تعرفتُ على الصحفيين والكاتبين الفلسطينيين ميساء منصور وكريم أبو الروس عام 2019. سرعان ما توطدت علاقتنا حتى أنني شهدتُ لقاءهما الأول قبل أن يتزوجا بعدها بمدة قصيرة. تابعتُ مثل الآلاف على صفحتهما على الفيس بوك علاقتهما وتحدياتها. كريم أبو الروس شاب في الثامنة والعشرين من عمره من غزة، فيما ميساء قادمة من مجد الكروم داخل دولة الاحتلال، وهي من عرب ٤٨ كما يطلقُ عليهم. سرعان ما أثارت علاقتهما اهتمام وسائل الإعلام، وصفوها برابطة الفلسطينيين رغم الاحتلال والحصار.

أول ما تميزه في ميساء وكريم، لهجة ميساء الفلاحية على الرغم من أنها تعيش للدراسة والعمل في «تل أبيب» بينما تبدو لهجة كريم أكثر تمدنًا، يشرحون لي السياق، يقولون لي إن غزة ملتقى للاجئين والمهجرين من مناطق وأماكن مترامية في فلسطين، بالإضافة لسكان غزة ممن كانوا يعيشون فيها قبل النكبة، سمح ذلك بتداخل اللهجات وتغيرها مع مرور الوقت، فيما عرب الداخل المحتل معزولون عن بقية الوطن، ولا يوجد تمايز واضح في لهجاتهم، لذلك يحتفظون بهذه الرنة المميزة في لهجة ميساء. ميساء تتقن اللغة العبرية، وهي مثل آخرين يحاولون ضبط إيقاعهم؛ حتى لا يتم تمييزهم في المواصلات العامة مثلًا بأنهم عرب وإلا لكان احتمال تعرضّهم للأذى على مستويات عديدة لا يضاهى.

انتصر الحب، وتزوج كلٌ من ميساء وكريم في إسطنبول، بمعجزة صغيرة تحقق من خلالها حضور والدي كريم لحفل زفافهما، وأقول معجزة؛ لأن الخروج من غزة والسفر منها إلى أي مكان معجزة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، في ظل حصار خانق، وتكاليف سفر باهظة تفرضها وكالات غير شرعية لمن يريدون الحصول على الموافقة الأمنية للسفر إلى وجهتهم.

لم يكن لدى ميساء أية مشكلة مع حملها للجواز «الإسرائيلي» مثل عموم عرب ٤٨ في الإقامة في إسطنبول أو في أماكن أخرى في العالم تستطيع دخولها ببساطة دون الحاجة لـ«فيزا» بسبب امتياز الجنسية. لكن «كريم» لا يستطيع أن يذهب إلى أي مكان. تعوّد الغزيّون على الذهاب إلى تركيا، والإقامة فيها، حتى أنهم أطلقوا عليها «إسطنبول خيمتنا» ومن السهل بمكان في أي بقعة حللتَ فيه في إسطنبول تحديداً أن تجد تجمعات لشباب من غزة في أماكن وسياقات عديدة. لكن وبعد الأزمات الأخيرة التي عصفت بتركيا، وموجة العنف والعنصرية ضد العرب فيها تغيّر كل شيء، حتى أن أحد مرشحيها في سباق الانتخابات الأخير، لم يكن في برنامجه الانتخابي أكثر من وعود بطرد السوريين والعرب من بلادهم وكاد أن يفوز بالانتخابات فعلاً. لم تستمر السلطات التركية بمنح الإقامة للفلسطينيين فيها. أصبح كريم مهددًا بفقدان الإقامة في المكان الوحيد الذي يستطيع أن يكون فيه عدا غزة.

عودة كريم لغزة، تعني عدم القدرة على لقاء ميساء أبدًا، وميساء بدورها تتحدث عن سياسات لمّ الشمل في دولة الاحتلال وكيف أنها وبطبيعة الحال تستثني الغزيّ وبتطرف من أية فرصة لكي يكون بجانب زوجته وعائلته من فلسطيني ٤٨. عاد كريم إلى غزة، ميساء مرت بحالة من الذعر عليه خلال رحلته، خصوصاً وأنه يختلف أيدلوجيًّا مع حماس. ثم خافت عليه من الحروب المستمرة التي لا تنقطع من قبل دولة الاحتلال.

