في المنطلق، نسأل الله الرحمة والمغفرة لأرواح الشهداء في غزة إزاء العدوان الغاشم عليهم، وحصاد الأرواح الذي يتحدث على مدار الدقيقة في ساحتهم. فالدعوات لهم بالثبات والنصرة واللطف. لا شك أن ما حدث بتاريخ 7 أكتوبر 2023 لهو منعطف مهم في صيرورة العالم المعاصر؛ سواء على مستوى إعادة أحياء الوجدان العالمي إزاء القضية الفلسطينية، والتنبه إلى البطش والمآسي الإنسانية التي يسببها الكيان المحتل وداعموه، أو فيما يرتبط بمنطق التحالفات السياسية، وفكرة (من يصطف في صف من؟)، أو على مستوى إعادة تشكيل الضغوط على الاقتصادات العالمية، وإعادة حالة عدم اليقين إلى قلب الاقتصاد العالمي، وكذلك فيما يرتبط بعدم وضح السيناريوهات التي ستؤول إليها الأحداث الجارية في غزة؛ بين مرجح لاتساع رقعة الصراع إقليميًا وعالميًا.

بين ذلك كله يمكن القبض على لحظة مهمة؛ هي لحظة الوعي الشعبي العربي بامتياز، الوعي الذي اعتقد الكثير أنه تم تسطيحه وتغييبه وفق عدة عوامل ومتغيرات منها: إلحاحات المعيش اليومي، وخلق منظومات التفاهة الفكرية، وسيطرة القضايا العرضية على منظومة الوعي العام. إضافة إلى الانكفاء المطلق على الشأن الداخلي دون الشأن العربي. ولكن هذا الوعي فاجأ الجميع بأدوات جديدة، استطاع من خلالها القبض على السردية الإعلامية للكيان المحتل وأذرعها، واستطاع تفكيكها وإعادة بناء الحقيقة التاريخية والحقيقة على الأرض بأدواته وسطوته وسعة انتشاره. إن هذا الوعي في ذاته هو رافعة تضمن أن القضية الفلسطينية باستحقاقاتها التاريخية لهي قضية راسخة في الوجدان العربي - مهما تغيرت المعطيات المؤثرة على وعي الشعوب بها - والأجدر أن هذه اللحظة جاءت في سياق باتت فيه الكثير من الدول تحاول تهميش هذه القضية بمحاولة إدماج سردية الكيان في الوعي العربي وأنسنته والتقارب معه. لقد شكل الوعي العربي - على الأقل من خلال مساحات التواصل الاجتماعي - أداة فاعلة لتفكيك السردية العامة للصراع، ومن يتحكم في تلك السردية من خلال:

- تداول البشاعة التي يمارسها الكيان على الأرض والتنديد المستمر على مدار الدقيقة بها ومحاولة إيصالها إلى أكبر قدر من الشبكات العالمية.

- توحيد الفهم والشعارات والاتفاق على الحقيقة ومحاولة نظم (المقاومة الإعلامية) وفق سردية محددة وواضحة.

- الرد المباشر وتفكيك المغالطات التي تحاول بعض المؤسسات الإعلامية ترويجها وتوسيع انتشارها. في مقابل بناء سردية ضدية من أرض الواقع بالاستفادة من حالة الالتقاء الذي خلقته بعض القنوات الإعلامية العربية بين (الإعلام التقليدي والإعلام الحديث).

وفي مقابل ذلك فإن اللاعبين الإعلاميين (من القنوات الكبرى) في ترويج السردية العربية ما زال محدودًا. مقارنة بالحجم الكبير للآلة الإعلامية التي تساعد على ترويج السردية الإسرائيلية للصراع. وهذه المقارنة تكشفها الأحداث المتعلقة بالقضية الفلسطينية، وقضايا أخرى ترتبط بشأن المنطقة العربية عمومًا. منها على سبيل المثال محاولة إقحام وترويج شعارات «المثلية» في الأحداث الرياضية التي استضافتها المنطقة مؤخرًا، وكيف كانت هذه النوايا مصحوبة باشتغال موسع للآلات والأجندة الإعلامية المتعاضدة. إذن لا يمكن اليوم تجاهل دور وحجم الآلة الإعلامية وسعة تأثيرها في ترجيح سردية أي صراع؛ سواء كان على المستوى السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الثقافي أو غيرها من سرديات الصراع. ومن هنا فإن الجدال العقيم بين حاجتنا للإعلام التقليدي في مقابل الإعلام الجديد، أو حاجتنا للصحافة التقليدية في مقابل صحافة المواطن، أو الجدال في احتياج الأفراد للبرامج القصيرة، الموجزة، المقتضبة في مقابل الحوارات المعمقة والبرامج التحليلية كلها تتلاشى أمام مثل هذه الأحداث والمنعطفات. لنكتشف أننا في حاجة إلى إحياء كل أشكال الإعلام، وتوظيفها في إطار متكامل لخدمة السردية التي نريد تعميمها ونشرها وتمكين الآخر من الوصول لها، والأهم الإقناع بها.

غير أن الآلة الإعلامية في ذاتها أداة لا يمكن أن تكون فاعلة دونما وجود فاعلين لبناء السردية، ومن هنا نرى بضرورة إعادة التفكير في البرامج الأكاديمية لكليات الصحافة والإعلام، وتبني نظرية جديدة للإعلام في المنطقة تقوم على بناء سردية جديدة لـ «صوت المنطقة» فيما يتعلق برؤيتها للسلام العالمي، ومقارباتها للتنمية الدولية، ونبذها للعنف والتوحش وإعادة إحياء منطق التصفية والتهجير والبطش، ورؤيتها إزاء محددات مستديمة للتقارب العالمي. كما أن وسائل الإعلام المؤثرة اليوم لا يمكن أن تنفصل عن وجود مراكز فكر داعمة لها، تشكل ذراعها المعرفي والفكري وتؤطر إيديولوجيتها، وترفدها بالمادة الرصينة والمكتملة والمبنية على الأدلة. لكي لا يكون الطرح الإعلامي اجتهادا عابرا وغير متمأسس.

إلى جانب ذلك يجب اليوم إعادة تصور «الثنائيات» بصورة مختلفة؛ وأولها التنافر بين ثنائية الإعلام التقليدي والإعلام الجديد. يمتلك الممارسون في الإعلام التقليدي (الانتشار المخطط والخبرة والرؤية الشمولية) في صنع الرسالة الإعلامية في مقابل (الفورية والتفاعلية وسعة الانتشار) التي يمتلكها الممارسون في الإعلام الجديد، وكل هذه الممكنات مكملة لبعضها البعض ولا يمكن التفكير في تنافسها أو عزلتها عن بعضها البعض. إلى جانب ذلك فإن السردية الخاصة بنا تتطلب جهدًا موسعًا لإدماج قطاع من الشباب في عمل المؤسسات الدولية، وفي التأثير على الطرق التي يصنع من خلالها القرار الدولي في مراحل (صياغته) الأولى، وفي الحضور الفاعل والمخطط لمتحدثين متخصصين في وسائل الإعلام الدولية، وفي مختلف الحوارات العالمية . وفي الانتقال من دور متلقي الأجندة الدولية إلى سدة صناعها. تحتاج المنطقة العربية لإثراء كل ذلك إذن إلى المزيد من تعزيز العمل العربي الجاد والمشترك، والذي يفضي إلى إنتاج أدوات مبتكرة للتأثير الإقليمي والدولي، ويدمج مرئيات الشباب (غير التقليدية) في خلق واقع جديدة يحمل سرديتها ويعزز مواقفها ويحمي مصالحها.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان