتها السياسية؛ لأنّ السلطة هي من تدفع الكُتاب إلى تدوين التاريخ بشكل صريح أو ضمني، لذلك لم ينقطع تدوين التاريخ السياسي حتى بعد انتهاء دولة اليعاربة، وتحول السلطة من إمامة إلى سلطنة. من وجهة نظري، فإن أحد أهم أسباب غياب تدوين التاريخ العُماني في بعض الحقب الزمنية هو غياب سلطة سياسية فاعلة. إن تراجع المعرفة بجميع أشكالها، بما في ذلك كتابة التاريخ، يعد انعكاسا لتدهور الأوضاع السياسية وعدم وجود دولة جامعة. على سبيل المثال، منذ القرن الثالث الهجري غابت الدولة الجامعة، وتناثرت الإمارات القبلية حتى ظهور اليعاربة، ومع غياب مظاهر أشكال الدولة يغيب التدوين التاريخي في عُمان، وعندما تعود الدولة تظهر المدونات التاريخية.

•في سياق حديثنا، أنت تؤكد على أنّ الكتابة التاريخية لم تكن لتنفصل عن السياسة أو السلطة عموما في عُمان، الأمر الذي يدفعني لسؤالك حول المنهج الذي تمّ اتباعه، والسمات العامّة التي اتسمت بها تلك المرحلة؟

أغلب من مارس حرفة الكتابة التاريخية في عُمان، هو مرتبط بالسلطة أيّا كانت طبيعة السلطة، ابن قيصر، الأزكوي، ابن رزيق، السالمي، وغيرهم. ومع أنّ مناهجهم احتكمت للميول السياسية والخلفيات الثقافية التي أتوا منها، إلا أنّ هناك خيطا يربط بينهم، وهو الحفاظ على هوية عُمان، وتكوينها الاجتماعي والثقافي والسياسي، فالعوتبي تكفل بتوثيق التشكل الاجتماعي، وهذا ما أشار إليه صراحة في مقدمة كتاب الأنساب، بينما تكفل الأزكوي بالتشكل الديني لعُمان، وهذا ما أشار إليه صراحة في مقدمة كتابه، أما السالمي، فكتب التاريخ ليكون جزءا من مشروعه السياسي الذي شغل كل تفكيره. وابن رزيق الذي جاء في القرن التاسع عشر الميلادي، لم يخرج عن هذه الدائرة، فهو الآخر ينتمي إلى مشروع سياسي، وكان مقربا من السلطة، فكان توثيق هذا المشروع هدفا لنخبته الثقافية. هؤلاء المؤرخون تجمعهم القبيلة، والسلطة، والهوية الدينية، بمعنى تاريخ السلطة، وهم المتحدثون بالنيابة عنها، ولو تأملنا سيرة ابن قيصر، فهو يسرد لنا تمكين دولة الإمام ناصر بن مرشد، وابن رزيق لا يسرد إلا تاريخ الوقائع والحروب، فالإنسان غائب عن سرديتهم، فلا صوت ينطق إلا صوت السلطة، ومن كتب تاريخ الإمامة كتب تاريخ الشرعية السياسية، وتاريخ تطبيق الحدود، والكرامات، ومن أرخ للسلاطين، وثق الانقلابات والحروب والتحالفات السياسية.

•هل حظيت الكتابة التاريخية -ولو في هامش ضئيل- بتنوع وازدهار خارج مركزية السلطة،

أم أنّ السلطة نجحت في جعل كل ما سواها نسيا منسيا؟

شاعت المركزية في الكتابة التاريخية العُمانية، سواء كان المركز هنا جغرافيا أو مجالاً أو إنسانا، بينما لا تجد تاريخا للهامش، وإن وجد فهو موضوعا للسلطة فقط وليس تاريخا للإنسان. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّ التاريخ هو تاريخ الحاكم وإذا غاب يغيب التاريخ.

•منذ بداية حديثنا ونحن نتحدثُ عن «السلطة».. وأجد أنّه كثيرا ما يثار هذا السؤال: حول إن كانت متمثلة في السلطة السياسية للسلاطين أم السلطة الدينية المتمثلة في الأئمة؟

مثل هذا السؤال كثيرا ما يطرح، ويتم طرحه في مجالس السمر وبعض عرصات الفكر، ولكنه طرح مرتجل، ولم يحرر بأسلوب نقدي رصين. ويبدو أنّ مثل هذا الطرح هو أقرب للطرح الأيديولوجي، الذي يحاول أن يرسم حدودا لأشكال السلطة في التاريخ العُماني، فالسلطة واحدة سواء كان من يُمثلها يحمل مسمى إمام أو سلطان، والألقاب والمسميات لا تغير من جوهر السلطة، فلا أعلم لمَ هذا التنازع حول تاريخ سلطة دون الأخرى؟ السلطة واحدة ومناهجها واحدة، وإثارة هذا النوع من الأسئلة، واختلاف الباحثين والدارسين حول نصاب هذا الحاكم أو ذاك من الصفحات، هو نقاش يستبطن بعدا أيديولوجيا. ينبغي أن يتحول النقاش إلى وجهة أخرى، وما وصلنا عن الإمامة والسلاطين من تاريخ فهو يقع في خانة واحدة، ولا أرى الخلاف حول من نال أكثر أو أقل يمكن أن يقدم فائدة معرفية؛ لأنّ هناك أسئلة أخرى يجب أن تطرح، وجوانب أخرى يجب أن يُلام عليها المؤرخون العُمانيون؟ ليس من ضمنها تاريخ الأئمة أو السلاطين.

•سأسألك من حيث انتهيت، فإن لم يكن شاغلنا «السلطة» وتمثلاتها، فما الذي ينبغي أن ينشغل به المدون والباحث في التاريخ العُماني؟

التاريخ العُماني وإن كان قد عانى من قلة تدوين التاريخ في حقب زمنية معينة، فلا أعتقد أنّ هنالك إشكالية في المصادر بشكل عام، ويمكن تجديد الكتابة التاريخية في عُمان، واستخدام مناهج عابرة للتخصصات، فالخزائن العُمانية مليئة بالنصوص التي يُمكن أن تُشكل رافدا مهما لتطوير كتابة تاريخية ترصد حركة العمران البشري في عُمان، فهناك عشرات الآلاف من السجلات والنصوص التي ترصد حركة المجتمع العماني، منها على سبيل المثال كتب الجوابات والمسائل الفقهية، وهي مصادر مهمة جدا ويمكن أن تُفيد في كتابة تاريخ الفئات الهامشية (العمال، الملابس، الفنون، المأكولات،...الخ) وفي نفس الوقت هذه المصادر مُهمة لكتابة تاريخ الأفكار والذهنيات، والتحولات الاجتماعية والثقافية التي طرأت على المجتمع العماني عبر مختلف الأزمنة والعصور. والخزائن العُمانية أيضا تحتوي على كم هائل من الوثائق، وكما تقول المدرسة الوضعانية: «لا تاريخ بدون الوثيقة». وجزءا من هذه الوثائق يمكن أن تجعل الأصوات المقموعة تتحدث، على سبيل المثال المكتبة العُمانية تضم بين جنباتها مئات الوثائق النسائية التي يمكن أن تجعل النساء في تاريخ عُمان تتكلم.

•دوّن الآخر.. أعني المستعمر تاريخنا،

لكنه استعمل معرفته في وقت ما كوسيلة من وسائل الهيمنة، فهل كان تدوينا مُشبعا بأيديولوجيا المستعمر؟

إن الدول الاستعمارية بما خلفته من تراث معرفي، صنعت لنفسها مكانا في تاريخنا، ونحن نستشيرها كل يوم تقريبا عندما نكتب تاريخنا، وليس هذا فحسب، إنّما أصبح الكثير من الباحثين يستأنس برأي المعرفة الأجنبية، وهذا إشكال كبير جدا، وأعتقد أنّ هذا التقديس للمعرفة الاستعمارية في عُمان سببه وقوع هؤلاء تحت تأثير الكم الهائل من المعرفة التي خلفتها بريطانيا وراءها، فالذي نشر قبل أكثر من ثلاثة عقود من المعرفة البريطانية يبلغ حوالي أكثر من (60) ألف صفحة. وحان الوقت للانتباه للإشكال الذي قد تسببه النصوص الأجنبية؛ لأن هذا الإرث المعرفي ليس إرثنا ولا تاريخنا، ولا صوتنا الذي نُعبر من خلاله عن ذاتنا وشؤوننا وشجوننا، فهو تاريخ المصالح الأجنبية في بلادنا، فهو يخصهم هم، ولا يمت إلينا بصلة؛ لأننا في تلك المعرفة نحن عبارة عن موضوع للمصالح الأجنبية وليس ذاتا مستقلة. وفي هذا المقام أود الإشارة إلى بعض المحاولات التي قمنا بها من أجل تفكيك بنية المعرفة البريطانية تحديدا، فالأولى بعنوان «الترجمة البريطانية للنصوص العُمانية: جسور للتعارف أم أداة للهيمنة». والدراسة الثانية المعرفة الاستعمارية البريطانية للحالة العمانية». ولا أشير لهذه الدراسات تزكية لها، إنّما هي محاولات في مجال ينتظر الكثير من النقاش والتداول المعرفي.

•لقد تحدثنا عن الكتابة غير المنهجية، ولكننا نرغب في الاقتراب أكثر من الكتابة المنهجية المُعمقة ومن التحليل الجاد الذي انتهجه الباحثون الجدد في أوقاتنا المعاصرة؟ فهل يمكن الرهان عليها؟

في الواقع تأخرت الكتابة التاريخية العُمانية بالاعتماد على المنهج الأكاديمي، وأول أطروحة أكاديمية في تخصص التاريخ أنجزت في مؤسسة محلية كانت في عام 2006م، وتحديدا في قسم التاريخ، بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس. ولكن قبل عام 2006م ظهرت بعض المحاولات على يد باحثين عُمانيين وعرب، أنجزت في أقسام بعض الجامعات العربية. وتقييم هذه الأطروحات ومستواها ومناهجها ومجالاتها بحاجة إلى دراسة مستفيضة، ولكن كانت لنا محاولة بسيطة، جمعنا من خلالها عينة لحوالي (150) أطروحة علمية، أنجز منها (107) أطروحات على يد باحثين عُمانيين، منها (11) أطروحة أنجزت بين عامي 1986- 2006م، وهذا يعني أن البحث الأكاديمي في مجال التاريخ لم ينطلق انطلاقة حقيقة إلا بعد إقرار برنامج الماجستير والدكتوراه في قسم التاريخ بجامعة السلطان قابوس. وبالرغم من أنّ الرقم يبدو متواضعا بالمقارنة ببلد بحجم عُمان -تتوفر له إمكانيات كبيرة لتطور الكتابة التاريخية- إلا أنّ المعطيات الإحصائية تشير إلى وجود رغبة حقيقية تهدف إلى تنويع مجالات البحث التاريخي ومناهجه وأساليبه، ولكن الملفت للنظر في العينة الإحصائية المذكورة إحجام الباحثات العُمانيات عن كتابة تاريخ المرأة، فمثلا عدد الأطروحات التي أنجزتها الباحثات حوالي (31) أطروحة، لا يوجد بينها أطروحة تدرس تاريخ المرأة العُمانية، إذ يهيمن التاريخ السياسي والاقتصادي على طبيعة أطروحاتهن.

•خارج أقسام التاريخ الجامعية، هل تشكلت لدينا خامات جيدة من الشباب الذين يملكون القدرة على تحليل الخطاب التاريخي ضمن سياق التحولات التي نشهدها الآن؟

نعم، هناك باحثون لا ينتمون إلى الحقل الأكاديمي، ولم ينجزوا أطروحاتهم في أقسام التاريخ الأكاديمي، ولكن لهم نشاط واسع، ومحاولات جادة ورصينة. ومن وجهة نظري رواد كتابة تاريخ العلوم والمعارف في عُمان، هم سلطان الشيباني، وفهد السعدي، ومحمد العيسري. وهنالك أيضا محاولات من باحثين مستقلين لإعادة تشكيل البنية الجغرافية والاجتماعية للكتابة التاريخية، بعد أن كانت تقتصر على تاريخ المراكز مثل صحار، ونزوى، ومسقط، ففي العقود الأخيرة بدأنا نرى بعض المؤلفات التي ترصد تاريخ القرى والبلدان والتجمعات البشرية التي لم يكن لها وجود في الكتابات التاريخية سابقا. ومهما كانت دوافع هذا النوع من الكتابات، فهي في غاية الأهمية؛ لأنّها تجعل القرية التي تقع في أطراف عُمان تتحدث وتعبر عن ذاتها، وتحكي دورها في حركة العمران البشري في عُمان.

•أشرت في أحد حواراتك: «ينبغي على الباحث في الذاكرة العُمانية أن يكون مُدركًا لطبيعة البيئة والثقافة العُمانية، والمحرّكات التي تتحكم في سيرورة وحركة المجتمع العُماني تاريخيًا».. ماذا أيضا عن الحرية؟ هل تتوفر الحرية الكافية لفتح ملفات شائكة في التاريخ العُماني؟

إذا نظرنا إلى مفهوم الحرية من زاوية إجرائية، فنعم هناك هامش من الحرية، على الأقل ظاهريا، ولكن من الناحية الواقعية، علينا أن نتساءل: هل يشعر الباحث بالأمان في مناقشة قضية تاريخية بحرية تامة؟ لا أعتقد ذلك، ليس لأنّ كتابة التاريخ العُماني تفتقر إلى التشريع القانوني، بل هناك اعتبارات لا يمكن لأي باحث في التاريخ أن يتجاهلها أو يتخلص منها. وكما قلتُ من قبل، ما زلنا ننظر إلى التاريخ كجزء من هويتنا وذاكرتنا الاجتماعية والثقافية، وأي توجه حر قد يعني في نظر البعض انتهاكا وخدشا لتلك الذاكرة والهوية.

•التحولات التي تعصف بالحياة اليوم، الرقميات والذكاء الاصطناعي، هل ستقلل من حاجة الأجيال القادمة لمعرفة تاريخهم؟ وهل يمكن لهذا التاريخ أن يتلبس لبوس الحداثة وأن يتبدى عبرها؟

إن التغيرات والتحولات التي تحدث في أي مجتمع، بما في ذلك المجتمع العُماني، قد تسهم بشكل أو بآخر في تغيير بعض الأفكار والرؤى. ومع ذلك، لا أعتقد أنّ التطورات التقنية أو الثقافية قادرة تماما على إحداث قطيعة بين الفرد وتاريخه؛ لأنّ الإنسان بشكل عام ينظر إلى التاريخ باعتباره الملاذ الذي يلجأ إليه، خاصة إذا أنهكته الظروف الاقتصادية والسياسية والثقافية، فتراه يهرب إلى الماضي ليبحث عن أمل ينسيه آلام الحاضر.