ضحّت ميساء بعملها المستقر وحياتها التي يعتبرها الغزي رغم ما فيها من تحديات خاصة، حياة مرفّهة، لا يستطيع حتى أن يتخيل الحصول على امتيازاتها. نبهني حضور ميساء في حياتي لعدم تواصلنا كعرب مع الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة، وعدم معرفتنا بهم. حتى أن ميساء واجهت مواقف من قبيل اعتبارها واحدة من «دولة الاحتلال» وهي تحاول أن تقول لستُ كذلك، أنا عربية ومسلمة وفلسطينية، ولا يتم تعريفي إلا بذلك أصلا رغم امتلاكي للجنسية. نقلت لي ميساء العنف الممنهج الممارس على العرب في الداخل، من سياسات للإفقار، وصولاً لتوفير الاحتلال للمخدرات والأسلحة الأمر الذي يقضي به عرب الداخل نحبهم على نحو لا نستطيع تخيله. في ثلاثة أشهر فقط قُتل ٢٠٠ عربي في الداخل المحتل. وبطبيعة الحال، يتعرض هؤلاء للتمييز في كل شيء، وتمتلئ بهم السجون الإسرائيلية لأي سبب بسيط قد لا نتخيله.

فقد كريم أخته الصغيرة والمريضة بالسرطان، التي لم تتمكن من السفر عبر المعبر لعدم حصولهم على الموافقة الأمنية آنذاك، فلم تحصل على العلاج. مازال كريم يعاني من أثر هذه التجربة، وهي كبيرة إزاء تجارب من نوع حرب 2014 عندما كان كريم في عامه الدراسي الأخير، أو ما يطلق عليه في فلسطين «التوجيهي» ونسميه الصف ١٢، عندما كان يتمشى ويجمع -حرفيا- الجثث من الطريق مع شباب آخرين. وحتى مع حصول كريم على منحة دراسية لمواصلة دراسة الماجستير في العلوم السياسية في إحدى جامعات بيروت، وفي الوقت الذي ظن فيه بأنه بعيد لأول مرة، وربما لفترة قصيرة عن تجربة الرعب اليومية في غزة، جاء انفجار مرفأ بيروت في أغسطس ٢٠٢٠؛ ليمثل تجربة ظننا أنها قاصمة في حياة كريم، إذ نقل مع الجرحى ومن ماتوا إلى أحد المستشفيات يومها لقربه من المرفأ، وتبيّن لكريم، ألا حياة آمنة للغزيّ في أي مكان يحل فيه.

عندما أقول بأننا «ظننا» بأنها التجربة التي جاءت لتكمل سلسلة من المعاناة التي عاشها كريم كأي شاب غزي آخر، لم نكن نعرف أن أخت كريم الكبرى وأطفالها جميعًا وزوجها وكل عائلة زوجها سيقتلون الأسبوع الماضي في غزة، في إبادة كاملة لعائلة لم يعد لها وجود في السجل المدني. كانت أخته هذه مقربة جدًا من كريم وميساء، وبنتاها إيلين وسيلين اللتان لا تتجاوزان الخامسة، على علاقة وطيدة بخالهما الذي يحاول الآن وبعد معركة طويلة خاضتها ميساء الحصول على اللجوء في بلجيكا، لذا لم يكن هناك من موقف أصعب؛ لوداعه الطفلتين الأقرب إلى روحه في هذا العالم، أما والدة كريم ومن هول الصدمة، فقد فقدت ذاكرتها منذ يوم الكارثة حتى لحظتنا هذه.

كريم كتب على صفحته على الفيس بوك «إسرائيل قتلت قلبي» أما ميساء فتمسكت بطفلهما غسان الذي يبلغ من العمر ثلاثة أشهر فقط، والذي لا يعرف والده، ولا يعرفه والده إلا عبر مكالمات الفيديو الحزينة التي تدمي القلب.

على عكس ما عبّر عنه كريم في إصداره الروائي الأول والذي جاء بعنوان «غريق لا يحاول النجاة» الصادرة عام 2018 ينجو كريم وشعبه كل يوم آلاف المرات، ينجون رغمًا عنهم، ورغمًا عن كل هذا الموت، عندما يقولون إزاء هذا كله، ورغم مواقفهم السياسية المختلفة إلا أنها تصطف معًا في لحظات الوطن الكبيرة، يقول كريم وكل غزيّ: «فِدا فلسطين».